مصر قبل عصر قايتباى بين التاريخ والمؤرخين فى عرض سريع

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١١ - يوليو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

مصر قبل عصر قايتباى بين التاريخ والمؤرخين فى عرض سريع

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة فى عصر السلطان قايتباى ): دراسة فى كتاب (إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

فصل تمهيدى :

أولاً: مصر قبل عصر قايتباى بين التاريخ والمؤرخين فى عرض سريع  

( الأحوال السياسية ـ المصريين وظلم الحكام . دخول المصريين الإسلام أفواجاً منذ العصر الفاطمي .

استمرار ظلم الحكام بعد انتشار الإسلام . مقاومة الشعب المصري لظلم المماليك  )

 الأحوال السياسية:

1 ـ فتح عمرو بن العاص مصر فصارت ولاية إسلامية عربية خضعت للخلافة الراشدة ثم الخلافة الأموية ثم الخلافة العباسية في عصرها الأول. وأتيح لمصر أن تكون ولاية تتمتع بالاستقلال الذاتي في إطار الخلافة العباسية وذلك في عصر الدولتين الطولونية (254-292هـ) والأخشيدية (323-358هـ).ثم أصبحت مصر مقراً للخلافة الفاطمية الشيعية تناوىء بغداد مركز الخلافة السنية بل وتحاول نشر الفكر الشيعى والنفوذ الفاطمي في الشرق ، وذلك في العصر الفاطمى (358-567هـ). ثم استولى صلاح الدين الأيوبي على مصر وأرجعها للنفوذ الأدبي للخلافة العباسية السنية وأسس الدول الأيوبية التى اضطلعت في عصره بالجهاد ضد الصليبيين، إلا، خلفاءه تقاعسوا في الجهاد وتصارعوا فيما بينهم مما أضعف شأنهم وجعل لمماليكهم سطوة على حسابهم، وبازدياد ضعف السلاطين الأيوبيين في مصر والشام تمكن مماليكهم في مصر من إقصائهم عن الحكم وتأسيس الدولة المملوكية التي ورثت عرش الأيوبيين والعباسيين وغيرهم فيما بين (648-921هـ).

2 ـ وكان السلطان قايتباي (872-901هـ)من أبرز سلاطين المماليك خصوصاً في عصرهم الأخير.

المصريون وظلم الحكام:

1 ـ والثابت تاريخياً أن المصريين قد رحبوا بالفتح الإسلامي على أمل أن يخلصهم من ظلم الروم البيزنطيين خصوصاً وقد كان هناك نزاع دينى بين الأقباط والمذهب الرسمي للمسيحية البيزنطية.  وفى الخلافة الراشدة نعم الأقباط ببعض العدل ربما لم يعرفوه فى الحكم البيزنطى ،وظلوا بعيدين عن المنازعات السياسية العربية التى أسفرت في النهاية عن قيام الدول الأموية.

2 ـ وقد اشتهر الأمويين بالقسوة والظلم والتعصب ضد غير العرب فأصابوا الأقباط بالنكال.وقد عددّ المقريزي الشدائد التى أنزلها الأمويون بالأقباط، ففي ولاية عبد العزيز بن مروان صادر البطريرك مرتين وفرض الجزية على الرهبان، ثم تولى بعده عبد الله بن عبد الملك بن مروان ولاية مصر فاشتد على النصاري ، واقتدي به فيما بعد الوالى قرة بن شريك الذى أنزل بالنصاري شدائد لم يبتلوا بها من قبل وزاد عليهم الخراج فقام الأقباط بثورة في الحوف الشرقي (شرق الدلتا) فهزمهم الأمويون وقتلوا منهم الكثيرين. ثم اشتد عليهم الوالي أسامة بن زيد التنوخي وأوقع بهم وأخذ أموالهم، ووشم أيد الرهبان- أى رسم عليها علامة- ومن وجده منهم بغير وشم أمر بقطع يده وضرب أعناق بعض الرهبان وعذب آخرين حتى ماتوا. وتبعه في طريقة الوشم الوالى حنظلة بن صفوان الذى عمم الوشم على كل الأقباط ومن وجده بغير وشم قطع يده. وثار الأقباط فيما بين 121- 132 في الصعيد وسمنود ورشيد وأخمد الأمويون ثوراتهم بقسوة، وحين قدم مروان بن محمد آخر خلفاء بنى أمية هارباً إلى مصر من العباسيين بعد هزيمته في موقعة الزاب- لم يحاول استمالة الأقباط بل اشتد في الإيقاع بهم إلى أن قتله العباسيون في أبو صير. ونتابع المقريزى وهو يروي استمرار ثورات الأقباط في الدولة العباسية وإخمادها بالعنف، وكانت أخر ثوراتهم في عهد الخليفة المأمون وقد أوقع بهم قائده الأفشين، وانتهت بذلك ثوراتهم المسلحة. يقول المقريزى "فرجعوا من المحاربة إلى المكايدة واستعمال المكر والحيلة...."([1]).

