الفتنة في القرآن الكريم 1
الفتنة في القرآن الكريم 1

خالد اللهيب في الأربعاء ١٣ - يونيو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

                              الفتنة في القرآن الكريم 

 

ترد كلمة الفتنة في القرآن الكريم و مشتقاتها في أكثر من آية و بأكثر من معنى ، و تعني الإختبار و اتباع سبيلا غيرسبيل الحق و تعني تغير الوجهة و المعتقد  و التفرقة و الإفساد و تعني أيضا الإغواء و العرض على النار و العقوبة و العذاب .

أما معنى الفتنة بما يتداول بين الناس و في اللغة فهو الإغواء و ذهاب اللب و الأخذ بالعقل والفؤاد كما من معانيها التفرقة بين الناس و إيقاع الخصومة و العداوة بينهم .

القسم الأول : معاني فتنة الله عزو جل .

القسم الثاني : أهداف الفتنة و فتنة الشيطان و الكفار و رجال الدين .

القسم الثالث : صفات الفتنة و عقابها في الدنيا و الآخرة .

                                  القسم الأول  

                         معاني فتنة الله عز و جل  

1 -  الإختبار: لله سنن كثيرة في خلقه ، منها فتنه الناس ، أي إختبارهم ، ليعلم المؤمن من الكافر ، و قد فتن الله سبحانه الذين ولدوا و عاشوا  قبل نزول الوحي على محمد عليه السلام و الغاية قديما و حديثا هو تميز و تحديد الصادقين في إيمانهم عن الكاذبين ، ( الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ)3 العنكبوت ، فلا يكف أن يتلفظ الإنسان بلسانه أنه مؤمن بالله و أنه لا إله إلا الله .

  فالقول باللسان غير كاف ، و كان إيمان البعض بأفواههم دون قلوبهم يحزن الرسول عليه السلام ، فجاء الرد من الله سبحانه و تعالى بالا يحزنك ذلك ، (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ  ...) 41 المائدة .

فلا بد أن يرافق القول و النطق ، صدق القلب ، كما لا بد أن يؤكده صدق العمل ، لهذا دايما ما يرد (َالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) ، فمسألة الإيمان و قبوله لا تعتمد على القول أو كثرة السجود بل صدق القلب و العمل  (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) 177 البقرة .

هذه صفات صادقو الإيمان و المتقون ، إذ يجب أن ينتفع المؤمن و يكسب خيرا من إيمانه في الدنيا و الآخرة ، فإذ لم ينتفع من إيمانه فهو إيمان وهمي لم يصدقه و لم يؤكده العمل و بالتالي إيمانه هذا لن ينفعه و لن يكسبه خيرا ، هذا إذا أحسنا الظن و لم نحسبه من المنافقين .

فحين الموت و خروج النفس من جسدها لا ينفها إيمانها إن لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا (... لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ) 158 الأنعام .

 كذلك الصلاة يجب أن  تردع مقيمها عن كل فحش و هو التلفظ الجارح و البزيء والعمل المنافي لكل خلق سليم و إن تردع مؤديها عن كل منكرمن قبل الله و الفطرة و العقل و المنطق وترفع من سموالخلق (...إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) 45 العنكبوت.

وكذلك الإيمان يجب أن يصل بالمؤمن الى رضى الله و قبول عمله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا) 136 النساء ، حث من الله الرحيم على تقوية الإيمان و ترسيخه  .

الخطاب للذين آمنوا ، يتبين منها أن إيمانهم غير كاف و إلا لما جاء الأمر بالإيمان رغم مخاطبتهم بالمؤمنين  ، أي أنهم يؤمنون فقط بأنه لا إله إلا الله في قلوبهم وعلى ألسنتهم و على الرغم أن كلمة التوحيد أساس لكل إيمان ، إلا أنها لوحدها و لذاتها غير كافية ، فلا بد من الإيمان بكل ما جاء في القرآن ، كما يجب أن يدفع الإيمان حامله إلى صدق العمل ، أي إن لم ينعكس هذا الإيمان على عمله و حياته اليومية و حركته في المجتمع بصورة متوافقة لشرع الله عز و جل ، فهو إيمان ناقص يستوجب الدقة و الزيادة و مراجعة السلوك الذاتي و التطبيق العملي اليومي ، ليصل الى ما هو خير ، فيرضي الله عز و جل و يرضي المجتمع ، و ذلك عن طريق الإلتزام بتقوى الله سبحانه و تعالى ، و بإتباع أوامره و إجتناب نواهيه في كل لحظة من حياته ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) 102 آل عمران ، فالهدف و المراد هو تقوى الله عز و جل ، بل أكثر من ذلك ، فلا تكف التقوى العادية ، السهلة ، و ذلك بالإبتعاد عن كبائر الإثم فقط ، بل التشدد في التقوى كل التشدد ومراقبة النفس واللسان والعمل .

(اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) أفزعت الصحابة من قبل و هزت أركانهم ، كما تفزع كل مؤمن ، ذو لب وعقل سليم ، فكمال التقوى مرتبة عالية من الإلتزام والمخافة من صغائر الذنوب ، مما يضع الملتزم بها بالمرتبة العالية عند الله تعالى و يحشره مع الصادقين ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) 119 التوبة .

و الصادقون هم الأنبياء و الرسل و الشهداء في سبيل الله عز و جل و المؤمنون  ، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا) 41 مريم ، (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) 15 الحجرات 49 ، لم يرتابوا ، أي لم يخافوا من إلتزامهم الإيماني و تصديقهم للرسول عليه السلام .

قد يقول قائل : الا يعلم ربنا سبحانه صدقنا و ما تكن به صدورنا من صدق الإيمان ، فلما يختبرونا و يفتننا ، أمن أجل أن نقع في الخطيئة و بالتالي كي يعذبنا في الآخرة ؟    

بالطبع إن الله سبحانه وتعالى يعلم مدى صدق كل نفس وما تكن به الصدورمن إيمان و كفر و ما كسبت و ما سوف تكسب و يعلم عنا أكثر مما نعلم نحن عن أنفسنا ، بل أكثر من ذلك ، أنه سبحانه و تعالى خاضع له عنصر الزمن و يتحكم به ، فلا ماض عنده ولا مستقبل ، بل كل شيئ أمامه حاضرا ، لهذا صور لنا عبر القرآن ما سوف يحدث لنا يوم الحساب و الأحداث و الأقوال التي سوف تحدث قبل وقوعها بالنسبة لنا ، لأنها حاضرة أمامه ، صورها لنا بصيغة الحاضر ، بينما نحن نخضع لعنصر الزمن و يتحكم بنا ، فعندنا ماضي و حاضر و مستقبل ، و الإختبارات التي يضعنا فيها و تمر علينا خلال فترة حياتنا ، الهدف منها ، أن يوثق الله سبحانه و تعالى  مسيرة حياتنا فلا مجال للإنكار أو دفع التهمه عن أنفسنا يوم الحساب (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ) 49 الكهف 18 ، يوم تاتي كل نفس تجادل عن نفسها و تحاسب عما عملت دون ظلم و إفتراء ، (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) 111 النحل ، و توضع أفعالها و أقوالها ، مكتوبة و موثقة أمامها فلا مجال للإنكار أو التهرب و تشهد عليهم جوارحهم ، (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) 24 النور .

رغم أن الله سبحانه و تعالى هو القاهر فوق عباده و يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور و يعلم ما ستؤول إليه كل نفس إما إلى الخلود في الجنة أو إلى الخلود في النار و هو سبحانه غير مطالب بإعطاء فرصة الدفاع لكل نفس عن نفسها لأنه العادل الرحيم ، خصوصا بعد أن ثبت لكل نفس وقتئذ ، أن الله حق و قد بعثت بعد موتها ، و هم يعيشون حالة ما بعد الموت و هو سبحانه فوق الشبهات ، إلا أنه لا يصدر حكمه عليها إلا بعد أن تدافع و تجادل عن نفسها ويكون القرارعن بينة ظاهرة مقنعة و تقر به الأنفس على ذاتها ، فلا يوجد قرار إلهي على قاعدة ( هذا ما شاء الله و قرره سبحانه و تعالى) كما لا يوجد قرار محكمة متعسف ظالم و لا قرار صادر مسبقا قبل إنعقاد المحكمة كما يحدث لدى أنظمة الحكم عندنا ، بينما حكام الأنظمة الفاسدة ، الظالمون ، يصدرون أمر الإدانة على الناس دون محاكمة أو قبل إنعقادها و ما على القضاة إلا إصدارالحكم و توثيق القرار الصادر من أولي الأمر ، و من السلطات العليا ، فهي محاكمات شكلية صدر أمر الإدانة بها قبل تشكيل المحكمة  .

