فهم النصوص القرآنية في الفكر الإسلامي من بدايته إلى نصر حامد أبو زيد
التأويل

في الإثنين ١٤ - أبريل - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أعزائي القراء الباحثين عن نور الحق، هلموا لنتصفح معا هذا المقال للدكتور أحمد صبحي في ( التأويل)، لنستفيد ونفيد ونتعلم من القرآن العظيم الذي هو أحسن الحديث كتابا، ثم ليختار كل منا مصير حياته الأبدية كيف سيكون، إما نعيم مقيم، وإما عذاب أليم. وأرجو تقديم تعليقاتكم وآرائكم حول الموضوع بكل حرية، ملتزمين بأدب الحوار وشروط النشر في الموقع.

د. أحمد صبحى منصور

التأويل
فهم النصوص القرآنية في الفكر الإسلامي من بدايته إلى نصر حامد أبو زيد


أولا: معنى التأويل وموقعه بين الإسلام والمسلمين
ثانيا: التأويل بين الشيعة والصوفية .
ثالثا : التأويل بين المعتزلة وأهل السنة
رابعا: التأويل في الفقه السني
خامسا: التأويل المعاصر بين السلفية ونصر حامد أبو زيد


برزت قضية التأويل في الفكر الإسلامي في المجتمع الثقافي المعاصر اثر تسلل قضية الدكتور نصر حامد أبو زيد من أروقة الجامعة إلى الشارع السياسي والثقافي ، ثم أصبح التأويل قضية ثقافية عامة بعد تحول قضية حامد أبو زيد إلى قضية شأن عام داخل مصر وخارجها ، وكان طبيعيا أن يتساءل الكثيرون عن معنى التأويل أو معنى فهم النص ، والعلاقة بين التأويل والإسلام والمسلمين ، وتاريخ التأويل لدى المسلمين والفرق الإسلامية .
وكان ذلك دافعا لكتابة هذه الورقة البحثية السريعة ، حتى أضع النقاط على الحروف في قضية علمية تراثية وهى التأويل ـ وقد شاءت الظروف السياسية أن تتحول إلى شأن عام يختلف بصدده السياسيون والمثقفون وغير المتخصصين .وقد قدمتها في أوج المعركة بين الدكتور نصر حامد أبوزيد وخصومه السلفيين في التسعينيات في ندوة في جمعية النداء الجديد التي أنشاها الدكتورسعيد النجار- رحمه الله تعالى - لنشر الفكر الليبرالي في مصر. ونشرت الجمعية ملخصا لهذه الورقة البحثية. ثم تم نشرها بالكامل في المجلة الفصلية:" الإنسان والتطور" التي يديرها ويملكها الدكتور يحيى الرخاوى.ومذ أسابيع تناولتها بالإضافة والتنقيح لأضع كل النقاط على كل الحروف محترما حرية الآخرين في الاختلاف معي ومتسامحا مع الماعز التي لا تجيد إلا القفز والنطاح.
والله تعالى المستعان.
أحمد صبحي منصور:يناير 2005

أولا:- معنى التأويل وموقعه بين الإسلام والمسلمين

أ – معنى التأويل في القرآن :

1 – كالعادة تواجهنا مشكلة المصطلحات ، وهى المشكلة الأساسية للمسلمين والفكر الإسلامي ، فللقرآن الكريم مصطلحاته ، وللتراث مصطلحاته . ومن الظلم للقرآن أن نفهمه بغير مصطلحاته أو أن نفهمه بمصطلحات التراث ، والتأويل هو المسئول عن هذه المشكلة ، وهذا ما توضحه هذه الدراسة.
والطريف أن مصطلح التأويل نفسه له مفهوم في القرآن يخالف المفهوم الواقعي الذي سار عليه الفكر البشري للمسلمين.
2 - فالتأويل في المصطلحات القرآنية والسياق القرآني يعنى التحقيق والتجسيد .
ونعطى لذلك أمثلة قرآنية :
فالنبي يوسف عليه السلام رأى في المنام أن احد عشر كوكبا والشمس والقمر يخرون له ساجدين . وهذا الحلم تحقق فيما بعد في هذه القصة حين أصبح عزيز مصر وجاءه أبواه وإخوته الأحد عشر وخروا له سجدا ، وحينئذ تذكر يوسف الحلم القديم ، يقول تعالى في سورة يوسف (وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا: يوسف 100)أي أن تأويل رؤيا يوسف هو تحقيقها عمليا وتجسيدها فعليا في الدنيا أمام عيني يوسف حين جعل الله تعالى رؤيا يوسف حقا.
وكان من معجزات يوسف قدرته على التأويل بالمفهوم القرآني ، أي قدرته على الإخبار بالمعنى الحقيقي للأحلام وكيف ستتحقق عمليا على ارض الواقع . ولان هذه المعجزة تقع في نطاق العلم ببعض الغيب الذي اختص به الله تعالى هذا النبي العظيم فقد تكرر في سورة يوسف مدحه بتلك الخصوصية (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ) : يوسف 21، 101 }. ولان التأويل بهذا المعنى يقع ضمن الغيب الذي أعطى الله تعالى العلم به لبعض الأنبياء وليس لهم جميعا ، فان ملك مصر حين رأى الحلم المشهور عن السبع بقرات السمان والسبع سنابل وسأل الملأ والحاشية فأنهم عجزوا عن التفسير الحقيقي للحلم ، يقول تعالى (قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ) : يوسف 44 }.فان التأويل هنا جاء من عند يوسف إخبارا بالمستقبل , وتحقق التأويل وتجسد واقعا حيا بالفعل . ونفس الحكاية في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبيه في السجن وقد رأى كلا منهما رؤية مختلفة ، وقام يوسف بتأويلها أو تفسيرها تفسيرا تحقق فيما بعد وتجسد واقعا حيا . وحرص يوسف عليه السلام قبل أن يخبرهما بالتأويل أن يقول لهما (قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي: يوسف 37 ) .
إذن فالتأويل هنا هو علم بالغيب وإخبار بالمستقبل المجهول ، وهو يخبر بما سيتجسد عمليا وواقعيا ولا يكون إلا لبعض الأنبياء لأن الله تعالى يقول (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا, إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ: الجن 27/26)، (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء) ال عمران 179}.
وخاتم النبيين ـ عليه وعليهم السلام ـ لم يكن يعلم الغيب ، و قد أكد القرآن على ذلك في أكثر من عشرين آية قرآنية , وتراهم قد افتروا عليه بعد موته بالكثير من الخرافات التي تقتحم غيب الله جل و علا. ذلك أن الحديث في الغيب خارج النصوص القرآنية ليس إلا وقوعا في الخرافة حين يتكلم من لا يعلم الغيب فيما لا يدرك ولا يعقل.
3 – وما سبق كان عن التأويل في غيوب الدنيا المستقبلية وشهدنا أمثلة منها في قصة يوسف . وبقى أن نتحدث عن التأويل في غيب الآخرة وما سيحدث فيها من بعث وثواب وعقاب. إن من الطبيعي أن ما سيحدث حينئذ سيكون مختلفا عن إدراكات البشر لأن إدراك البشر مستمد من خبراتهم في تلك الحياة الدنيا, وحتى خيال البشر لا يستطيع أن يتحرر من اسر العالم المادي المدرك بالحواس والمسيطر عليها. وعالم الميتافيزيقا ـ أو البرزخ والعالم الآخرـ لا يعرف الإنسان بعض حقائقه إلا بما جاء عنها في القرآن الحكيم وحده , لذا كان الإيمان بالغيب محصورا بما جاء في الكتاب الذي لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.." البقرة 2 ,3". و المؤمن الحق هو الذي يؤمن بالقرآن وحده حديثا " الأعراف 185, المرسلات 50 الجاثية 6". وبالتالي يؤمن أن محمدا خاتم النبيين ـ عليهم جميعا السلام ـ لا يعلم الغيب و ليس له أن يتحدث فيه : " قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا . عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ . " الجن25 ـ26ـ 27". وعليه فإذا كان الغيب خارج النصوص القرآنية مجهولا بالنسبة لنا وليس لأحد أن يتحدث فيه حتى خاتم النبيين فانه من واجب المسلم الحريص على دينه وعقيدته ومستقبله يوم الدين أن يبرئ النبي محمدا من تلك الأكاذيب وأن يدفع عنه تلك الأباطيل التي الصقها به أعداؤه بعد قرون من موته عليه السلام." اقرأ : الأنعام112 إلى 117"الفرقان 30 ،31 ".
إن الحديث في الغيب غير المذكور في القرآن إنما هو حديث بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . انه حديث الدجل والخرافات التي سرعان ما تصبح مقدسة ومرهوبة الجانب طالما رواها وأسندها الأفاقون إلى الله تعالى أو إلى رسله الأكرمين , حيث تصبح بمرور الزمن وغيبة النقد العلمي جزءا من الدين , بل يتم التضحية بحقائق الدين دفاعا عن تلك الخرافات ويتم التعمية على الحق القرآني بدعاوى شتى ومصطلحات متنوعة منها التأويل بالمفهوم التراثي المخالف للتأويل بمعناه القرآني.
وكتب الأحاديث و السنن مليئة بخرافات غيبية يضحك منها الحزين .
نعود إلى غيب الآخرة وهو ما لا تستطيع لغة البشر أن تصفه كما هو على الحقيقة ، وهذا يشكل مشكلة في الحديث عنه ، وقد تغلب القرآن الكريم على هذه المشكلة وهو يخاطب البشر بأن اعتمد على الأسلوب المجازى ليقرب الصورة للعقل البشرى وفق مدركاته القاصرة ، ووصف هذا الأسلوب بأنه( المتشابهات ) والتشابه يعنى وجود بعض الاتفاقات والاختلافات لكن مع تقريب التصور العام للعقل البشرى, أو هو الإدراك المبهم لما يستحيل للعقل البشري أن يخضعه للبحث والتجريب. لذلك فالسياق اللغوي القرآني في الحديث عن الآخرة وأحوالها يقع ضمن المتشابهات لأنه غيب لم ندركه بعد وان كنا نستطيع التخيل والتفكير فيه .
وعموما فان الخطاب القرآني يتنوع بين آيات محكمة واضحة الدلالة بأسلوب علمي تقريري قاطع ، ويأتي هذا خصوصا في آيات التشريع . ثم هناك الأسلوب الأدبي التصويري والمجازى, خصوصا الذي يصف لنا الغيوب التي لم نشهدها بعد وهى تخرج عن نطاق خبراتنا ومدركاتنا الحسية ، وهى الآيات المتشابهة .
وهذه الآيات المتشابهة في الحديث عن أحوال الآخرة سنرى تحقيقها عمليا وتجسيدها واقعيا في يوم القيامة حين نتحول إلى خلق آخر في عالم آخر وبإمكانات تناسب ذلك العالم الآخر. انه اليوم الذي نترك فيه هذا الجسد البشري الفاني وحواسه التي تحجب عنا رؤية الآء الله تعالى حتى في هذا العالم المادي فكيف بما سنراه عند الموت وعند البعث وعند الحساب. يقول ربي جل وعلا في ذلك " لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ."ق 22"" اقرأ الآيات السابقة و اللاحقة لها أكرمك الله تعالى.
ولكن حتى يأتي هذا اليوم فان الذي يعلم تأويلها أو كيفية وقوعها هو الله عز وجل وحده ، والذين يؤمنون بالله تعالى وكتبه يؤمنون بكل ما جاء في القرآن الكريم من آيات محكمة ومتشابهة لأنها كلها من عند ربنا .
وذلك الذي قلناه هو المقصود بقوله تعالى (هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا: آل عمران 7)
وإذن فتأويل الآيات المتشابهة الخاصة باليوم الأخر مثلا لا يعلمه إلا الله تعالى علاًم الغيوب لأنه وحده هو الذي يعلم من الآن كيف ستتحقق واقعا حيا يوم الدين . ومن الطبيعي أن يتحرق بعض البشر لهفة لمعرفة ما سيحدث فعلا يوم القيامة ، أو التجسيد الواقعي لآيات القرآن الكريم عن الآخرة ، أو بمعنى آخر يتوقون لمعرفة تأويل أو تحقيق ما سيحدث في القيامة . ولكنهم لن يروا ذلك ولن يشهدوا ذلك التأويل أو التحقق إلا يوم القيامة ذاته ,وسيكون ذلك مفاجأة قوية وقاسية لهم , يقول تعالى في ذلك:
(هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ : الأعراف 53) أي أن كل الافتراءات التي نسبوها ظلما وعدوانا لله تعالى ورسوله ستنتهي إلى ضلال وسيدفعون ثمنه.
وهكذا فالتأويل في مفهوم القرآن ومصطلحاته هو التحقق والتجسد خصوصا فى غيب المستقبل الدنيوي وغيوب الآخرة .
ويشمل التأويل أيضا التطبيق البشرى للتشريعات الإلهية حين يكون هذا التطبيق البشرى للشرع كاملا ومتقنا ، يقول تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا: النساء 59 ) وأحسن تأويلا تعنى أحسن تطبيقا وتجسيدا للأوامر الإلهية .