3 ـ كان الظلم أحد الرموز الأساسية في سياسة الحكام في العصور الوسطي يسرى ذلك على النظام العباسي أو الروماني أو الأموي، عدا فترات قليلة تعتبر استثناءاً مثل عصر الخلافة الرشيدة وعمر ابن عبد العزيز، والشعب المظلوم إذا عجز عن الثورة الإيجابية ركن إلى المقاومة السلبية وإلى استعمال المكر والحيلة على حد قول المقريزي. وكان اعتناق الإسلام من أساليب المصريين الأقباط للنجاة من الظلم ودفع الجزية الباهظة، وقد فطن الأمويون لذلك فألزموهم بدفع الجزية حتى لو أسلموا، وقد أنكر الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز ذلك على والى مصر وكتب إليه "أن الله بعث محمداً هادياً ولم يبعثه جابياً" وتم رفع الجزية عمن أسلم من الأقباط، إلا أن الحال عاد إلى أسو ما كان عليه بعد موت عمر بن عبد العزيز. لقد كانت المجتمعات في العصور الوسطي تخضع لمنطق الدين الذي يفسره الحاكم على هواه ومن خلاله يمارس الظلم ويجد من يبرر له أفعاله، وعدا فترات قليلة تمتع فيها المصريون بالعدل فإن السمة لعامة هى استمرار الظلم مع التمسك الشكلي بالدين.

4 ـ كان اعتناق المصريين للإسلام ظاهرة فردية يقوم بها الفقراء للتخلص من دفع الجزية و يقوم بها الكتبة الأقباط في الدواوين كي تنفتح لأحدهم أبواب الترقي في المناصب، وحينئذ ينتقم لنفسه ممن ظلمه من المسلمين ويستخدم نفوذه الوظيفى فى تصفية حساباته القديمة، أو على حد قول المقريزي "فصار الذليل منهم بإظهار الإسلام عزيزًا يبدى من إذلال المسلمين والتسلط عليهم بالظلم ما كان يمنعه نصرانيته من إظهاره"([2]).

دخول المصريين ( الإسلام ) أفواجا في العصر الفاطمي:

1 ـ كان الفاطميون الشيعة أصحاب دين أرضى يحظي بانكار العرب المسلمين في مصر في ذلك الوقت، وأولئك العرب الحكام وأتباعهم كانوا يعتنقون دينا أرضيا مناوئا هو السّنة . ولكن لم يكن العرب المسلمون في مصر إلا أقلية، وكانت الأغلبية من المصريين الأقباط، وقد فطن الفاطميون إلى ذلك العداء المستحكم بين العرب المسلمين وبين الأقباط المصريين، وكان من المنتظر أن يستميل الفاطميون إلى جانبهم تلك الأغلبية الصامتة فهم الأكثرية وهم أهل البلاد وهم أكثر الناس تشوقاً إلى رفع الاضطهاد عنه. وعمل الفاطميون على نشر التشيع بين المصريين على أنه الاسلام،  ولم يجد المصريون وقتها فارقاً أساسياً بين العقيدة الشيعية وبين ما توارثوه من عقائدهم القديمة حيث يضاف التقديس إلى البشر من الأئمة أو الأولياء أو رجال الدين.

2 ـ وفتحت الدولة الفاطمية أبواب المناصب أمام المصريين خصوصاً إذا اعتنقوا الدعوة الشيعية فأصبح اليهودى المصري يعقوب بن كلس الرجل الثاني في الدولة الفاطمية في بداية عهدها وكان هو حكيم الدعوة الشيعية والذى قام بعبء نشرها داخل مصر وخارجها. وجذب الفاطميون المصريين لهم عن طريق الاحتفال بالأعياد الدينية الشيعية والإسلامية بل واحتفلوا بالأعياد القبطية والفرعونية . وتحت عنوان ( ذكر الأيام التى كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادأً ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر نعمهم) تحدث المقريزى بالتفصيل عن احتفال الفاطميين ومعهم عوام الشعب المصري وخاصته بمواسم وأعياد رأس السنة وأول العام ويوم عاشوراء وعيد النصر وليالى الوقود وشهر رمضان وعيد الفطر وعيد النحر وعيد الغدير وفتح الخليج والنوروز وميلاد المسيح والغطاس وخميس العهد وطقوس صلاة الجمعة([3]).

