ورسالة جديدة لروح عبد الناصر 2012

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ٢٤ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

واحدٌ وعشرون عاماً مَرّت منذ أنْ كتبتُ لكَ رسالتي الأولى، وأعدتُ نشرَها أمس بمناسبِة العيد الوطني في 23 يوليو المجيد، وقد رأيتُ أنْ أكتب لكَ رسالة جديدة أُطـْـلـِـعـُـك فيها علىَ بعضِ مُستجدات العقدين الماضيين، فهل تتحمل سماعَها؟ أشك في هذا!
المرة الأولى التي أرسلتُ لكَ فيها رسالة حقيقية مُطولة عن نقص في دواء لحساسية العيون من أجل عيون أعزّ أصدقائي، ولم أكن قد بلغت الثامنة عشرة من العمر. وتسلمتُ الردَّ، وذهبتُ مع صديقي إلى مؤسسة الأدوية في الإسكندرية فاستقبلنا مديرها استقبال الأبطال وهو يرتعش، ويؤكد لنا أننا أولاده فلماذا نرسل إلى الرئيس جمال عبد الناصر نشكوه نقص الدواء؟
كنت أعلم أنكَ لا تُهمل رسالة أو طلباً أو شكوى رغم أنني لم أكن في يوم من الأيام ناصرياً، فطبيعتي تتعارض مع انتسابي إلى رجل أو زعيم أو مرشد أو أمير للمؤمنين لأن كل الكبار عندي كانوا أصغر مما تصورهم وسائل الإعلام!
لا تتعجل، يا حبيب الملايين، فستصدمك مفاجأة عن سيد القصر الذي اختاره نصفُ المصريين فأصبح نصفَ رئيس كلما أصدر أمراً اعتذر بعده بسويعات قليلةٍ لوزير دفاعِه أو المحكمة الدستورية!
منذ سبع سنوات نشرت مقالاً بعنوان ( خوفي على مصر من الإخوان المسلمين)، وصدق حدسي، وتحققت مخاوفي، واستعرضتْ القوى الدينية عضلاتها كما فعلت من قبل في فناء الأزهر الشريف، ولكن إذا تسللت إلى العقل الظاهر والباطن لأي قيادي فيها لوجدت اسمك الكريم محفوراً وعليه شعار ( الانتقام القريب)!
وظهر جيلٌ من المصريين يرىَ كثيرٌ منه أن زبيبة الصلاة أهم من محو الأمية، وأن اللحية هي الميثاق الوطني المُلزم عقداً وعهداً للمصريين، وأن الكتب الصفراءَ المُعفـَّـرة تحت الركام في سور الأزبكية ستكون بدلا من بيان 30 مارس أو من كتاب فلسفة الثورة.
الشعب في مصر على دين زعيمه، إذا أفصح عن عروبتِه، حـَـلـِـمَ الناسُ معه بأمةٍ عربية واحدة، وإذا تفرّنج اعوجّت ألسنة المصريين لتصبح الضادُ ثاءً، وتزيح (الثانك يو) روائع المتنبي من طريقــِــها!
وإذا اعتمر قــُـبـَّـعـَـة تــَـتـَـرَكَ المصريون واستقبلوا قــِـبـْـلــَـتهم في الأستانة، وإذا تأزّهر استشهدوا في حواراتِهم بالأحاديث النبوية، وإذا تشـَـيــَّـع نجفوا، وإذا توَّهـَـب نجدوا، وإذا تأمرك باشوا( نسبة إلى بوش)، وإذا تعملق تقزموا، وإذا صـَـمـَـت صرخوا، وإذا صاح فزعوا!
وأنت كنتَ مصريا، وعربياً، وأفريقيا، فانعكس كل ذلك على آمال وأحلام وطموحات المصريين، وعبــَّـرت عنها الفنون والآداب والسياسة والاجتماع والدبلوماسية.
تكالب عليك الغرب، وابتزك بعضُ الشرق، وكلما أوجعوا ظهرَك، قمتَ كأنك لم تــُـصــَـب بأي أذىً أو هزيمةٍ أو طعنك غادرٌ من حيث لا تدري.
قالوا عنك بأنك دخلت حروباً فاشلة، فأمسكوا في خناقك وحــَـكـَـموا ضمنا بالبراءة علىَ قوىَ الاستعمار والبغي.