ان الله تعالى يقسم على أن " إنما توعدون لصادق . وإن الدين لواقع ." الذاريات . 5 ,6.".
ودين الله تعالى له جانبان : إيمان قلبي بالغيوب التي لا نراها وإنما حكى عنها القرآن وتشمل الإيمان بالله تعالى وحده لا إله إلا هو, وملائكته وكتبه ورسله , لا نفرق بين أحد من رسله , والإيمان باليوم الآخر الحقيقي الذي جاء في القرآن ـ وليس الذي افتراه أعداء الله تعالى ـ والذي يقوم على العدل المطلق والنعيم المطلق للفائزين أو العذاب المطلق للخاسرين. الجانب الآخر من دين الله تعالى هو التكاليف الشرعية من عبادات وعمل للصالحات يقوم بها المخلصون لربهم ابتغاء مرضاته جل وعلا دون تقديس لبشر أو حجر, ويضل عنها المتدينون تدينا فاسدا يجعلهم يقدسون مع الله تعالى البشر والحجر, كما يضل عنها المنكرون لها والمتهاونون بها و اللاهون عنها, و الله تعالى يقسم بأن وعده بالجنة صادق للمتقين ووعده بالنار صادق أيضا للكافرين المعتدين." إنما توعدون لصادق" وسيتحقق كل ذلك واقعا يوم القيامة أو يوم الدين " وان الدين لواقع .".وهذا التحقق للدين الحق هو التأويل طبقا لمصطلحات القرآن الحكيم. فالتأويل في القرآن هو التحقق والتجسد والتطبيق.
أما في تراث المسلمين فهو شيء آخر وشأن آخر.

(ب) التأويل في التراث

1- تحدث رب العزة عن أولئك الذين في قلوبهم زيغ الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله .
والفتنة في مفهوم القرآن الكريم حين تتعلق بتعامل رب العزة مع البشر فإنها تعني الاختبار." وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً. الأنبياء 35". والفتنة في تعامل البشر مع بعضهم البعض تعنى الإكراه في الدين والقمع الفكري والاضطهاد للمخالفين في الرأي والعقيدة ، أقرأ في ذلك قوله تعالى عن المشركين المعتدين وضحاياهم المؤمنين: ".. والفتنة أكبر من القتل , وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا" البقرة. ." "217" ." ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ" .النحل "110". ولهذا كان المقصد التشريعي من الجهاد في الإسلام هو منع الفتنة في الدين أي منع الاضطهاد الفكري والعقيد ليكون الدين علاقة خاصة وخالصة بين الله تعالى والبشر وليكون للبشر تمام الحرية في الاختيار لتتحقق مسئوليتهم الكاملة عن هذا الاختيار الديني يوم الدين أو يوم القيامة. أو بالتعبير القرآني :" وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ: الأنفال 39".
وقد عرفنا أن التأويل يعنى التحقيق والتطبيق ، والمعنى المقصود إن الذين في قلوبهم زيغ يقيمون لأنفسهم مفاهيم مختلفة على أساس ذلك الزيغ ويتلاعبون بالآيات بقصد إكراه الآخرين في الدين وتطبيق ذلك الإكراه عمليا انطلاقا من مفاهيم اخترعوها وجعلوا لها قدسية . وذلك باختصار مجمل التاريخ الفكري للمسلمين في العصور الوسطى ، زيغ عن القرآن الكريم ، وقمع للفكر المخالف ، والتفصيل لذلك يحتاج إلى مجلد ضخما ، ولكن سنعطى فكرة سريعة موجزة :-

2- فالمفهوم الواقعي للتأويل عند المسلمين هو محاولة تطويع النصوص القرآنية للغرض والهوى سواء كانت تلك النصوص متعلقة بالتشريعات أو بالغيبيات الخاصة باليوم الآخر وصفات الله تعالى المقدسة والمخلوقات التي لا نراها كالملائكة والجن والشياطين . وحين تصل إحدى الفرق الفكرية إلى مجال النفوذ السياسي فإنها لا تتورع عن اضطهاد مخالفيها في الرأي وإقامة محاكم تفتيش لهم . حدث ذلك في الفترات التي سيطر فيها أهل السنة والشيعة والصوفية والمعتزلة وحتى الخوارج .
وقد بدأ الخلاف بين المسلمين مبكرا وتركز حول الخلافة والحكم ، وبدأ الانقسام سياسيا بين المسلمين منذ بيعة السقيفة وخلافة أبو بكر ، ثم تحول الخلاف السياسي إلى أحزاب سياسية وحرب أهلية ، ثم تحولت الأحزاب السياسية إلى تدعيم آرائها بالدين ، ولأن القرآن يخالف ذلك الواقع الدامي فقد احتاجوا جميعا إلى تطويع النصوص القرآنية لكي تخدم أغراضهم السياسية ، وذلك هو المعنى الواقعي للتأويل ، ولم يكتفوا بتأويل أو تطويع النصوص القرآنية فاستحدثوا نصوصا أخرى نسبوها بإسناد مزيف إلى النبي أو لآل بيته أو للصحابة ، كي يجعلوا لفكرهم الديني والسياسي مرجعية مقدسة . وبهذا اختلط الدين المقدس بالفكر البشرى غير المعصوم ، وضاعت الحواجز بين الدين الإلهي المعصوم وبين الفكر البشرى الذي يحركه الهوى والمصلحة والطموحات السياسية والاجتماعية.
وهذا ما نعانى منه في عصرنا الحديث حيث يسيطر الفكر السلفي الحنبلي متقمصا دين الإسلام ، وقد كان في العصور الوسطى أشد أنواع الفكر جمودا وتخلفا وتعصبا ودموية فبعثته الوهابية من مرقده ليمثل الإسلام في عصرنا الراهن ـ عصر الديمقراطية وحقوق الإنسان. وحين جعلته ممثلا للإسلام نفسه أصبح الاختلاف معه نوعا من الخروج عن الدين ، مع أنه ليس إلا مجرد فكر بشرى يعبر عن أصحابه وليس عن دين الله تعالى . وهناك أفكار أخرى لمسلمين آخرين كانت أكثر حيوية وتطورا وأرقى عقلية ، ولكنه النفوذ السياسي الذي يجعل نوعا من الفكر يسود ويقمع الأفكار الأخرى ويحاول إجبار الآخرين على اقتناع ذلك الفكر على أساس أنه الإسلام . وذلك ما أجملته الآية السابعة من سورة آل عمران عن الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة – والفتنة تعنى الاضطهاد والقمع فى لغة القرآن الحكيم – وابتغاء تأويله –والتأويل يعنى التطبيق .
وتطبيق الفكر السلفي نراه مسطرا بدماء الضحايا في عصرنا من مصر إلى الجزائر وأفغانستان وما بين هذا وذاك. وهو في نهاية الأمر استرجاع لما ساد في العصور الوسطى ، عصر التعصب والتطرف.
وندخل بذلك على نماذج التأويل لدى أشهر الفرق الإسلامية .

ثانيا : التأويل بين الشيعة والصوفية

1- الشيعة هم أقدم الفرق الإسلامية ، ويرجع استمرارها في الوجود حتى الآن إلى عاملين الأول: أنهم نجحوا في تحويل فكرهم الديني إلى دين كامل عن طريق التأويل أو تطويع النصوص ، وهم أشهر القائلين بالتأويل بالمصطلح التراثي ، ولهم في التأويل مناهج وفلسفات . الثاني : أنهم تعرضوا لكثير من الاضطهاد وعاشوا كثيرا في خندق المقاومة . والتجربة الإنسانية تؤكد أن اضطهاد الفكر هو السبيل الوحيد لكي ينتشر ذلك الفكر ويسود طالما يواجه العنف بديلا عن النقاش . وقد كان للحكومات السنية في العصور الوسطى الفضل في نشر الفكر الشيعي وعقائده بسبب الاضطهاد الديني الذي أوقعوه بالشيعة ، وهو درس ينبغي أن يتعلم منه عصرنا الراهن . وقد خرج الشيعة من هذه التجربة التاريخية المريرة بشيئين ، إقامة بعض الدول الشيعية ، ثم التفنن في التقية وفى التأويل .
- ومع كل الاختلافات داخل الشيعة إلا أنهم يتفقون حول مبدأ أساسي، هو التولي والتبري . أي موالاة علي بن أبى طالب وذريته والتبرؤ من خصومه السياسيين ، كأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية وأم المؤمنين عائشة . ويختلفون في مقدار التولي والتبري فمنهم من يصل بموالاة علي إلى تقديسه وتأليهه , ومنهم من يصل بالبراءة من أبى بكر وعمر إلى درجة تكفيرهما. ولكن يظل الإجماع الشيعي قائما حول عصمة ( علي ) وذريته وأن تكون فيهم الإمامة بالنص والتعيين ، وان يكون ذلك جميعا جزءا من الدين الشيعي. ولكي يكون جزءا من الدين لجأوا إلى التأويل بمعنى تطويع النصوص القرآنية ثم اختراع أحاديث تخدم عقائدهم .
نعطى نماذج سريعة للتأويل الشيعي :

- فهم يرون أن قوله تعالى (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ : التوبة 119 ) مقصود به علي بن أبى طالب وذريته .مع أن كلمة الصادقين جاءت عامة ، وقد يرد عليهم السنة بقولهم :ما المانع أن تشمل أبا بكر وعمر ؟ وما المانع أن تشمل كل مشهور بالصدق إلى قيام الساعة؟.
على أن القرآن الكريم يفسر بعضه بعضا , فالآية الكريمة السابقة يفسرها قوله تعالى:" وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا: النساء 69.".
ليس في الإسلام اعتقاد في شخص وإنما هو الاعتقاد في الوحي الذي يصير به شخص ما نبيا من الأنبياء ويصير به ذلك النبي صادقا لأنه يحمل الصدق أو الوحي الإلهي الصادق. ونحن كمؤمنين نؤمن بذلك الصدق الذي جاء به أولئك الأنبياء الصادقون. وإذا نجح إيماننا في أن يجعلنا متقين طيلة حياتنا الدنيا فإننا يوم القيامة سنكون مع أولئك الصادقين, هذا معنى قوله تعالى " وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ: الزمر33." إذن قوله تعالى لنا " وكونوا مع الصادقين." يعنى أن نكون مع الأنبياء إيمانا بكل الكتب التي نزلت عليهم بدون تفرقة أو تفضيل بينهم , وبهذا الإيمان الخالص بالله تعالى إذا اقترن به عمل صالح وطاعة حقيقية كنت معهم يوم القيامة.
وهم يرون أن علي بن أبى طالب وزوجته وأبناءه هم المقصودون بقوله تعالى (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا: الاحزاب 33) وبسبب الدعاية الشيعية اعتقد كثيرون أن ذرية علي هم آل البيت ، مع أن الآيات تتحدث عن نساء النبي ، والمصطلح القرآني -آل البيت- يكون مقصودا به الزوجة سواء كانت زوجة ابراهيم (قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ : هود 73) أو كانت امرأة العزيز في مصر (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ: يوسف 23) والعجيب أن الآية التي حرف الشيعة معناها قاطعة الدلالة في أن المقصود بها نساء النبي يقول تعالى (يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنْ النِّسَاءِ) ثم يقول لهن (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)
والشيعة يرون أن عليا بن أبى طالب وزوجته هما المقصودان بقوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا: الإنسان 8) مع عمومية الآية لأن السياق قبلها يتحدث عن نعيم الأبرار في الجنة لأنهم كانوا يوفون بالنذر ويخشون يوم الحساب ويطعمون المحتاج من أحب أنواع الطعام لديهم . إذن هي آية عامة وتسري على كل من يتصف بهذه الصفات النبيلة.
والشيعة في تأويلاتهم يؤيدونها بقصص وأحاديث للتأكيد على عصمة علي والأئمة من ذريته ولكي يتحول في النهاية ذلك الفكر إلى دين ثم إلى دين ودولة ، وذلك ما حدث فعلا في الماضي والحاضر.