3 ـ ولا زلنا نحتفظ ببعض الطقوس الدينية الفاطمية في تلك الأعياد مثل شم النسيم والسحور والأطعمة ذات المناسبات الدينية مثل الكنافة والقطايف وعروسة المولد. إلا أن أهم ما توارثناه من العصر الفاطمي هو تقديس الأضرحة خصوصاُ ما انتسب منها لأل البيت مثل ضريح السيدة نفيسه الذى أقامه الخليفة المستنصر الفاطمي سنة 482هـ. وكانت السيدة نفيسه قد توفيت سنة 208هـ، وتم دفنها في قبر عادي فلما جاءت الدولة الفاطمية أقامت على قبرها قبة وضريحاً أحاطته بالدعاية والأساطير حتى صار أحد الموضع المعروفة عند المصريين بإجابة الدعاء على حد قول المقريزي([4]). وقد دخلت الدولة الفاطمية في دور الضعف ووقع على وزيرها (الأفضل) عبء تقويتها أمام الخطر الصليبي والخطر السلجوقي السنى، وكان من وسائله أن يستمل إليه المصريين بعد أن أنفضوا عن الدعوة الشيعية، وأثناء عودته من عسقلان أعلن الأفضل عثوره على رأس الحسين وبذلك أنشئ ضريح الحسين([5]) بعد بناء القاهرة بنحو مائتين وخمسين سنة، وكان الأفضل يخطط لتقوية الدعوة الشيعية من خلال إقامته لضريح الحسين، ولكن انتهت الدولة الفاطمية بعد إنشاء ضريح الحسين أى استمر تقديس ضريح الحسين بينما دخلت الدولة الفاطمية متحف التاريخ.

4 ـ وأنهى صلاح الدين الأيوبي الخلافة الفاطمية وحارب الدعوة الشيعية بتنمية التصوف السنى وإقامة الخوانق وبيوت الصوفية، وورثت الدولة المملوكية الاهتمام بالتصوف وأوليائه، وحل دين التصوف محل دين التشيع تحت شعار الاسلام .

5 ـ حقيقة الأمر فإنّ ما عرفه المصريون من الاسلام هو تلك الأديان الأرضية . لم يعرفوا من الاسلام حقائقه ، ولكن عرفوا الدين الأرضى الذى يقدمه لهم الحاكم العربى على أنه الاسلام ، سواء كان سنيا متعصبا طبّقه الأمويون والعباسيون فى إضطهادهم للمصريين عنصريا فى الدولة الأموية أو دينيا فى العصر العباسى ، أو كان التشيع ، حين تحبّب اليهم الفاطميون بالتشيع فاعتنق المصريون التشيع على أنه الاسلام ، ولا زلنا فى حياتنا الدينية نمارس الشعائر الفاطمية فى أعيادنا الدينية ، ثم حلّ التصوف السّنى محل التشيع ، واستجاب التشيع والتصوف للموروثات الدينية المصرية القديمة والتى تميزت بها المسيحية المصرية القبطية عن بقية المذاهب المسيحية . وحدث التماثل بين الأديان الأرضية للمصريين لدى المصريين من أقباط و( مسلمين )، لأنها كلها صدرت عن أصل واحد هو الدين الأرضى المصرى القديم ( الفرعونى ) ، وقد أوضحنا هذا فى كتاب ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى ) . وهذا يفسّر لماذا دخل أجدادنا المصريون التشيع أفواجا على أنه الإسلام فى العصر الفاطمي ، ثم انقلبوا بسهولة يعتنقون التصوف فى العصرين الأيوبي والمملوكى.

6 ـ ومع زحف تلك الأديان الأرضية باسم الإسلام زحفت اللغة العربية وتوارت أمامها اللغة المصرية القديمة إلى أقصى جنوب الوادي.

استمرار ظلم الحكام بعد انتشار الإسلام:

1 ـ أصبح المسلمون المصريون أغلبية تدين بدين الحاكم ولكن لم ينقطع ظلم الحكام، لأن ظلم الحكام في العصور الوسطى كان عادة سيئة لا تتوقف على نوعية الدين الذى يدعي الحاكم التمسك به . وكان الظلم أبرز مظهر للحياة المصرية في العصر المملوكي.والمماليك كانواً خدماً عبيداً للأيوبيين ، ثم تمكنوا من الوصول إلى الحكم . وكى يعززوا مركزهم الجديد فقد استطالوا على الشعب المسكين قتلاً واضطهاداً.

