دعهم يصرخون

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٠٤ - أبريل - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

نص السؤال
فى البداية أنا مسلم واصلى وكل حاجة ولكن هناك ما يضايقنى وأقوله لك وأعرف أنك لن تثور على ّ .. أرى اننا أصبحنا ظاهرة صوتية، نعبر عن افكارنا بالصراخ ، وتحولت مناقشاتنا الى فواصل من الموسيقى المزعجة ، وامتد الصراخ والفحيح من الفكر والغناء الى الدين والدعوة اليه ، وان شئت الدليل ففى ميدان العتبة بالقاهرة، ستجد نفسك رهينة لحملة مركزة من الصراخ ، مزيج من صراخ الاغانى وصراخ الخطباء الأئمة ، تطلقها مدافع ودبابات صوتية ، تحاصرك اينما توجهت ، ولن تفلت منها إلا وأنت مصاب بالصداع وربما تهتك الاذن الوسطى ، واذا كان بعض العقلاء يهاجمون الاصوات الجديدة فى الغناء ويهاجمون تشنجات بعض الساسة والمثقفين فلماذا تسكت على هذا الضجيج الدينى الذى يخرج من المساجد و أجهزة التسجيل وفيه الترهيب والوعيد ؟ هل الدعوة الى الاسلام تستلزم إيقاظ النائمين لصلاة الفجر قبل موعده بساعة؟ وماذا اذا لم يكن من المصلين .؟ واذا كان مريضا ؟ أو طالبا يريد الراحة بعد مذاكرة الى منتصف الليل ؟ وماذا اذا كان قبطيا ؟ ثم إذا ركبت اتوبيس او تاكسى او ميكروباس .. لماذا يفرض علىّ السائق أن أسمع للشيخ فلان أو علان ؟ قل لنا رأيك ايها العالم
آحمد صبحي منصور
ما تقوله ينطبق على تنافس أصحاب الديانات الأرضية من المسلمين. تلك الديانات الأرضية تقوم على اساس الاحتراف الدينى و التدين المظهرى السطحى. وفى هذا السوق يتبارى الجميع من منتجين ومستهلكين، لذا يتشعب نجوم المتحدثين فى الدين السنى و الصوفي كما يتنوع المغنون و المنشدون بل وينافسون المطربين و المطربات، سوق ضخمة يشتهر فيها الشعراوى ثم جيل عمرو خالد ، ثم سيظهر بعده جيل آخر. كل منهم لا يتحدث فى اصلاح المسلمين ـ لأن المسلمين عال العال، لذلك يركزون على أن يغنوا للجمهور بما يحب ان يسمع لذا ينالون الشهرة و المحبة و الثراء عكس المصلح الذى يضع اصبعه على المرض فيصرخ المريض و يلعنه.
لذا فى البداية لا بد من أن تبعد الاسلام عن تلك المنافسة الصوتية المزعجة لأنها تناقض الاسلام بقدر ما تعبر عن الأديان الأرضية للمسلمين ، ومنها فى مصر السنة و التصوف و التصوف السنى. وفى غير مصر تجد الشيعة بمواكبهم واغنياتهم و مسرحياتهم واقاصيصهم يعبرون عن دينهم الأرضى. ويتفق الجميع فى أن الأعلى صوتا هو الأكثر خشوعا و شهرة ونجاحا.
ليس فى الاسلام مجال للصراخ بأى حال ، وذلك ما ينبغى أن يفهمه أولئك الأشياخ الذين لا يجيدون إلا الصراخ والعويل والتهديد والوعيد، ويطلون علينا من أشرطة التسجيل والميكروفونات ويحاصروننا فى البيوت والمساجد ووسائل المواصلات .. ندعوهم لعقد هدنة معنا ، وأن يأخذوا إجازة من الصراخ والعويل ليفهموا أن الإسلام على حقيقته ينكر عليهم هذا الازعاج وليس فى حاجة إليه ...
إن جوهر الدعوة للإسلام هى الحكمة والموعظة الحسنة ، ولا يمكن أن تلتقى الحكمة والموعظة الحسنة بذلك الصراخ والتهديد والوعيد .. والذى يدعو أخاه للتقوى والطاعة لايطلق عليه لسانه كصراخ مدفع رشاش وانما يخاطبه فى رفق وحب وهدوء متمثلا قوله تعالى لنا (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ) 57/16) . فذلك الاسلوب المترفق الحانى الهادىء هو الذى يخشع به قلب القائل والسامع أيضا .. وهو الذى يعطى الفرصة كاملة للعقل لأن يفكر وللقلب كى يعتبر ويهتدى .
وعبادات الاسلام لامجال فيها للصوت العالى ، فالصلاة ينطق بها المسلم بصوت خفيض يخاطب بها ربه جل وعلا وهو السميع العليم ، والله تعالى ينهى عن الجهر بالصلاة ويقول : (وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ) (17/110) . ومع ذلك فالميكروفونات تقتحم الجدران تسلطها المساجد والزاويات فى الاتجاهات الأربعة ، تعلن مخالفة كتاب الله تعالى فى عدم الجهر بالصلاة . فالصلاة علاقة خاصة بين العبد وربه، ولكنهم يعلنوها على الناس ويغضبون بذلك رب الناس .
والله تعالى يأمر بأن يكون المسلم ذاكرا لربه فى سره بصوت خفيض ويقول: (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ) ( 7 ـ 05 2 )ويأمر بأن يكون الدعاء لله فى صوت خافت خاشع:( ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ) ( 7-55-56) ولكنهم حولوا ذكر الله تعالى الى رقص وغناء ومسرحيات يعبرون بها عن دينهم الأرضى و ليس عن الاسلام ..
لقد كان الصراخ إحدى وسائل قريش فى التشويش على القرآن حين يتلى حتى لا تتسرب دعوته الهادئة للقلوب والعقول . والله تعالى يحكى تآمرهم فى هذا الشأن : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ( 41/ 26 .) وكانوا يعقدون مجالس صاخبة يسمرون فيها صارخين بالهجاء للقرآن" قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ :23- 66 67 ). ونزل القرآن الكريم يعلم المسلمين الصوت الهادىء فى الحديث: (وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ) ( 31-19 ) وبعض الاعراب حديثى العهد بالإسلام كانوا يتكلمون مع النبى بصوت عال فقال الله سبحانه وتعالى لهم ليعلمنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ) ( 49-2 )
ان الجهر مذموم خصوصا اذا حمل السوء من القول ، والحالة الوحيدة التى يغفرها الله تعالى فى ذلك الصراخ هو المظلوم حين يصرخ بالسوء من القول: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ ) (4- 148) .. والمؤسف أن ذلك الصراخ الذى يطاردنا فيه الكثير من اللغو فى الدين وفيه الكثير من الأقاويل التى لم يعرفها الرسول عليه السلام .. وكأنما أعوزتهم الحجة فلجأوا للصراخ والعويل والتهديد والوعيد وأخشى أن يكون ممن ينطبق عليهم قوله تعالى لإبليس :( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ )( 17-64 ) فذلك الاستفزاز الصوتى مرجعه لكيد الشيطان طالما ينهى عنه القرآن .
والحقيقة ان إبليس يختفى خلف كثير من العمائم والذقون ..
ولذلك فهم يصرخون .. فلندعهم يصرخون ..




اجمالي القراءات 14005