2ـ والتصوف هو الابن الشرعي أو غير الشرعي للتشيع .
ويتفق الصوفية مع الشيعة في تقديس علي وذريته وإن اختلفوا في بعض الشكليات ، فالشيعة يجعلونهم أئمة مقدسين ، والصوفية يجعلونهم أولياء معصومين ، إلا أن الاختلاف الأساسي بين الفريقين يكمن في أن الصوفية لا يلعنون بقية الكبار من الصحابة كما يفعل الشيعة ، كما أن الصوفية تخففوا من الطموح السياسي ومتاعبه ، واكتفوا بدولة الباطن الوهمية والخرافات المقدسة التي جعلوها حكرا عليهم ، وتمتعوا بتقديس العوام والنذور والموالد والولائم ، وبدأ التصوف منذ القرن الثالث ، ثم انتشر وازدهر وسيطر وتحكم خصوصا في العصرين المملوكي والعثماني ، وظل الأمر كذلك إلى أن جاءت الحركة السلفية الراهنة بالتدين الحنبلي المنافس اللدود للصوفية تحت اسم الوهابية فغلب على الساحة بريالات النفط ونفوذه .
وكالتشيع استطاع التصوف أن يحول الأفكار الدينية – المخالفة للإسلام – إلى دين يحمل لافتة الإسلام ، وذلك عن طريق التأويل وعن طريقة التلاحم العضوي بالطبقات الاجتماعية من خلال الطرق الصوفية ، وأخيرا عن طريق تسويغ الانحلال الخلقي وتشريعه في إطار التسامح الصوفي . وقد كان التصوف في العصر المملوكي ميدان بحثنا في رسالة الدكتوراه ، وهى أخطر رسالة علمية عرفتها جامعة الأزهر في تاريخها الطويل وعلمها الهزيل.
والتأويل الصوفي حرص على تجنب الصدام مع السلطان وأصحاب النفوذ لذلك كان يسير أحيانا مع الرمز ويحتج أحيانا( بالوجد ) أي تأجج عاطفة الصوفي بحيث تغلب مشاعره فينطق { بما يحسبه الناس} كفرا ، ، ولكنه عندهم معذور لأن ( الحال) قد غلبه فخرج عن السياق.
وتسرب إلي عقائد المسلمين من التأويل الصوفي أن الصوفية وحدهم هم المقصودون بقوله تعالى (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ: يونس 63/62) مع أن الآية الكريمة تصف أولياء الله بالإيمان والتقوى اللتين هما صفات عامة مطلوب من الناس جميعا التحلي بهما, وهما صفات عرضية تزيد وتنقص وليست صفات لازمة ، وهما صفات غيبية لا يعلم حقيقة الاتصاف بها إلا الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور . ومع ذلك نجح التأويل الصوفي في إقناعنا بأن الصوفية وحدهم هم أولياء الله ، ثم تطرف فجعل للأولياء الصوفية صفات الله تعالى من العلم بالغيب والتصريف في خلق الله والتحكم في الدنيا والآخرة عن طريق كراماتهم المزعومة.

واستلزمت الكرامات الصوفية تأويلا آخر انصب على فهم خاطئ لبعض القصص القرآني مثل قصة العبد الصالح مع موسى ، والذي يؤكد السياق القرآني أنه نبي حيث لا يعلم بعض الغيب إلا بعض الأنبياء وحيث لا يتلقى الوحي المباشر من الله تعالى إلا الأنبياء . وتلك ملامح النبوة في ذلك العبد الصالح في قصته مع موسى وتعليمه إياه . ولكن التأويل الصوفي جعل ذلك النبي الصالح شخصا صوفيا اسمه الخضر ، وأعلى مكانته فوق النبي موسى حيث كان يتعلم منه النبي موسى لتتأكد العقيدة الصوفية التي تقول أن الولي الصوفي أفضل من النبي , وفقا لمقالة شيخهم الأكبر ابن عربي :
مقام النبوة في برزخ فوق الرسول ودون الولي
ثم جاءت الأقاصيص الصوفية لتجعل للخضر حياة ألوهية خالدة متجددة ، ولتجعله على قمة المملكة الصوفية الكهنوتية ، من الأقطاب والإبدال والأوتاد وأصحاب النوبة غيرهم.

ثالثا: التأويل بين المعتزلة وأهل السنة

1ـ المعتزلة هم أرقى فئة في الطوائف الإسلامية ، إذ كان تعويلهم الأساسي على العقل وإن أدى تطرفهم العقلي إلى الوقوع في المزالق. كما أدى اضطهادهم لخصومهم في عصرهم الذهبي إلى وصمة عار. وتسبب اعتمادهم على العقل فوق النقل إلى جعلهم مجرد مذهب مؤقت في تاريخ المسلمين الفكري , أي أنهم لم يتحولوا إلى دين كشأن الشيعة والصوفية والسنة .
لم يحاول المعتزلة اصطناع مرجعية دينية مزيفة لهم ، كما فعل الصوفية عن طريق العلم أللدني ، أو كما فعل الشيعة بالوحي المزعوم للأئمة وعلمهم أللدني ، أو كما فعل السنة باختراع الأحاديث ونسبتها إلى النبي فيما يعرف بالسنة, أو إلى الله تعالى فيما يعرف بالحديث القدسي .
ولذلك ظل جهد المعتزلة مجرد اجتهاد عقلي يقبل الخطأ والصواب ويحتاج إلى الإقناع والاقتناع في مجتمع النخبة من المثقفين. أما المذاهب الصوفية والشيعية والسنية فقد تحولت إلى عقائد وطقوس وعبادات تتطلب الإيمان والتصديق والخضوع والتسليم , وليس أمام الإنسان إلا أن يؤمن بها أو يكفر بها ، كشأن نصوص القرآن ذاته . وبالتالي فأن أئمة هذه المذاهب السنية والشيعية والصوفية وأعلامها تحولوا إلى ذوات مقدسة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، بإيجاز تحولوا إلى آلهة في التدين الواقعي بينما الدين الرسمي المعلن ـ وهو الإسلام ـ يؤكد على أنه لا لإله إلا الله .وطبقا لذلك التدين الواقعي يرتجف المسلم السني خوفا إذا انتقد احدهم البخاري مع أن البخاري بشر يخطئ ويصيب ، كما يرتعب المسلم الصوفي إذا تعرض الغزالي للانتقاد، ويهتز المسلم الشيعي غضبا إذا هوجم الإمام جعفر الصادق . وهذا لأن تلك المذاهب الفكرية تحولت في عقائد أصحابها المسلمين إلى أديان من خلال المرجعية الدينية الزائفة التي أضيفت إليهم . إلا أننا إذا انتقدنا واصل بن عطاء آو الجاحظ أو النظام أو العلاًف ، وهم أئمة المعتزلة ومن أرقى العقليات الإسلامية فلن تتحرك شعرة من أي رأس مسلم لان فكرهم الإسلامي ظل فكرا إسلاميا ، ولم يتحول إلى دين مزور مثل باقي الأفكار لدى باقي المسلمين .

ومن المفارقات المؤلمة أن أرقى ثقافة إسلامية ابتدعها العقل المسلم تجدها في أقوال المعتزلة بينما تجد أفكارا غاية في الضحالة والانحطاط منسوبة كذبا للنبي عليه السلام تشوه سيرته وتاريخه وتطعن في الإسلام والقرآن ومع ذلك تحظى بالتقديس وتتداولها الألسن بالخضوع والتسليم دون أي تدبر في معناها ، لأنه طالما ادعوا أن النبي قد قالها فان العقل ينسحب خانعا مستسلما مؤمنا عاجزا عن التعقل مع أن التعقل فريضة إسلامية. أو بالأحرى كانت ثم غابت .
كما تجد أغلب الفكر المعتزلي مسجونا في المؤلفات بعيدا عن الاشتباك مع واقع المجتمع لأنه ظل فكر النخبة ، عاش وقتا في حياة أصحابه ثم انسحب معهم إلى أعماق التاريخ والتراث ، بينما ظل الفكر الآخر يحيا في المساجد وعلى المنابر وفى القلوب والعقول لدى من اعتنقه وآمن به لأنه تعدى دائرة الفكر إلى الدخول في مجال التدين الواقعي واكتسب ملامح الدين حين نسبوه إلى الوحي الإلهي عن طريق النبي والأئمة المقدسين أي الذين جعلوهم مقدسين .
وهذا هو الفارق بين تأويل المعتزلة وتأويل غيرهم من أصحاب الفكر الذي صار دينا ، فتأويل المعتزلة تأويل عقلي ، بينما التأويل الآخر يحتاج إلى مرجعية دينية تسنده وتدفع عنه احتمال النقاش وتقيه شر الانتقاد. وطالما خرج من دائرة الفكر البشرى وارتفع إلى سدة الوحي الإلهي فإن مناقشته هي على الأقل بلبلة للعقائد حيث لا تصمد تلك الروايات المفتراة أمام أي نقد عقلي ، وحيث تهتز تلك العقائد " وتتبلبل " حين تتعرض لأي ريح ناقدة ، لذلك يجرى دائما حمايتها داخل" صوبات" محوطة بالتهديد والوعيد لكي تقيها شر النقاش إذ لا يمكن أن تصمد بنفسها ويقتنع بها أي مجتمع إلا بالقوة وغسيل المخ ومصادرة الأفكار الأخرى. ولذلك يقترن شيوع هذه المذاهب وسيطرتها على مجتمع ما باستنادها إلى قوة تقوم باضطهاد وإرهاب المخالفين لها وفرضها عليهم بالقوة على أساس أنها الدين الإسلامي الواجب إتباعه ، متناسين القيمة الإسلامية العليا وهى انه لا إكراه في الدين.أي لا إكراه في الإسلام نفسه فكيف بفكر بشرى يناقض الإسلام ؟.

2- وبعد هذا الفارق بين المعتزلة وغيرهم نعطى لمحة عن تأويل المعتزلة .