في عام 1948 لم ندخل حرباً لأن الإحتلال البريطاني كانت له الكلمة الفصل، والملك مشغول بنسائه وخمره وقِماره، فكانت النكبة الــمـُـرّة.
في عام 1956 لم تفعل أكثر مما يفعله أي وطني عاشق لتراب مصر وبحرها ونيلها وقناتها، فكانت ( تؤمم الشركة العالمية لقناة السويس شركة مساهمة مصرية)، وجاءت أساطيل بريطانيا وفرنسا وإسرائيل برا وبحرا وجواً، وخرج الإحتلال بفضل مقاومة شعبنا، وأيضا صراع القوى الأكبر من رؤوس العدوان الثلاثي.
في عام 1962 استنجد بك عبد الله السلال لتقف مع اليمن الذي ظل عقوداً طويلة يستعبده حُكم الإمامة البغيض، ونصرتَ شعبا عربيا سقط من هامش التاريخ، لكنهم لم يتركوك فكان النزيف لخمسة أعوام.
وفي عام 1967 استفزّوك من كل صوب وحدب، ولكنك لم تهاجم، ولم تأمر بالاعتداء، ومن تُجرح عنزته فيحرق لك حظيرة دجاجك فلا ذرة هنا من صور العدل، وبسطت سيادة مصر على ممراتها المائية، فضربتْ إسرائيل الطائرات المصرية الجاثمة فوق أرض الوطن، وأعتدت، وقتلت، وذبحت الأسرى المسالمين، وأمدَّتها واشنطون بترسانة أسلحة صالحة لمجابهة دول عظمى، لكن خصومك زعموا أن هزيمتك من الله لأنك حاولت تحرير اليمن، واصطدمت مع الإخوان المسلمين عامي 1954 و1965 .
ووقفت على قدميك للمرة الأخيرة لتبني جيشا مُفكـّـكا، ومنهاراً، ومهزوما، فكانت حرب الاستنزاف بعد أسابيع معدودة، واغراق المدمرة ( إيلات ) وبناء قوة بدونها ما كان لنا أن ننتصر في حرب أكتوبر بعد رحيلك بثلاثة أعوام.
ظهر الآن، ياحبيب الملايين، جيل لم يعرفك، لكنهم لقــَّــنوه أكاذيب عنك لا تستطيع حتى الدولة العبرية أن تكذب مثلها.
أنت في ذمة التاريخ، لكن خصومك يحلمون بتدمير ضريحك، وبعثرة قبرك، وتسويد صفحات حُكمك رغم أن بقاءك في السلطة لم يزد عن ثمانية عشر عاماً، فنسوا السادات، وتناسوا مبارك، وأمسكوا في رقبتك كأنك مسؤول عن كل كوارث مصر منذ بناة الأهرام وحتى لقاء الرئيس محمد مرسي بالسفيرة الأمريكية!
جمال يا حبيب الملايين،
هل تتذكر يوم تم فتح خــَـزانتك فوجدوا أقل من خمسة آلاف جنيه مصري هي كل ثروتك كحاكم أوحد لمصر؟
هل تتذكر يوم قيل لك بأن المصريين في ألمانيا الغربية يعانون من معاملة سيئة، فأعطيت أوامرك لرجال الجمارك أن يعاملوهم بالمثل.
كان الألماني الغربي يأتي إلى مطار القاهرة الدولي بأدب جم، فيقوم رجال الجمارك بتفتيشه، وبعثرة ملابسه، وجعله ينتظر وقتا طويلا. وعندما وصل الأمر للسفارة الألمانية الغربية في القاهرة، وفهمت السلطات في برلين أن عبد الناصر لا يمزح في كرامة المصريين، تغيرت المعاملة، وعادت للمصري كرامته في زياراته للدول الغربية؟
كانت القيادات العربية تتشاجر، وتتناحر، وتتشاتم، كعادة العرب، وعندما تتخاصم تأتي بهم إليك، من الجزائر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين والسودان فيجلسون أمامك كتلاميذ السنة الأولى الابتدائية أمام ناظر المدرسة، وبعدها يــُـقـَـبـِّـل كل زعيم رأسَ خصمه، فعبد الناصر حاضر!