2 ـ يقول المقريزى في حوادث سنة 648هـ التى شهدت قيام الدولة المملوكية البحرية (وفيها كثر ضرر المماليك البحرية بمصر، ومالوا على الناس ، وقتلوا ونهبوا الأموال وسبوا الحريم ، وبالغوا في الفساد حتى لو حكم الفرنج ما فعلوا فعلهم)([6]).أى لو حكم الصليبيون مصر فإنهم- فى رأي المقريزى- لن يظلموا المصريين بالقدر الذى فعله بهم المماليك المسلمون.ويقول المقريزى في ترجمة للسلطان أيبك أول سلطان مملوكى (وكان ملكاً حازماً شجاعاً سفاكاً للدماء، قتل خلقاً كثيراً، وشنق عالماً من الناس بغير ذنب ليوقع في القلوب مهابته، وأحدث مظالم ومصادرات عمل بها من بعده)([7]).أى أن السلطان أيبك استن سنة سيئة عمل بها خلفاؤه المماليك حتى من أشتهر منهم بالعبادة والتدين مثل السلطان قايتباى صاحبنا في هذا الكتاب.

مقاومة الشعب المصري لظلم المماليك:

1 ـ على أن الشعب المصري لم يعرف الخنوع المطلق أو الاستسلام المستمر للعسف المملوكى، كان المماليك هم القوة الحربية الوحيدة التى يؤيدها جمهور من رجال الدين وعلماء الدين وعلماء السلطة يطبقون الشريعة وفقا ما يرتضيه السلطان صاحب النعمة. ولذلك كانت ثورات الشعب المصري في العصر المملوكى مظاهرات صاخبة تحتج على المماليك وعلى المشايخ والقضاه والعلماء معاً باعتبار أن القضاه ورجال الدين كانوا جزءاً من السلطة المملوكية الجائرة.

2 ـ والأمثلة كثيرة نكتفي منها بتلك اللوحة التاريخية الناطقة التى حكاها المؤرخ المملوكى الأصل المصرى النشأة أبو المحاسن (ابن تغرى بردى)، يقول ( إضطراب الناس وأبطل السلطان موكب ربيع الأول من القصر، وجلس بالحوش ، ودعا القضاة الأربعة والأمراء والأعيان. ووقف العامة أجمعون في الشارع الأعظم من باب زويلة إلى داخل القلعة، واجتاز بهم قاضى القضاة علم الدين البلقينى وهو طالع إلى القلعة فسلم على بعضهم بباب زويلة فلم يرد عليه أحد السلام ، بل انطلقت الألسن بالسب له وتوبيخه من كل جانب لكونه لا يتكلم في مصالح المسلمين ، واستمر على هذه الصورة إلى أن طلع إلى القلعة، وقد انفض المجلس بدون طائل ونودى في الحال بعدم معاملة الزغل (أى بعدم التعامل بالعملة المغشوشة التى أصدرها السلطان) فلم يسكن ما بالناس من الرهج ولهجوا بقولهم (السلطام من عكسه- أى من سوء حظه- أبطل نصفه) (أى أبطل العملة الذهبية التى أصدرها) وإذا كان نصفك إينالى لا تقف على دكانى) (أى إذا كانت العملة التى تتعامل بها قد أصدرها السلطان اينال المملوكى لا تقف على دكانى . وبعدها في العصر العثمانى كان أحفادهم يقولون (ايش من تفليسي يا برديسي....). ويستمر المؤرخ أبو المحاسن معلقاً على هذه المظاهرة الشعبية وتلك الأمثال الشعبية التى اخترعها جموع الشعب فيقول (وأشياء كثيرة من هذا ، من غير مراعاة وزن ولا قافية ، وانطلقت الألسنة بالوقيعة في السلطان وأرباب الدولة، وخاف السلطان من قيام المماليك الجلبان بالفتنة وأن تساعدهم العامة وجميع الناس فرجع عما كان قصده، وقد أفحش العامة إلى ناظر الخاص ورجموه وكادوا يقتلونه....)([8]).

3 ـ حدثت هذه المظاهرة في سلطنة الأشرف اينال الذى توفي سنة 865هـ. وقد تولى صاحبنا السلطان قايتباى سنة 872هـ. وهؤلاء هم أجدادنا الذين لم يسكتوا على ظلم السلطان اينال فكيف كان حالهم مع السلطان قايتباى المشهور بالتدين وعمل الخير.؟..

 

 



([1]) خطط المقريزي 3/536: 538.

([2]) خطط المقريزى 3/546.

([3]) خطط المقريزى 2/274: 283.

([4]) نفس المرجع 3/448: 449.

([5]) نفس المرجع 2/ 161: 162.

([6]) المقريزى: السلوك تحقيق د. زيادة 1/2/380، 404.

([7]) المقريزى: السلوك تحقيق د. زيادة 1/2/380، 404.

([8]) أبو المحاسن: حوادث الدهور 2/294: 296. 

اجمالي القراءات 10857