فقد انصب تأويلهم أساسا على الآيات القرآنية التي تتحدث عن ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله والمشيئة والقضاء والقدر . وفى تأويلهم للآيات القرآنية حاولوا تنزيه صفات الله تعالى من الاتصاف بصفات المخلوقات فإذا كان الله تعالى يقول (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: الفتح 10 ) قالوا إن تأويل اليد هنا يعنى القوة وان قوله تعالى (الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى: طه 5) لا يعنى الجلوس على العرش وإنما يعنى الهيمنة والسيطرة وتمام التحكم في الملكوت . وفى الآيات التي تتحدث عن القضاء والقدر والمشيئة أولوها في ضوء حرية البشر في الفعل وفى الترك وان الإنسان مخير وليس مسيرا .
وكان المعتزلة اقرب إلى الفهم الصحيح لهذه الآيات لولا بعض الأخطاء .
وأخطاء المعتزلة يمكن إرجاعها كلها إلى سبب أساسي ، هو أنهم دخلوا على القرآن الكريم بمصطلحات عصرهم وبأدوات الفكر الإغريقي ، ومن خلال هذه المصطلحات والأدوات لم يتيسر لهم الفهم الواعي للقرآن فأخذوا من الآيات ما يناسب رأيهم المسبق وما لا يوافق رأيهم قاموا بتطويعه وتأويله ، وأكدوا ذلك الدليل المنقول المؤول بدليل عقلي منطقي ...
ونضرب أمثلة للتوضيح .
فالمعتزلة أجهدوا أنفسهم للاستدلال على وجود الله عز وجل وسط مجتمع يؤمن بالله سواء كان الناس مسلمين أو أهل كتاب ، هذا مع أن القرآن الكريم لم يحاول مطلقا ان اثبات وجود الله تعالى ، بل جاء بأدلة عقلية تثبت انه لا إله إلا الله ، واقرأ مثلا قوله تعالى (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا : الانبياء 22) وقوله تعالى (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ: المؤمنون 91)
ولأنهم جعلوا الفكر اليوناني مرجعية عقلية معتمدة لديهم فقد اخذوا عنه أيضا وصف الله تعالى بأنه( قديم ) وهو وصف لا يتفق وتنزيه الله تعالى ، لان وصف القديم يعنى وجود من هو أقدم منه ، وطالما كانوا يحتكمون للعقل فان الله تعالى هو الأحق بالحديث عن ذاته وصفاته . وقد وصف تعالى ذاته في القرآن بأنه ( الأول ) وهذا الوصف هو الأولى عقلا لأن الأول لا يسبقه غيره في الوجود، لذا كان الأولى بالمعتزلة أن يتبعوا القرآن لا اليونان في الحديث عن صفات الله تعالى .
وحتى في تأويلهم في الآيات التي يفيد ظاهرها التشابه بين الله تعالى ومخلوقاته مثل (الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) فإنهم أغفلوا المنهج القرآني بسبب اتباعهم للمنهج الفلسفي اليوناني .فالمنهج القرآني هو أن تفهم القرآن الكريم بالقرآن ، فالله تعالى هو كما وصف ذاته (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ: الشورى 11) ـ وهى آية محكمة في هذا السياق ـ إذا فكل آية في القرآن الكريم يفيد ظاهرها تشابها بين الله ومخلوقاته لابد أن يكون ذلك على سبيل المجاز وليس الحقيقة .
واللغة العربية التي نزل بها القرآن فيها الأسلوب التقريري الحقيقي القاطع وفيها الأسلوب المجازى الذي يحتوى على الاستعارة والكناية والتشبيه . وكما يستعمل القرآن الأسلوب التقريري القاطع المحدد في آيات التشريع مثلا فانه يتبع الأسلوب المجازى التصويري في الحديث عن الغيبيات التي تخرج عن نطاق الخبرة البشرية ، ولكن بعد أن يقرر بأسلوب قاطع الحقيقة الكلية في آية محكمة، ومنها هنا فيما يخص ذات الله تعالى أنه جل وعلا ليس كمثله شيء، وكل ما عداه أشياء هو تعالى الذي شّأها أي جعلها أشياء ونحن من ضمن هذه الأشياء.
والباحث المسلم الملتزم بالمنهج القرآني يبدأ بالتعرف على الآية المحكمة في سياق موضوعه ثم يفهم من خلالها الآيات المتشابهات التي تفصل الموضوع وتقربه للناس في أسلوب يناسب مداركهم .على سبيل المثال فإن الله تعالى أكد أنه ليس مثله شيء من كل المخلوقات ، وأكد أن صفات الخلق من التوالد والأب والابن والزوجية لا تسرى عليه فهو تعالى الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. في ضوء هذا الأحكام القاطع نفهم أن ما يأتي من وصف لله تعالى ليس إلا طريقة للتفهيم تستعمل أسلوب المجاز.
أكثر من ذلك فالقرآن يفسر نفسه بنفسه ، يقول تعالى : " وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " الفرقان 33" ولهذا فان الآيات المتشابهات يأتي أحيانها في سياقها ما يوضح المراد بحيث يكتفي الباحث المسلم بتتبع السياق أو تدبره . وعلى سبيل المثال لو قرأ المعتزلة الآيات التالية مباشرة لقوله تعالى (الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) طه "5" لوجدوا الآيات التالية تحدد المعنى المقصود بالاستواء على العرش وهو تمام التحكم في الملكوت ،يقول تعالى يشرح الاستواء على العرش (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ، وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ، اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) :طه"6/8"
لمدة قرون اختلف الحنابلة والمعتزلة وغيرهم حول معنى الاستواء ، ولا يزال هذا الاختلاف قائما حتى الآن إذ تتمسك الوهابية بتأويلها الذي لا يليق بجلال الله تعالى والذي يسيء بتشابهه مع البشر. كما أن المعتزلة أضاعوا جهدهم سدى في فرض تأويلهم الإغريقي على القرآن دون تدبر القرآن وحده وذاته.

وأكد الله تعالى أن الجنة في الآخرة لا يمكن أن نعلم عنها شيئا ( فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين : السجدة 17) وهى آية محكمة في سياقها، ولذلك تخضع لها كل الآيات التي تتحدث عن نعيم الجنة بلغة مجازية وبطريقة تقرب المعنى المراد إلى المستمع العربي وقت نزول القرآن والى أي قارئ للذكر الحكيم .
في أسلوب المجاز يقول تعالى عن نعيم الجنة مستعملا أسلوب التشبيه المجازى :" مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ: محمد 15" هنا يضرب رب العزة مثلا بالتشبيه لتقريب المعنى المراد، وليس لتقرير حقيقة نعيم الجنة الذي يعلو على أفهمانا وعقولنا.
وظيفة أسلوب التشبيه هو تقريب المعنى وليس الإتيان به على حقيقته، فعندما تقول :" هذه الفتاة كالقمر" فانك تؤكد ليس فقط على جمالها الذي يشبه جمال القمر ولكنك تؤكد أيضا أنه لا يمكن أن تكون الفتاة هي عينها ذلك الكوكب القمري التابع للأرض، وإلا كانت حالتاك العقلية في مشكلة حقيقية. تقع في نفس المشكلة إذا توهمت أن الماء واللبن والخمر والعسل في الآية الكريمة عن أنهار الجنة هي نفس ما نعرفه في حياتنا الأرضية ، خصوصا وأن الآية الكريمة لم تكتف فقط بالبدء بالتمثيل " مثل الجنة " وإنما أضافت خصائص لتلك الأشياء لا نعرفها في كوكبنا الأرضي ،فماؤنا يأسن واللبن لدينا يتغير طعمه والخمر عند من يعرفها ـ ولست منهم بحمد الله تعالى ـ ليست حلوة الطعم بحيث تكون لذة للشاربين ، والعسل عندنا لا يمكن أن يأتي في بدايته مصفى نقيا.
ولنفترض أننا نستطيع أن نتحادث مع جنين في بطن أمه وكل ما يعرفه من الطعام هو ما يأتيه من غذاء عبر الحبل السري مخلوطا بالدم وغيره. لو وصفنا له طعامنا لاضطررنا أن نشبهه له بالدم حتى يستطيع أن يتخيل مالا يستطيع إدراكه.
ولماذا نذهب بعيدا؟؟
إن كل ما نعرفه ونتذوقه لاستطيع لغتنا البشرية التعبير عنه أو وصفه بدقة في أسلوب تقريري محكم جامع مانع. نعرف الفرق بين طعم الأسماك واللحوم ونستطيع ونحن مغمضوا الأعين أن نفرق بين طعم اللوبيا والبازلاء وأن نتعرف على الفوارق الدقيقة في الطعم بين أجزاء اللحوم والدواجن ، لكن لا نستطيع أن نعبر بدقة عن الطعم الذي نحس به. لا يستطيع بشر أن يصف بدقة نشوته الجنسية أو شعوره بالسرور حين يستمتع بلوحة مرسومة أو بلحن موسيقى يطير به إلى عنان السماء. أفذاذ الأدباء يلجأون لأساليب المجاز – في كل اللغات لدرء هذا النقص . افتح أي قاموس ستجد الكلمة الواحدة لها العديد من المعاني لأن لدى البشر ألفاظا قليلة لا تستطيع أن تعبر عن كل الأحاسيس والمعاني التي تتوالد وتتغير في داخل النفس البشرية.
إذا عرفنا هذا عن حياتنا الدنيا في هذا العالم وكيف لا تستطيع لغاتنا البشرية أن تعبر عما نحسه وندركه ونتعامل معه فكيف بها فيما لا تعرف ؟ وكيف إذا جاءها وحي علوي يحادثها عن تلك العوالم الغيبية والمستقبلية بتلك اللغة البشرية القاصرة العاجزة؟ هنا يكون للمجاز دوره . ولهذا فإنك تجد المجاز في كل لغات العالم ليستر هذا العجز الإنساني ويعالج هذا القصور اللساني.
والخلاصة أن المعتزلة دخلوا على القرآن الكريم بثقافتهم اليونانية وكان أولى بهم أن يفهموا القرآن بمصطلحات القرآن نفسه ولو فعلوا ذلك لأراحوا المسلمين وأنفسهم من شر كبير.

4- الخصومة بين المعتزلة والفقهاء الحنابلة وموقع التأويل فى هذه الخصومة .

وبسبب الانتماء الفكري للفلسفة الإغريقية - أو بتعبير عصرنا إلى الثقافة الغربية - فقد اشتعلت الخصومة الفكرية بين المعتزلة والفقهاء وأصحاب ما يسمى بعلم الحديث الذين يمثلون الثقافة المحلية ويتعصبون لها ، أو الذين عرفوا فيما بعد بالحنابلة أو السلفية .
وبدأت معركة بين الطرفين في موضوع خلق القرآن الكريم الذي اضطهد بسببه احمد ابن حنبل منذ أواخر خلافة الخليفة المأمون سنة 218 هــ
كان الخليفة المأمون متأثرا بالفكر الإغريقي ، وهو الذي انشأ دار الحكمة وشجع الترجمة عن اليونانية . ولذلك أصبح للمعتزلة شأن كبير في عهده ، واستثمر المعتزلة هذا النفوذ في إرغام خصومهم الفقهاء وأصحاب الحديث على قبول وجهة نظرهم في خلق القرآن واضطر كثير منهم للاذعان ، وصمم على الرفض أحمد ابن حنبل ومحمد ابن نوح فأذاقتهما السلطة العباسية العذاب ، إلى أن تولى المتوكل الخلافة واضطرته الظروف السياسية إلى التقرب للشارع وقد وقع تحت سيطرة الفقهاء وأئمة المساجد وتحالف مع أصحاب الحديث والفقهاء ليستعين بهم ضد مراكز القوى السابقة من العصبيات العربية والقواد الفرس .
والجدير بالذكر أن المتوكل قد ألغى تجنيد العرب والفرس ، واعتمد على شراء المماليك الأتراك بدلا عنهم ، وكان لابد لهذا الانقلاب الخطير الذي قام به من قوة شعبية ودينية تؤيده . ووجدها في فقهاء الشوارع ، وعن طريق هذا التحالف بينه وبين الفقهاء علا نفوذ المذهب السني ، واستطاع الفقهاء الحنابلة اضطهاد المخالفين لهم في الرأي والدين والمذهب ، لذا شهد عهد المتوكل وما تلاه اضطهادا للنصارى واليهود والفلاسفة والشيعة والصوفية وبالطبع ردوا الصاع صاعين للمعتزلة .والعادة أن السياسة إذا تدخلت في الفكر أفسدته وأفسدت أصحابه .
ونعود إلى مشكلة التأويل ونزاع الحنابلة الفقهاء المحدثين مع المعتزلة في خلق القرآن .
فالمعتزلة بثقافتهم اليونانية استرجعوا نفس القضية القديمة حول الإنجيل ، وهل هو قديم مثل الذات الإلهية أو حادث مخلوق كالبشر ، وهى قضية خلافية في الفكر المسيحي المشرقي منذ القرن الثالث الميلادي ، ولكن استرجعها المعتزلة في القرن الثالث الهجري وداروا بها حول القرآن ، واعتمدوا وجهة النظر العقلانية اليونانية التي ترى أن الكتاب السماوي مخلوق ، واستخدموا نفوذهم السياسي في إرغام الآخرين على اعتناق فكرهم . وكانت حجتهم في هذا الرأي هي قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا: الزخرف 3) أي أن القرآن مجعول أي مخلوق ، وذلك قياسا على قوله تعالى عن خلق آدم وحواء (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا) إذا فالقرآن مخلوق مثل آدم وحواء . بينما رأى احمد بن حنبل أن القرآن الكريم صفة من صفات الله تعالى أي بتعبيرهم أزلي ولا يكون مخلوقا .
وفى حوار جرى بين الخليفة المتوكل واحمد بن حنبل قال له ابن حنبل ( القرآن كلام الله غير مخلوق لان الله تعالى يقول : "ألا له الخلق والأمر" فجعل فرقا بين الخلق والأمر و الأمر ليس مخلوقا ، لأن المخلوق لا يخلق مخلوقا ) أي يرى ابن حنبل أن القرآن باعتباره أوامر إلهية علوية تناقض مفهوم الخلق أي المخلوقات.
هي قضية لا ينتهي فيها الجدال لأن كل فريق دخل إلى القرآن بوجهة نظر مسبقة وبغير أن يفهم مصطلحات القرآن ومستويات الخطاب القرآني في الحديث عن القرآن قبل أن يكون قرآنا وحين التنزيل ، وبعد أن أصبح قرآنا مقروءا باللسان العربي . وهو موضوع شرحه يطول ولكن نعطى عنه اشارة سريعة .
فالمعتزلة استشهدوا بقوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الزخرف 3. وركزوا على هذه الآية لتدعيم وجهة نظرهم بأن القرآن مجعول أي مخلوق ، وتناسوا أن يقرؤوا ما بعد الآية وهى قوله تعالى (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ: الزخرف 4) فالقرآن الكريم كلام الله تعالى وأوامره ونواهيه وبلسان الهي لا نعرفه ، وذلك حين كان في أم الكتاب ، عند الله تعالى ، وبعدها نزل هذا الكتاب الإلهي وحمله جبريل في لغة أخرى ومستوى آخر ، ونقله دفعة واحدة بصفته الكتاب إلى قلب خاتم النبيين، وهذا ما حدث ليلة القدر، ثم كانت معاني الكتاب المختزنة في قلب النبي تنطق ـ فيما بعد وحسب الحوادث ـ قرآنا عربيا في لسان عربي مبين جعله الله تعالى ميسرا للذكر حتى نتعقله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ: القمر 17 ) ، (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا: مريم 97 ) وبغض النظر عن اللسان العربي الذي ينطق به القرآن والذي ننطق به القرآن ، وبغض النظر عن كون هذا اللسان وذلك النطق مخلوقا فإن المعاني الإلهية ، وهي نفس المعاني والأوامر الإلهية في أم الكتاب وفى اللوح المحفوظ ، وهى نفس المعاني والأوامر والنواهي التي يمكن بها ترجمة القرآن الكريم , والتي بتطبيقها يمكن النجاة ويكون الفلاح يوم القيامة .
ومن هنا نفهم أن القضية ليست أن القرآن مخلوق أو ليس بمخلوق ، وإنما قضية أوامر إلهية نزلت من غيب السماوات وتم تيسيرها لكي نفهمها ونعقلها ونطبقها ، والقضية الأساسية هي الطاعة لهذه الأوامر وليس البحث في ماهيتها في عالم الملكوت الغيبي الخارج عن إدراكنا. فنحن مسئولون عن الطاعة والتطبيق ، وليس عن فهم ماهية القرآن قبل أن يكون قرآنا وكيف نزل وهل هو بصوت أو بغيره إلى آخر من انشغل به أسلافنا وأنهكوا به عقولهم وحياتهم وتخلفوا به عن العالمين – ولا يزال بعضنا على آثارهم يهرعون مختلفين ومتخلفين. !!.