منذ سنوات كنت في طريقي من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة في سيارة ميكروباص كبيرة. جلست بجانب السائق، فتشاجر يمني وسعودي على شرف الجلوس بجانب المصري، الذي هو أنا، وفاز أحدهما! في الاستراحة سألتهما عن السبب، فقال اليمني بأنه مدين لكل مصري أخرج بلده من ظلمات العصور الوسطى، ولو كان الأمر بيده لصنع تمثالا لكل جندي مصري سقط شهيداً في اليمن! السعودي قال لي: لقد تربيت على حكايات والدي عن عبد الناصر رغم مشاعر عدم الودّ بين الرياض والقاهرة في ذلك الوقت.
هل تتذكر يوم غضبك عندما قيل لك بأن السفير البريطاني ينتظرك بدون موعد مسبق، فطلبت من سكرتاريتك أن ( يلطعوه) لمدة ساعة، ثم يطلبون منه العودة إلى سفارته، فرئيس مصر يحمل معه كرامة شعبه؟
لم يسعفك الحظ أن تحارب دولة أو عدواً فارساً نبيلا، فكلهم غدروا بك. في النكبة الفلسطينية والأسلحة الفاسدة كان الاستعمار البريطاني الفرنسي لأمتك العربية الغالية هو المخطط لهزيمة العرب، وغدروا بك في العدوان الثلاثي، وغدروا بك بدعمهم للقبائل لإعادة حُكم الإمامة في اليمن، وغدروا بك في نكسة 67، وغدروا بك في رفض تمويل السد العالي، وغدروا بك في رفض بيع السلاح فجاءت الصفقة التشيكوسلوفاكية.
أوجعتهم في حرب تحرير أفريقيا من الجزائر إلى الكونغو، ولم تكن في عهدك فتنة طائفية، وخرجت روائع الفن والأدب والغناء والسينما والثقافة في السنوات القليلة التي حكمت فيها أرض الكنانة.
لا يتخيل عاقل أن تكون أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفريد الأطرش وعبد الوهاب والسنباطي ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وجمال حمدان في عهد مبارك، مثلا، أو برعاية سلفه.
لا أحب الخوض في المقارنة بينك وبين الرؤساء الثلاثة الذي جاءوا بعدك: فالسادات كان متعاجبا بنفسه حتى أنه جلس أسابيع طويلة لمدة ساعتين في اليوم مع نحّات تركي لعمل تمثال ينافس تمثال رمسيس الأول، والثاني كان أعتى وأغبى وألعن طغاة مصر كلهم، واكتشف المصريون بعد ثلاثين عاماً أنه كان أيضا لصاً ومهرباً أموال الغلابة لحساباته في الخارج، أما الثالث فهو نتاج صفقة إخوانية عسكرية أمريكية متشابكة ومعقدة وطلسمية.
لكنني اضطررت لكتابة رسالتي تلك إليك لأبثك أحزاني وأوجاعي وآلامي، رغم أنني لم أكن ناصريا ولن أكون، ولا أنــَـزِهـك عن أخطاء قاتلة ارتكبتها وفي مقدمتها السجون والمعتقلات التي جعلت كل إخوانجي مشروع تشويه لتاريخك ما بقي له ولأولاده من عُمر!
لن أقصّ عليك من نبأ سوريا والعراق واليمن والجزائر والسودان والأردن والقواعد الأمريكية وحرمان المصريين من الغاز لتصديره لإسرائيل.
كنت تحافظ على أرواح الأفارقة السُمر كأنهم مصريون، ولو علمت، أيها الزعيم الغائب، أن صفقة بيع السلاح للهوتو في رواندا كانت بأوامر من مبارك وبلغت خمسة مليارات دولار انتهت إلى ذبح مليون من التوتسي في أقل من مئة يوم( عام 1994)، لما صدَّقت أن قارتــَـك السمراء دفعت ثمنا غاليا في صفقة الموت حتى تزداد حسابات لص مصر عدة أصفار على اليمين.
شباب صغير سمعوا عنك، وردّدوا كالببغاء أنك سبب مصائب مصر رغم غيابك عنا لأكثر من أربعين عاما، وقــِـصـَـر فترة حُكمك التي أتاك فيها الاستعمار من كل جانب لئلا تنهض مصر، ومع وصول الإخوان المسلمين والرجعية الدينية والسلفية الحمقاء وقناة المنقبات ودعاة تفخيذ الأطفال ورضاع الكبير وعدم جلوس المرأة على الكرسي لأنه مذكر وهي مؤنثة، فلكَ، أيها الحبيب الغائب، أن تتخيل مـِـصرَك في عهود لاحقيك.