5 ـ موضوعات التأويل بين المعتزلة والسنة:

الأهم مما سبق: أن الخلاف الأساسي في التأويل بين المعتزلة وبين أهل السنة تركز في موضوعات التأويل ، والمسموح أو الممنوع من تأويله .
وعلى حسب الأصول التراثية فإن في القرآن سمعيات أي غيبيات وعقائد مطلوب الإيمان بها مثل ذات الله تعالى وصفاته واليوم الأخر وما قيل فيه وعوالم الجن والملائكة والشياطين ، ثم في القرآن الكريم "فروع " بعد تلك الأصول الاعتيادية وهى تشمل التشريعات.
وقد اختلف الموقف بين المعتزلة وأهل السنة في التأويل في هذه الموضوعات .
فالمعتزلة انصب تأويلهم على السمعيات خصوصا فيما تعلق منها بذات الله وصفاته وكان غرضهم نبيلا ، وهو تنزيه الله تعالى مما قد يفهم منه اتصاف الله تعالى بصفات مخلوقاته ، ولذلك فهموا أن الآية تتحدث بالمجاز والتشبيه والاستعارة حين قال (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فهنا تعنى القدرة والقوة ، وحين قال (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا: القمر 14) –عن سفينة نوح – أي تسير بقدرتنا ورعايتنا ، وحين يقول عن موسى (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي: طه 39) أي رعايتي .
ولم يدخل المعتزلة في خطيئة تأويل الفروع أي التشريعات رحمهم الله تعالى وغفر لهم. إذ كانوا على صواب في ذلك فالتشريعات القرآنية جاءت بأسلوب تقريري قاطع وحاسم ومستقيم لا يدع مجالا للاختلاف أو التأويل.
أما أهل السنة فقد وقفوا على النقيض ، إذ أنهم رفضوا التأويل الذي ينبغي فعله في السمعيات وفى الذات والصفات بينما استعملوا التأويل في الممنوع وهو التشريع الواضح المحكم .

أهل السنة رفضوا الاعتراف بالأسلوب المجازى في قوله تعالى ( يد الله فوق أيديهم ) واعتبروا أن لله تعالى يدا على الحقيقة ، واعتبروا أن لله تعالى عينا واعتبروا أن الله تعالى جلس على العرش كما يجلس البشر ، وبذلك الغوا الفوارق بين الخالق والمخلوق واسندوا لله تعالى ما لا يليق بذاته العلية من صفات البشر .
بل أكثر من ذلك فقد أوقعوا أنفسهم في تناقض معيب , فالله تعالى جعل الموت مصير كل نفس فقال(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ: آل عمران 185، والأنبياء 35 ) والأسلوب هنا تقريري حقيقي ، ولكن الله تعالى يحدث عن ذاته بالأسلوب المجازى فيقول (وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ: آل عمران 8, 30 ) ويقول (كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: الأنعام 12) فإذا رفضنا أسلوب المجاز هنا كما يقول أهل السنة واعتقدنا أن لله تعالى نفسا فهل يعنى ذلك أن ينطبق عليه جل وعلا قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ؟
الواضح أن النفس هنا يكون معناها مجازيا يعنى الذات الإلهية في إطار قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) أي أن كل ما يخطر على بالك ليس مثل الله سبحانه وتعالى ، وأن كل ما يأتي في القرآن الكريم عن الله تعالى هو تقريب للصورة العقلية كي نفهم بعض الخطاب ، وهذا التقريب للصورة لابد أن يعتمد على المجاز والاستعارة والكناية والتشبيه والتمثيل واقرأ مثلا قوله تعالى (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ : النور 35) وتأمل كيف تكثف التعبير المجازى في الآية ليعطى العقل الإنساني مجالا رحبا أوسع ليتفكر في آلاء الله تعالى وعظمته.
إن في القرآن الكريم المزيد من التدبر فيما يخص صفات الخالق جل وعلا واختلافها عن صفاتنا نحن البشر.
و نكتفي هنا ببعض الأمثلة:
ـ كلمة الحي تأتى وصفا للمخلوقات, في الحديث عن إخراج الحي من الميت والميت من الحي. والسياق هنا واضح على أن حياة المخلوقات هنا وقتية و مرتبطة بالموت. ولكن حين تأتى كلمة الحي وصفا لله تعالى تقترن بتوضيح آخر ينفي صفة الموت عن الله جل وعلا." وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ "."الفرقان58".
وفى سورة "قل هو الله أحد" تجد كلمة "احد" هنا وصفا لله تعالى وحده, و يتناقض المعنى لنفس الكلمة حين تأتى وصفا للناس في نفس السورة" وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ "
ـ وفى اللغة العربية هناك درجات للتعريف أقواها المتكلم ـ أنا و نحن ـ .,ثم يليها المخاطب { ـ أنت و أنتم ـ }ثم يكون الغائب أقلها في التعريف ـ {هو و هي ..الخ }. المراد هنا انه يجوز ان يوصف شخص ما بأنه غائب ، وتلك العادة حين يتحدث الناس عن شخص في غيبته. ولكن هل يصح أن يوصف الله تعالى بالغياب ؟
في عقيدة الإسلام لا يصح وصف الله تعالى بالغياب لأنه القائم على كل نفس بما كسبت وهو القيوم على كل شيء. وهنا يأتي استعمال "هو" في الحديث عن رب العزة بما يناقض معنى الغيبة وبما يؤكد معنى الحضور كقوله تعالى" وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ: المجادلة 7". إذن هي نفس الكلمة ولكن بمعنى مناقض لمعناها المألوف حين تستعمل في الحديث عن الله تعالى . والسبب دائما هو في قصور لغة البشر عن التعبير عما يليق بجلال الله تعالى وقصورها عن التعبير عن عالم الملكوت وعالم الغيب الذي لم يعرفه البشر بعد وليست لهم به خبرة تنعكس على استعمالهم اللغوي.
كان على المعتزلة و أهل السنة معا أن يفهموا القرآن بالقرآن, وهو التدبر أو تلك الفريضة المنسية والتي تعنى أن تسيرـ مخلصا طالبا للهداية ـ دبر الآية القرآنية أو خلفها تتبع معناها وتتعقله في كل القرآن. وهو المنهج العلمي الموضوعي المأمور به في القرآن وقد غفل عنه السابقون من السنة والمعتزلة وغيرهم.

ولم يكتف أهل السنة بخطيئة رفض الأسلوب المجازى في القرآن الكريم وهو الواجب اتباعه، وإنما أضافوا إليها خطيئة كبرى أخرى وهو استعمال التأويل في الممنوع ، وهو تحريف معاني النصوص القرآنية التشريعية الواضحة الساطعة التي لا تحتاج إلى تأويل. ولأنها لا تحتاج في وضوحها إلى تأويل ، إذ لا اجتهاد مع وجود نص – كما يقولون – فأنهم استعملوا لافتات أخرى غير التأويل أي حرفوا تشريع القرآن تحت عناوين بريئة أو تبدو بريئة.
وندخل بعد ذلك على تأويل أهل السنة بمعنى تحريفهم لتشريع القرآن الذي أسندوه للنبي وجعلوا له مرجعية زائفة ومصطلحات ما أنزل الله بها من سلطان .

رابعا: التأويل في الفقه السني في لمحة سريعة موجزة

أ – تأويل مصطلح أهل السنة
1 – كلمة السنة من مصطلحات القرآن الكريم ، وتعنى الشرع الإلهي الذي ينزل على الأنبياء ، والذي يطبقه الأنبياء على أنفسهم ، والذي يطبقه المؤمنون ، كما تعنى أيضا المنهاج الإلهي في التعامل مع المشركين .
ومصطلح السنه بمعنى الشرع جاء في قوله تعالى (مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا : الاحزاب 38) فجاءت في الآية ثلاثة مصطلحات بمعنى واحد ومنسوبة لله تعالى وهى "فرض الله " "وسنة الله " ، " أمر الله " وكلها تعنى شرع الله ، فبالنسبة لهذا المعنى تنسب لله تعالى لأنه صاحب الأمر والشرع
والنبي هو أول الناس تطبيقا لهذا الشرع ، وهو القدوة الحسنة في التطبيق ، ولذلك يقول تعالى (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ: الاحزاب 21) فلم يقل سنة حسنة لأن السنة لا تنسب إلا لله تعالى صاحب الشرع ، وإنما قال أسوة حسنة أي قدوة حسنة في تطبيق سنة الله أو شرع الله .
ومن المفيد أن نذكر أن مصطلح السنة في القرآن هو نفس المصطلح في اللغة العربية ، فنحن نقول "سن قانونا "أي اصدر تشريعا . والتشريع حين يسن أو يصدر فالواجب طاعته ، وهكذا فالشرع الإلهي هو السنة الإلهية .
ومن المفيد أيضا أن نذكر أن مصطلح السنة بهذا المفهوم يعترف به أهل السنة جزئيا حين يقولون عن الصلاة ، والزكاة والحج وسائر الفرائض أنها سنة عملية ، ولكن ليس مقبولا أن يقولوا السنة القولية عن أحاديث مفتراه نسبوها زورا إلى النبي ، وهذه النسبة للنبي هي التي حولت الفكر الديني لأهل السنة إلى دين كامل أضفى التقديس على أئمة هذا الفكر مثل البخاري والشافعي وابن تيمية وابن القيم ، وأصبح الاعتراض على أولئك الأئمة وأسفارهم {المقدسة } خروجا على الدين الذي ليس هو دين الإسلام بالطبع الذي نزل قبل أولئك الأئمة ، ولكن الدين الجديد الذي ابتكره أولئك الأئمة وأصبحت له قدسية بالتأويل. وهنا ندخل على مظاهر التأويل لدى الفكر السني .

بــ ) - التأويل في مدار التشريعات الإسلامية :

1 –تدور التشريعات في القرآن الكريم حول ثلاث درجات : الفرض المكتوب أو الأوامر ، ثم النواهي أو المحرمات ، ثم ما بينهما وهو المباح ، ومنهج القرآن في التشريعات في هذه الدرجات أن يحدد الفروض والمحرمات ثم يترك المباح مفتوحا ، وإذا كان هناك تشريع سابق يحرم شيئا وجاء القرآن بتحليله مجددا يأتي ذلك في القرآن في سياق الحلال الجديد كقوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ : البقرة 187) .
وجاء الفقه السني بتأويل وتعديل للمدار التشريعي ، إذ أضاف إليه درجتين في التشريع انتزعهما من المباح الحلال هما المكروه والمندوب أو المسنون . فالمكروه هو مباح ينبغي تركه أو درجة اقل من الحرام, والمندوب أو المسنون هو مباح ينبغي فعله وان لم يكن واجبا لأنه اقل من الفرض الواجب .
2 – وترتب على هذا التأويل والتعديل للمدار التشريعي الإسلامي القرآني نتيجتان
* الاولى:-
إضافة مصطلحات جديدة تخالف القرآن وهى المكروه والمندوب ، وعلى سبيل المثال فإن المكروه في مصطلحات القرآن ليس مباحا أقل درجة من الحرام كما يقولون بل هو أشد أنواع الحرام تجريما قال تعالى (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ : الحجرات 7) وبعد أن جاء تحريم السرقة والقتل والكفر وسائر الكبائر في سورة الإسراء قال تعالى عنها (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا: الإسراء 38 )
* الثانية :-
هي التضييق من دائرة الحلال المباح وتحويل المباح الحلال إلى مكروه لا ينبغي العمل به ، وهذا يعنى التدخل في تشريع الله تعالى من حيث الدرجة ومن حيث التفصيلات.

جــ) التأويل في قواعد التشريع الجامعة المانعة والمؤكدة :

1 – هناك قواعد تشريعية جامعه مانعه ، أي تجمع المحرمات داخل سور محدد وتمنع إخراج احد منه أو إضافة احد إليه ، مثل المحرمات في الزواج ، وقد ذكرها القرآن بالتفصيل ثم بعدها قال (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ : النساء 24 ) أي فالنساء داخل ذلك السور الجامع المانع كلهن محرمات ، والنساء خارج هذا السور الجامع المانع كلهن حلال للزواج ، وجاء التأويل السني ليخرق هذا السور بأن أضاف إليه بالقياس قاعدتين فقهيتين جعلهما أحاديث منسوبة للنبي وهي ( يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب ) ، ( لا تنكح المرأة على عمتها أو خالتها ) ، وعلى ذلك فإذا أراد رجل أن يتزوج خالته من الرضاعة فإن ذلك حلال في تشريع القرآن الكريم وحرام في تشريع أهل السنة ، ونفس الحال إذا أراد أن يتزوج على امرأته عمتها أو خالتها يقول تعالى ذلك حلال ويقول الفقهاء من أهل السنة ذلك حرام .
وهناك مثال آخر هو المحرمات في الطعام التي تكررت كثيرا في القرآن الكريم " البقرة 173" ، " المائدة 3" ، " الأنعام 145" ، " النمل 115" وهى الميتة والدم ولحم الخنزير وما يقدم للأوثان . وبرغم تحذير القرآن الكريم من إضافة أي محرمات جديدة للطعام ( المائدة 87، يونس 59:60 ، النحل 116: 117، التحريم 1) إلا أن أهل السنة أضافوا تحريم الكثير من الحلال ، وتمتلئ بذلك كتب الفقه .

2 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية مؤكدة بأسلوب القصر والحصر مثل قوله تعالى ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ( الإسراء 33، الأنعام 151 ) (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ. الفرقان 68) أي فلا يجوز القتل في الإسلام إلا بالتشريع القرآني الحق وهو طبقا للنصوص القرآنية يأتي في صورة القصاص ، سواء كان ذلك في الجرائم ( البقرة 178) أو في الحروب ( البقرة 194) وجاء الفكر السني فألغى هذه القاعدة التشريعية المحكمة الملزمة فأضاف قتل المرتد والزنديق وتارك الصلاة ورجم الزاني ، ثم توسع في القتل ليجعل من حق الإمام أن يقتل ثلث الرعية في سبيل إصلاح الثلثين ..!!

3 – وهناك قواعد تشريعية قرآنية جاء تأكيدها في القرآن الكريم بكل أساليب التأكيد مثل الأمر بالوصية للوارث وغير الوارث في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ: البقرة 180 ) فالتأكيد في الوصية جاء بصيغ مختلفة شديدة الدلالة مثل " كُتِبَ عَلَيْكُمْ " ، " إِنْ تَرَكَ خَيْرًا " ، " بِالْمَعْرُوفِ " ، " حَقًّا "،" عَلَى الْمُتَّقِينَ " ، ثم جاءت الآيات بعد ذلك تضع قواعد الوصية. وفى سورة النساء نزل الأمر بالوصية ليطبق قبل توقيع الميراث (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ: النساء 11، 12) ومع أن الوالدين لهما حق في الميراث وحق أيضا في الوصية ، ومع أن قواعد الميراث والوصية هي حدود الله التي يحرم التعدي عليها ( النساء 13:14) إلا ان الفقه السني ألغى الوصية للوارث طبقا لقاعدة فقهية جعلها حديثا نبويا يقول ( لا وصية لوارث ) وافتروا أن هذه الكذبة المخالفة للقرآن قد " نسخت الآيات المخالفة لها..
إن تشريع الوصية والحث عليها جاء تحقيقا للعدالة الإسلامية. فأنصبة الميراث محددة بالنصف والربع والسدس والثلث والثمن ولا يجوز تعديلها. وتطبيقها وحدها قد يحمل ظلما بين الورثة. قد يكون فيهم من يستحق الزيادة في حصته لظروف خاصة به تستوجب ذلك، هنا تأتني الوصية لتعالج الأمر تحت عين المجتمع ورقابته ووفقا لمسئولية المتوفى أمام الله تعالى في توزيع الوصية حسبما جاء في آيات الوصية ، بالوصية مثلا يمكن لك أن تعطى ابنتك نصيبا مساويا لابنك طالما كانت تستحق ويطمئن ضميرك والمجتمع لذلك.

4- وترتب على هذا التأويل السني لتشريعات القرآن الكريم المحكمة والملزمة نتيجتان متلازمتان :-
* الاولى :-
إضافة معاني مخالفة لمصطلحات القرآن الكريم فالنسخ في القرآن الكريم وفى اللغة العربية يعنى الإثبات والكتابة والتدوين ، ولكنهم جعلوا النسخ عندهم يعنى الحذف والإلغاء والتبديل .
*الثانية :-
جعلوا فتاويهم الفقهية وأحاديثهم المنسوبة زورا إلى النبي تلغى قواعد القرآن الكريم التشريعية وتبطلها ، وبالتالي جعلوها فوق القرآن الكريم الذي هو كلام رب العالمين.

د: إهمال قواعد التشريع ومقاصده العظمى:

عموما فالأحكام في التشريعات القرآنية هي أوامر تدور في إطار قواعد تشريعية ،وهذه القواعد التشريعية لها مقاصد أو أهداف ،أو غايات عامة .
يبدأ التشريع القرآني بالأوامر مقترنة بقواعدها ، وقد تأتى المقاصد في خلال الآية نفسها أو في خلال السياق أو تأتى منفصلة. ولسنا في مجال التفصيل لذلك حتى لا يفلت منا موضوع التأويل. ولكن إعطاء أمثلة يعين على الفهم:-
نبدأ بمقاصد التشريع القرآني وهى نوعان : النوع الأول ويتمثل في مصطلح التقوى أي خشية الله تعالى أو بتعبيرنا المعاصر الضمير الحي الذي لا يكتفي بالتأنيب على الخطأ والعزم على عدم العودة إليه ، ولكن قبل ذلك يمنع الإنسان من الوقوع في الخطأ " الأعراف 201 " آل عمران133-136 ". والتقوى تجمع في ثناياها الإيمان الصحيح بالله تعالى واليوم الآخر مع المداومة على عمل الصالحات أي العبادات والمعاملات.ولذلك لا يدخل الجنة إلا المتقون. فالإيمان وحده لا يكفي ، والعمل الصالح وحده لا يكفي. هذه هي التقوى كقيمة عليا في الإسلام ومنهجه الخلقي والعقدي والتشريعي .
في المجال التشريعي تأتى التقوى في سياق التشريعات نفسها وتأتى أحيانا منفصلة عنها باعتبارها قيما عليا في حد ذاتها، فالأمر بالتقوى تكرر للنبي نفسه والمؤمنين وكان أحيانا يأتي في مطلع السور"النساءـ الأحزاب ـ الحج ". وتأتى التقوى في سياق التشريع لتؤكد على ضرورة ربط التطبيق البشرى للتشريع الإلهي بإحياء الضمير والسمو بالنفس وتزكيتها وحسن العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وإذا كان يعلم أن الله تعالى يراه فلا بد له من أن يخشى الله تعالى ويسعى في مرضاته جل وعلا. حتى لو كان بمأمن من السلطة البشرية والمراقبة البوليسية. من أجل هذا الدور السامي للتقوى في التشريع القرآني تجد الأمر بالتقوى يرصع آيات التشريع فيها جميعا. ونعطى مثالا واحدا: يقول تعالى في تشريع الطلاق مؤكدا على حفظ حقوق المرأة" وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. "البقرة 231 " . الآية هنا انقسمت إلى قسمين : الأول في الأمر التشريعي وهو تخيير الزوج ـ الذي طلق زوجته وبلغت العدة وهى في بيته ـ بين أن يحتفظ بالزوجة ويمسكها بشرط معاملتها بالمعروف ، وبين أن يتحول الطلاق ـ وهو في التشريع القرآني مجرد مهلة للمراجعة وليس انفصالا نهائيا ـ إلى انفصال نهائي بأن يطلق سراحها ولكن أيضا بالمعروف ودون إضرار. وحتى لا يضمر الزوج أن يعيدها إلى عصمته بقصد إذلالها يحذر التشريع القرآني من ذلك ويجعله اعتداءا. وبعد مجيء التشريع بالأمر والنهى جاء القسم الثاني من الآية بالمقصد التشريعي مباشرة يشمل الإنذار والوعظ والتحذير والتنبيه ومراعاة التقوى. نلمح هنا بسرعة إلى التناقض بين تشريع الطلاق في القرآن وتشريعه في الفقه السني ، وقد كتبنا في ذلك من قبل. ونلمح أيضا إلى أن فحوى الآية السابقة قد جاء مفصلا أيضا في افتتاحية سورة الطلاق حفظا لحقوق المرأة ولكن التأويل السلفي أضاع تشريع القرآن وحقوق المرأة وحقوق الإنسان.
وبعد التقوى المقصد التشريع الأعظم تأتى المقاصد التشريعية الأخرى من حفظ تماسك الأسرة ورعايتها، والتخفيف ورفع الحرج والتسهيل ، والعفة الجنسية.
كل تشريعات الأسرة في القرآن تهدف إلى حفظها وتماسكها كمقصد أسمى لتلك التشريعات ، ولكم العادة السيئة للفقه السلفي أن يركز على الأوامر ويترك القواعد والمقاصد. ففي موضوع الأسرة مثلا تأتى القاعدة التشريعية تؤكد على " وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا.""النساء19" وتحت هذه القاعدة يأتي التعامل مع الزوجة التي تريد النشوز أي هدم بيتها مع تمتعها بكل الحقوق وقيام الزوج بالقوامة عليها ـ ومصطلح القوامة في القرآن يعنى الرعاية والحفظ وتحمل مسئولية الزوجة والقيام بمتطلباتها بالمعروف ـ هنا يكون من وسائل حفظ البيت والأسرة تأديب الزوجة الناشز بالوعظ ثم بالهجر ثم بالضرب. ويأتي التحذير من إساءة التطبيق في هذا التشريع بظلم الزوجة المطيعة " النساء34"
وأيضا لسنا في مجال التفصيل هنا وهو يحتاج إلى بحث مستقل متكامل، ولكن حتى لا يفلت منا موضوع التأويل نقرر أن الفقه السلفي قد تجاهل القاعدة والمقصد التشريعي في هذا الخصوص وركز فقط على "ضرب الزوجة".
في موضوع العفة والإحصان الخلقي جاءت "الأوامر " التشريعية بغض النظر المحرم للرجال والنساء معا وعدم الاقتراب من مقدمات الزنا والحشمة في زى النساء " النور30 -31 الإسراء 32". ركز الفقه السلفي على هذه الأوامر إلى درجة التطرف فتحول الخمار الذي يغطى الصدر دون الوجه والشعر إلى نقاب يعبئ المرأة ويعلبها في غلاف اسود كئيب ، وهو مزايدة محرمة على حق الله تعالى في التشريع، وتضييع لشهادة المرأة ودورها في المجتمع المسلم وتحريم لكشف وجهها وهو حلال في الإسلام، وأيضا ليس هذا مجاله ولكن نؤكد هنا أن هذا التطرف بفرض النقاب أضاع المقصد الأسمى من أوامر العفة والإحصان. فالمعروف أن النقاب من أهم عوامل انتشار الانحلال الخلقي حيث تتخفى فيه المرأة وتفعل ما تشاء دون أن يتعرف عليها احد. واسألوا أهل الفكر السلفي إن كنتم لا تعلمون.
المقصد التشريعي بالتيسير ورفع الحرج أضاعه الفقه السلفي الحنبلي بتشدده وتزمته .
حتى العبادات : هي مجرد أوامر واجب علينا أداءها لبلوغ الهدف الأسمى وهو التقوى" البقرة - 183 -196 -197 ـ21"أو هي مجرد وسائل للتقوى نستطيع بها الابتعاد عن الفحشاء والمنكر" العنكبوت45" وهذا هو المعنى الحقيقي لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أي التزكي والسمو الخلقي بالتقوى. كل ذلك أضاعه التأويل السلفي حين جعل الصلاة والزكاة والحج أهدافا بذاتها، فإذا أديت الصلاة فلا عليك إن عصيت وستقوم صلاتك بمسح ذنوبك " ودي نقرة ودي نقرة " كما يقول المثل الشعبي المصري، وإذا تبرعت لبناء مسجد ولو كمفحص قطاة تمتعت بقصر في الجنة. وإذا أديت الحج رجعت منه عاريا.. آسف ... رجعت منه كيوم ولدتك الست ماما يابابا..وأكثر من ذلك ستدخل الجنة ـ غصب عنك ـ لأنك من أمة محمد مهما فعلت. يكفيك أن تقول الشهادتين ثم تعيث فى الأرض فسادا. المهم أن التأويل السلفي حول العبادات إلى تدين سطحي وحول الأخلاق إلى مستنقع من النفاق والكذب والتدجيل. ونحن مشهورون بين الأمم بكل ما يشين بسبب ذلك .