لا أحب أن أناقش أو أجادل أو أحاور عن تاريخك وعهدك وانتصاراتك وهزائمك لأن النتيجة معروفة سلفاً، إما ناصري يجعل منك ملاكا، أو خصم يرسمك في صورة شيطان وكلاهما يعمل ضدك.
لم أحدثك عن شباب الثورة الذين لم يعرفوك فقد جاء أكثرهم إلى الدنيا بعد رحيلك بعشرين عاما، وكان كثيرون منهم يرفعون صورك وشعاراتك فأجبروا برفع أحذيتهم في وجه اللص اللعين أن يتنازل، ظاهريا، عن عرش مصر، وظل رجاله في الحُكم بعد سرقة أطهر ثورات العصر .. 25 يناير 2011.
إنها قطرة من بحر كلمات أريد أن أنصف بها تاريخك ليعلم الجاهلون به أن ظروف حُكمك في محاولات حثيثة لعودة الاستعمار باعتداءات متواصلة على مصر منذ ثورة يوليو هي التي جعلتهم يظنون بك ظن السوء.
كنت في العشرين من عمري عندما تم استدعائي لمباحث أمن الدولة في الاسكندرية في فبرايرعام 1967، وظننت أن السبب كان رسالة مطولة أدبية أرسلتها إلى السفارة السعودية في القاهرة وكتبت فيها أن الخلافات بين الفيصل وعبد الناصر لن تؤثر في شعبنا العربي. وكانت فقط بعض الاستفسارات، وصافحني رئيس الجهاز الأمني الذي يخاف منه المصريون وقال لي: انتقد من تشاء في مصر فهذا بلدك، ولكني أنصحك أن تبتعد عن أي جماعة أو فرقة يمكن أن تؤذيك أو تؤذي مصر لاحقاً.
وقضيت بعد هذا اللقاء خمسة وأربعين عاماً أنتقد فيها عبد الناصر ثم السادات فمبارك فالمشير فمرسي ولم أعرف في حياتي كبيرا إلا صغيراً، ولم أضع توقيعي على أي عضوية في جماعة أو فرقة أو مذهب أو جمعية أو حزب فكل الكبار صغار كما علمتني خبرتي المتواضعة في الحياة.
أطلت عليك، لكنني أردت أن أنبهك بأن اغتيالك الرابع بدأ منذ وقت قصير. الأول كان حادث المنشية، والثاني مؤامرة هزيمة يونيو 67 فلم تنكسر، والثالث أمركة مصر مع أربعة زعماء، انفتاحي لأحد عشر عاما، ولص لثلاثين سنة، وجنرال لعام ونصف واخوانجي في شهره الثاني، أما الاغتيال الرابع فهو مسح كل آثارك من ذاكرة المصريين، فالإخوان المسلمون وسلفيوهم بدأوا يهيلون التراب على عهدك وتاريخك ونضالك وابتسامتك وحبك لشعبك ومصريتك وعروبتك وأفريقيتك واستقلالية القرار المصري.
هذه رسالة من مواطن لم تسقط دمعة واحدة من عينيه عندما رحلتَ عنــّـا وأنا في الثالثة والعشرين من العمر، لكن دموعي سقطت على وجهي بعدها بعشرين عاماً عندما كتبتُ رسالتي الأولى في مقال عام 1991.
كنت أود أن لا أفصح لك عن أكثر الأوجاع إيلاما فأنت لن تصدق ولو أتيت لك بشعبك كله شاهدا عليها. لقد رفضت الرجعية الدينية أن تقف احتراما وإجلالا وتعظيما للعــَـلــَـم المصري، ووضعت أصابعها في أذنيها لئلا تسمع النشيد الوطني فهم لا يؤمنون بــ( بلادي .. بلادي، لكِ حبي وفؤادي)، إنما يرون أن جنسية المسلم عقيدته.
أتركك الآن بين يدي ربك، يرحمك، ويسكنك فسيح جناته، ويحمي مصر من الذين جاءوا بعدك.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 24 يوليو 2012

اجمالي القراءات 8654