أما علاقتنا بالآخرين فقد حولها الفقه السلفي من السلام إلى العنف والإرهاب والعدوان لأنه ركز على الأمر وأهمل القاعدة والمقصد التشريعي.
فالأمر بالقتال "قاتلوا " "جاهدوا " "انفروا "له قاعدة تشريعية وهو أن يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله )،ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين ،كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وأمان حتى يكون مسئولا عن اختياره الحر يوم القيامة بدون إكراه في الدين حتى لا تكون لأي بشر حجة أمام الله تعالى يوم الدين.
ونعطى أمثلة سريعة:-
يقول تعالي (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ :البقرة190) فالامر هنا (قَاتِلُوا)والقاعدة التشريعية هي (فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)وتتكرر القاعدة التشريعية في قوله تعالي (فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ:البقرة 194)أما المقصد أو الغاية التشريعية فهي في قوله تعالي (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ :البقرة 193)أي أن منع الفتنة هي الهدف الأساسي من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الإكراه في الدين أو الاضطهاد في الدين ،وهذا ما كان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين يقول تعالي (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا:البقرة 217). وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة أو الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله تعالي يحكم فيه وحده يوم القيامة دون أن يغتصب أحدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي، وذلك معني قوله تعالي (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ : الانفال 39 ).
الذي حدث أن فقهاء السنة ركزوا فقط على الأمر بالجهاد والقتال" قاتلوا" وأهملوا القاعدة التشريعية للقتال أو المسوغ الوحيد لإباحته وهو أن يكون القتال دفاعيا فقط . وترتب على هذا أن أصبح القتال ليس في سبيل الله تعالى لإقرار الحرية الدينية ومنع الإكراه في الدين ، وليس لمجرد الدفاع الشرعي عن النفس ، بل أصبح لتشريع العدوان على الغير وجعله ليس فقط مباحا بل واجبا شرعيا باعتباره جهادا إسلاميا.
ومن الإنصاف للفقهاء السلفيين أن نذكر بقية الصورة : لقد عاشوا في العصور الوسطى التي كانت تتفاخر بالاحتلال والهجوم على الغير وتلك ملامح العصور الوسطى والعالم إلى عهد قريب، ولم يكن العرب في جاهليتهم بمعزل عن هذه الثقافة بل كانت لهم غاراتهم التي لا تنقطع وحيث كان تشريع السلب والنهب والبغي هو التدين الثابت. ولأن الإسلام في معناه السلمي وقيمه العليا تأبى ذلك فانه كان منتظرا أن يكون جملة اعتراضية فى تلك العصور وكان لا بد أن يعود العرب الى ما ألفوه ولكن مع تغيير هائل وشائن ، هو استخدام اسم الإسلام ذاته في الاعتداء على الغير الذي لم يعتد عليهم. وهذا ما فعلته قريش بعد موت النبي محمد في اعتداءاتها التي حملت تعبير الفتوحات الإسلامية زورا وبهتانا. ثم قام المؤرخون بتسجيل سيرة النبي بعد موته بقرون – وبأثر رجعى - ووضعوا فيها كل ملامح عصرهم من قتال هجومي واغتيال سياسي وإرهابي وانحراف خلقي. ثم قامت الأحاديث بنسبة تلك الصورة عبر الإسناد المزيف للنبي ثم جعلوه دينا سموه السنة وزعموا أنها جاءت وحيا من الله تعالى. وأصبح على الفقهاءـ وهم أنفسهم في الأغلب علماء حديث أيضا ـ أن ينشئوا تشريعا جديدا يخالف القرآن ويتصالح مع ثوابت العصر ، فقاموا بهذه المهمة ليس تحت لافتة التأويل وإنما تحت مسميات ومصطلحات أخرى منها " الفقه" و"النسخ" و"السنة" الخ.
ولأن هذا ينافى التقوى وهى لب الإسلام والمقصد الأعظم لتشريعاته فانه جرى أيضا إهمال الإشارة إلى التقوى أو الخشية من الله تعالى .
وقد أشرنا إلى ارتباط التشريعات القرآنية الدائم بالتقوى حيث يكون المسلم رقيبا على نفسه قبل أن يكون المجتمع أو السلطة أو الضبطية القضائية رقيبا عليه. ومع هذا الاقتران بين التشريعات القرآنية والتقوى الإسلامية إلا أننا لا نجد إشارة لها في الفقه السلفي في عصر الازدهار الفكري، لا في فقه العبادات أو المعاملات. وبحذف هذا الجانب الباطني - أو الروحي بالتعبير السائد – ركز الفقه السلفي في ازدهاره الفكري على التدين السطحي المظهري وتجميع كل تفصيلاته الممكنة والمتصورة وفق المنهج الصوري السرياني في الاستقصاء للحكم الفقهي. ثم انحدر الفقه السلفي في عصوره المتأخرة والمتخلفة إلى الدخول على التصورات السخيفة المستحيلة الحدوث والتي امتلأت بها كتب الفقه في العصر العثماني: مثل " ما حكم من حمل على ظهره قربة فساء ، هل ينقض وضوؤه أم لا؟... من جاع في الصحراء ولم يجد إلا جسد نبي من الأنبياء ، هل يجوز له الأكل منه؟ ...ما حكم من زنى بأمه في نهار رمضان في جوف الكعبة ؟ وماذا عليه من الإثم ؟؟ ....وما حكم من كان لقضيبه فرعان وزنى بامرأة في قبلها ودبرها فهل يقع عليه حد واحد أم حدان؟؟
كل ذلك لا زلت أتذكره من الفقه التراثي الذي كان مقررا علينا في الأزهر الشرف جدا جدا وكان يخدش حياءنا حينئذ، ثم ظل مقررا على الجيل الذي أتى بعدنا بعد توسع الأزهر في كل القرى المصرية دون إصلاح لمناهجه وفكره. ودخل في الأزهر أفواج من المراهقين في تعليمه الإعدادي منهن فتيات قاصرات في براءة الطفولة وحياء العذارى ونقاء الفطرة كان عليهن دراسة هذا الفقه القذر المتخلف, ولم يتم حذف سطوره إلا بعد مقالات لي كوفئت عليها بالتكفير في أوائل التسعينيات. ونمسك القلم عن المزيد حتى لا نخرج عن موضوعنا.

– على أن المحصلة النهائية لتأويل القواعد التشريعية القرآنية امتدت لتشمل : -
* عدم الاكتفاء بالقرآن الكريم مصدرا وحيدا للتشريع الإسلامي ، فأضافوا إليه مصادر أخرى له ابتدعوها مثل الأحاديث والإجماع والقياس والمصالح المرسلة وبعضها كان ستارا للتأويل أو إلغاء النص القرآني مثل سد الذرائع الذي استطاعوا به تحريم وجوه كثيرة من الحلال .
** كثرة وسهولة إنتاج الكثير من المصطلحات الفقهية ، وبعضها كان من مصطلحات القرآن ولكن حرفوا معناها مثل الحدود التي تعنى في القرآن الكريم الشرع والحق فجعلوها تعنى العقوبة, وقاموا بتحوير بعض المصطلحات القرآنية لتكون نقيض معناها القرآني ، مثل النسخ ـ وقد أشرنا إليه ـ والتعزيز الذي يعنى في القرآن التقديس والمؤازرة والتأييد فجعلوه في الفقه يعنى الإهانة والعقوبة.
*** كثرة وسهولة الوضع في الأحاديث ، وكثرة وسهولة استعمال كلمة( يسن) في تشريع الفقهاء ، هذا عند الفقهاء من مدرسة الأحاديث .
ويقابلها لدى الفقهاء من مدرسة الرأي من الأحناف اختراع فقة الحيل أي اخترعوا حيلا شرعية يمكن بها تجاوز التشريعات القرآنية ، فإذا اقسم رجل على أن ينام بزوجته في نهار رمضان قالوا له ( سافر بها ) فإذا سافر بها أصبح يجوز له أن يفطر ومن ثم يحق له أن ينام معها في نهار رمضان ، وتخصصت كتب كثيرة في فقة الحيل وافانينه .
كل ذلك تأويل وتعطيل لشرع الله تعالى ، وبدأ هذا بالأساسيات وانتهى إلى التفصيلات ، وعن طريق ذلك التأويل قام الفقهاء السنيون بتطويع النصوص القرآنية لتوافق هواهم. لم يستعملوا لافتة التأويل وإنما قاموا بالتأويل الفعلي والتحريف لتشريع القرآن الكريم تحت مصطلحات أخرى .

خامسا :- التأويل المعاصر بين السلفية ونصر حامد أبو زيد

1- إن السياسة هي السبب في ظهور التأويل لدى المسلمين، اذ حاولت كل فرقة أن تدعم وجهة نظرها السياسية بالتأويل أي بتطويع نصوص القرآن واختراع نصوص مقدسة ينسبونها لله تعالى أو للنبي ، وذلك لكي يحصل على مشروعية دينية ، ثم أصبح ذلك عادة سيئة لدى الطوائف غير السياسية مثل الصوفية والفقهاء ، وهذا هو مجمل تاريخ المسلمين وتاريخ الفكر الديني لديهم طيلة العصور الوسطى .
ثم قامت في مصر الدولة الحديثة في عهد محمد على وبدأت فيها استنارة دينية بلغت ذروتها في فكر الأمام محمد عبده الذي اتجه للقرآن أساسا واحتكم إليه في مشاكل الفكر الديني للمسلمين ، وحاول أن يضع إيديولوجية مستنيرة للدولة المصرية المدنية، ولكن من سوء الحظ أن ضاع جهد محمد عبده التنويري. أضاعه تلميذه السلفي رشيد رضا، وقد كان رشيد رضا عميلا للدولة السعودية، وقد أدرك عاهلها عبد العزيز آل سعود انه لا استمرار لدولته السعودية الثالثة بدون الاعتماد على مصر كي تكون عمقا استراتيجيا له وليستعين بمصر ضد خصومه الشيعة داخل دولته وحولها . ولكي تصبح مصر عمقا له لابد أن يتحول تدينها الإسلامي وفكرها الديني من التصوف السني والاعتدال إلى السلفية الحنبلية الوهابية السنية ، ونجح رشيد رضا في نشر الفكر السلفي الوهابي من خلال الجمعية الشرعية وأنشأ عن طريق أعوانه جمعيات سلفية أخرى فكرية وحركية ثم كان الأب الشرعي لحركة الإخوان المسلمين السنية .
ثم جاء عصر النفط –ضمن عوامل سياسية أخرى- فأتيح للفكر السفلى أن يتسيد ، وان يقدم نفسه على أنه الممثل الشرعي للإسلام ذاته .
ومن الطبيعي أن توجد مقاومة مضادة حمل لواءها الفكر العلماني الذي يحاول جناح منه عدم إقصاء الإسلام جملة وتفصيلا حتى لا يترك الساحة للسلفيين الوهابيين. لذا قام هذا الجناح بإنتاج فكر إسلامي يواجه الفكر السلفي ، ومن الطبيعي أيضا أن تتسع المواجهة السياسية والفكرية بين الفريقين السلفيين والعلمانيين ، وترتب على ذلك استقطاب حاد بين الاتجاهين ، وذلك الاستقطاب الحاد أدى إلى تهميش اتجاهات فكرية دينية أخرى على الساحة ، مثل الاتجاه التنويري القرآني الذي بدأه الإمام محمد عبده والاتجاه الصوفي ـ الذي يتميز بالسلم وان كان مثقلا بالخرافة والجهل ـ والاتجاه الجنيني للفكر الشيعي داخل مصر . كما أدى ذلك الاستقطاب إلى وقوع الاتجاهين المتصارعين في التطرف الفكري معا . وانعكس هذا على موقفهما من التأويل .
2-وندخل بذلك على الفرق بين تأويل د. نصر حامد أبو زيد ممثل الاتجاه العلماني وتأويل السلفيين .
فالسلفيون يرفضون التأويل في الأصول شأن السابقين من أهل السنة ، وان تطرف الوهابيون وأنكروا تماما وجود المجاز في القرآن .
وبهذه المناسبة حدثت هذه القصة التي كان المجتمع الأزهري بتداولها في الثمانينيات: الشيخ عبد العزيز بن باز المفتى الوهابي المشهور استضاف بعض الاساتذة المصريين المعارين للمملكة السعودية ، واستعرض أمامهم سطوته الوهابية وأكد لهم أنه ليس في القرآن مجاز وان كل لفظ في القرآن على حقيقته ، والمعروف أن الشيخ ابن باز كان ضرير البصر ، فتصدى له أستاذ مصري هو" الدكتور الحوفى" الأستاذ المشهور وقتها في كلية دار العلوم – وكان معارا للسعودية وحضر هذا اللقاء ولم تكن منزلته تسمح له بالسكوت على الجهل الذي يسمعه متحصنا بقوة الريال. أندفع الدكتور الحوفي وقال له: إذا يا فضيلة الشيخ فأنت من أهل النار لان الله تعالى يقول " ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) وسكت الشيخ ابن باز ثم قال أخيرا ( لقد أفحمتني ويلغى عقدك) !!
والجدير بالذكر أن مصطلح " أعمى " جاء في القرآن بمعناه الحقيقي في سياق التشريع الذي يأتي بأسلوب محدد واضح، كقوله تعالى ( ليس على الأعمى حرج : النور 61 ، الفتح 17) ويأتي نفس المصطلح في سياق الدعوة بالأسلوب المجازى ليعنى الضلال والعمى القلبي ، كقوله تعالى ( صم بكم عمى فهم لا يعقلون : البقرة 171 )

وهذا التطرف السلفي في رفض المجاز في القرآن يؤكده تطرف سلفي آخر في رفض كل مالا يتفق مع مقولات ابن تيمية في الحياة العصرية ومنجزاتها ومكتشفاتها وآرائها، كان منها رفض ابن باز لكروية الأرض ودورانها حول الشمس وهبوط الإنسان على القمر.
وهذا التطرف السلفي يواجهه تطرف آخر في التأويل العلماني الذي ظهر مع مؤلفات د. نصر أبو زيد إذ قال بالتأويل في الأصول والفروع معا ، حيث قال بتأويل السمعيات الغيبية في حديثة عن العرش والجن كما قال بتأويل التشريعات القرآنية حين ربطها وقصرها على مواقع النزول وجعلها مقصورة في التطبيق على عواملها الاجتماعية التي صاحبت نزول القرآن, ومن هذا المنطلق دعى إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث ، كما خاض في موضوع خلق القرآن ليس على أسس مذهب الاعتزال ولكن ليصل به إلى القول بأن القرآن منتج ثقافي تأثر بعصره وذلك يعنى في مفهوم خصومه إنكار القرآن والتهوين من الاعتماد على تشريعه حيث يرتبط بظروف نزوله وثقافة عصره .
إلا أن هذا التطرف الفكري لدى نصر أبو زيد نجا من خطيئة كبرى وقع فيها الفكر السلفي والسني إذ أن نصر أبو زيد لم يجعل لهذا الفكر مرجعية دينية ، وإنما قال انه اجتهاد بشرى يقبل الخطأ والصواب ، أي سار على طريق المعتزلة والفلاسفة المسلمين العظام من الهذيل والعلاف إلى ابن رشد ، ولكن عرفنا أن تطرف التأويل لدى السنيين والسلفيين حمل زورا مرجعية دينية ، أي تجعل المخالفين لهم مخالفين للإسلام .

3- وكما رددنا على تأويل السابقين فإننا نلمح باختصار إلى الرد على التأويل الذي قال به نصر أبو زيد ، فالصحيح أن للفكر الديني وغير الديني عند المسلمين وغيرهم جذورا اجتماعية ، وسياسية ونفسية ، لأنه فكر أرضى بشرى يتأثر بالظروف الزمنية والمكانية والشخصية لأصحابه ولكن لا ينطبق ذلك على الكتاب السماوي الذي نزل من السماء لإصلاح آهل الأرض، وليس للتأثر بأهل الأرض .
صحيح أن الوحي الإلهي يتشابك مع حادثة أرضية ويقوم بالتعليق عليها ، وهذا ما يعرف بأسباب النزول ، ولكن السياق القرآني في هذه المواضع يقوم بتحويل الحادثة المرتبطة بالزمان والمكان والأشخاص إلى حالة بشرية عامة ويجعلها عظة تدور فوق الزمان والمكان ، أي يخلصها من اسر الواقعة التاريخية ويحررها من ذلك الارتباط الزمان والمكاني لتكون صالحة للتطبيق والعظة في كل زمان ومكان ، وهذا هو منهج القرآن الكريم في القصص عموما وفى التعليق على الإحداث التي جرت في عهد النبي محمد و غيره من الأنبياء ـ عليهم السلام. القصص القرآني لا تجد فيه ذكرا للأسماء والأشخاص أو الزمان أو المكان ، كي تتحول القصة من التاريخ المحدد إلى التشريع والعظة وبذلك يظل النص القرآني والتشريع القرآني ساري المفعول في كل زمان ومكان . وهذا ما فصلناه في كتابنا " البحث في مصادر التاريخ الدين " والذي قررته على طلبتي في الأزهر سنة 1984.
وصحيح أن التشريعات القرآنية جاء بعضها مرتبطا بظروفه الزمنية والمكانية وذلك في التشريعات الخاصة بالنبي وزوجاته وتعاملاته مع أصحابه، ولكن التشريعات العامة جاءت في سياق يؤكد سريانها فوق الزمان والمكان وفى إطار قواعد تشريعية ملزمة ، وجاء في سياقها الاستثناءات الخاصة بها ، والمقاصد التشريعية التي تطبق من خلالها.
فالتشريع القرآني له مقاصد عامة وهى ( القسط ، والتخفيف ورفع الحرج ) وله قواعد عامة ملزمة في القتل والقتال ( القصاص ، ورد الاعتداء ) وهذه القواعد تدور في إطار المقاصد العامة السابقة كما أن هذه القواعد تدور في إطارها الأحكام التفصيلية وذلك موضوع شرحه يطول .
ولكن المهم أن الذي يتصدى لفهم التشريع القرآني عليه قبل ذلك أن يتعرف على مصطلحات القرآن نفسه من داخل القرآن ، وان ينظر من خلالها للتراث وليس العكس لان الذي يحدث هو أن يدخل الباحثون- قديما وحديثا – على القرآن بمفاهيم التراث وبأحكام مسبقة ، ثم يأخذون من القرآن ما يوافق هواهم اى بالتأويل ولديهم تلك المقولة التراثية القائلة ان القرآن (حمًال أوجه) وهى مقوله منسوبة للأمام على بن أبي طالب, ولم تكن الثقافة السائدة في عصر "على" تحتمل هذا المنطق ، خصوصا وان ثقافة الصحابة القرآنية تجعلهم يحجمون عن اتهام القرآن بأنه "حمًال أوجه " لان الله تعالى يؤكد على أن القرآن كتاب مبين وانه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير " وأنه لا عوج فيه" وانه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .

ولكن المشكلة لدى نصر أبو زيد ليست انه لم يتفهم مصطلحات القرآن فقط بل أنه أيضا لم يتفهم تاريخ المسلمين وهو الأرضية التي نبتت فيها فكر المسلمين واختلافاتهم وبذلك تركز بحثه على السطح الخارجي للآراء, وكان أولى به وهو يؤمن بالظروف الاجتماعية والتاريخية للنصوص أن يتعمق في دراسة الواقع التاريخي والاجتماعي ، ولكنه لم يفعل . وقد قمنا عنه بهذه المهمة في كتبنا ، وخرجنا بالاعتقاد التام في أن القرآن فوق التأثر التاريخي وان فكر المسلمين هو النتاج الحقيقي لظروف المسلمين التاريخية وقد أوضحنا هذا في دراستنا الأولى في الدكتوراه عن " اثر التصوف في مصر العصر المملوكي " وأكثر من عشرين مؤلفا منشورا ومن خلال هذه المؤلفات المنشورة وغير المنشورة أوضحنا الفجوة الهائلة بين الإسلام والمسلمين وبين الإسلام وفكر المسلمين الديني .
وبهذه المناسبة فإن كتاب د. نصر أبو زيد عن الشافعي يقرر فيه أن فلسفة الشافعي قد بناها على الصراع والعداء الذي قام بين الشافعي والدولة الأموية ,والمؤلف يفترض أن الشافعي قاوم الدولة الأموية وعانى من سطوتها والمؤلف لا يدرك أن الشافعي ولد بعد انهيار الدولة الأموية بثمانية عشر عاما ، إذ ولد الشافعي سنة 150 هــ وتوفى سنة 204هــ خلال الدولة العباسية فكيف تصارع مع الأمويين وتأثر في فلسفته الوسطية بهذا الصراع.
ومع هذا فأن للدكتور نصر أبو زيد وغيره تمام الحرية في البحث وفى الرأي وقد دافعت عن حريته في البحث بأكثر من عشر مقالات وبكتاب عن الحسبة يؤكد أن الحسبة ليس لها أصل في الإسلام .

وتبقى عدة محددات لنتذكرها

الدين شيء والفكر الديني شيء آخر ، الدين أوامر ونواهي ومعتقدات ، والتمسك بها أو الابتعاد عنها مسئولية شخصية والحساب عليها لله تعالى وحده يوم القيامة . وهذا الدين ينزل كتابا سماويا ليس له مؤلف من البشر ولكنه وحي إلهي يقوم النبي بتبليغه وخاتم النبيين جاء بالقرآن محفوظا إلى قيام الساعة.
العادة أن تقوم الفجوة بين الدين السماوي وما يفعله الناس ويقوم الشيوخ بتغطية هذه الفجوة بالتأويل وباختراع نصوص بشرية ينسبونها للنبي أو لله تعالى ، ويجعلون لها قدسية ومرجعية زائفة وبذلك يتحول الفكر الديني إلى دين .وهذا ما فعله الشيعة والسنة والصوفية وغيرهم . ولكن تبقى الحقيقة الثابتة في أن الدين هو كلام الله في الكتب السماوية وأخرها القرآن المنزه عن التحريف ، ويبقى الواقع التاريخي والإنساني في أن كلام البشر هو كلام إنساني له مؤلفون من الأئمة ، يقبل النقاش والخطأ والصواب ، وان أولئك الأئمة لا يملكون شيئا يوم القيامة, وان الله تعالى صاحب الدين سيحاسبهم كما يحاسب سائر الناس, أي أنهم ليسوا أصحاب دين وإنما هم أصحاب مذاهب فكرية بشرية .
إن أخطر ما نقع فيه هو أن نخلط بين الدين الإلهي والفكر البشرى ونجعل لفكر البشر قدسية ونجعل لأصحابه عصمة وتأليها ، وأيضا من اخطر ما نقع فيه هو أن نصدق تلك المرجعية المزيفة وهى أن ذلك الفكر قد قاله النبي في تلك الأحاديث سواء ما كان منها سنيا أو شيعيا أو صوفيا ، إن الخطورة هنا تقع على الإسلام ، إذ يحمل أوزار المسلمين ويصبح محصورا في زمان بعينه وثقافة بعينها , ومن ثم لا يكون صالحا لكل زمان ومكان.
إن الإسلام يحتاج إلى من يعانى في سبيل إظهار حقائقه وقيمه العليا ويحتاج إلى من يدافع عنه ضد أولئك الذين يشوهون صورته ومبادئه. وأفظع خطيئة يقعون في حضيضها هي سعيهم لإقامة دولة سلفية على أساس هذا الافتراء الذي يشين الإسلام العظيم ، ليضيفوا خطيئة أخرى إلى خطاياهم.
إن تطبيق التشريع السلفي ليس فقط حكما ما أنزل الله تعالى به من سلطان ، بل هو إعلان حرب على الله تعالى ورسوله لابد وأن يقابل بالعقاب الإلهي. وانظر حولك لترى هذا العقاب يحل بالمسلمين وحدهم مع ثرائهم وتاريخهم وكثرتهم.
ولا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم..!!!