 بهذا ينصب الحاكم الظالم نفسه أكبر من الذات الإلهية سبحانه و تعالى و أعظم شأنا و أكثر علما و عدلا ، و إذا ما عقدت محاكمة فهي ليست إلا إتقاءا لسمعة هذا النظام ، أمام العالم الخارجي و ليس الداخلي إذ إنه قادر على سحق أي صوت يئن متألما ، فالحاكم المتسلط فوق رؤوس الناس ،  غير مكترث بالشعب و لا يحسب له أي حساب ، بل تلافيا لتعليقات و نشرات المنظمة العالمية لحقوق الإنسان و غيرها ممن يهتم بالشؤون الإنسانية في الخارج ، إذ إنه يحاول تجميل صورته أمام العالم الخارجي ، ليس إلا .

و ننتبه الى قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا) فالمجادلة تقع من كل نفس ، فلا إستثناء هنا ، كقوله تعالى(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...) 35 الأنبياء ، و حقيقة الموت نعيشها و نشهدها كل يوم ، هذا يؤكد عدم العصمة لأي نفس ، فلا تجادل النفس عن نفسها إن لم تكن قد إرتكب أي ذنب مما يدفعها للمجادلة وهذا بحث آخر ، يحتالج الى بيان و تفصل و ليس محله و مجاله الأن ، إنما أحببت الإشارة إلية فقط .

2 -  من معاني فتنة الله عز و جل التغير : الله جل و علا يفتن الإنسان و يضعه في ظروف و مواقف  صعبة و قاسية ، و ذلك بهدف تقوية إيمانه و يزيده صلابة في الحياة الدنيا و بهدف إيصاله الى المكانة العالية ، أي أن يغير من مسلك حياته من المعصية و الفجور الى الاستقامة و الالتزام (و هذه رحمة من الله عز و جل ) و ذلك عن بيّنة و عن جهاد نفسي ، لعله يستخدم عقله و يمعن التفكير و النظر في الأمور بعين العاقل الواعي ، فتكون فتنته هذه ، صدمة خفيفة أو ثقيلة ، تحدث تغيرا كليا و إنعطافا كبيرا في حياته مما يدفع صاحب النفس  الملهمة من الله الرحمن الرحيم الى طريق الحق و الصواب ، فدخول الجنة ليس بالمجان او بلا تعب و جهاد نفس أو بعبادة شكلية مرائية أو التمني على الله سبحانه و تعالى ، (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) 214 البقرة .

و رحمة من الله عز و جل أنه يحبب الإيمان للمؤمن و يثبته و يزينه في قلبه ،( ..وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) 7 الحجرات ، و لكن علينا أن نستعين بالصبر و الصلاة ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) 153 البقرة .

3 -  من معاني فتنة الله عز و جل  العقوبة و العذاب : و العذاب قد يكون من الكفار و ليس من الله العزيز الحكيم ، فقد عانى المسلمون خاصة في بداية البعثة عذابا و صبرا طويلا على ظلم كفار مكة لهم ، خصوصا المستضعفين منهم كالعبيد و من لا سند أو بطنا قويا يحميه ، لهذا منهم من هاجر الى الحبشة هربا بدينه و عرضه حتى وصل الأمر الى بني هاشم و هم فخد رسول الله عليه السلام أن يقاطعوا إقتصاديا و إجتماعيا من قبل كفار و أهل مكة ، حيث نزلوا و أهلهم في شعب من شعب مكة ، يعانون الحر و الجوع و لمدة عامين الى أن فرج الله سبحانه كربهم و إختبارهم هذا  ، (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) 110 النحل ، من بعد ما فتنوا أي من بعد ما عذبوا .

و العذاب قد يكون من الله العزيز القدير بأن يوقع الزلازل و الأعاصير و الأوبئة و الأمراض المنتشرة وقد تكون فردية تختص بظالم معين أو تكون شاملة كل المجتمع و ليست قاصرة على الظالمين من الناس ، بل تقع على المؤمن و الكافر منهم و المجتمع كله ، و هذا العذاب و الألم لا يصمد أمامه إلا صادق الإيمان أما ضعيف الإيمان ، تصيبه الحيرة و الغم و الهم فوق مصيبته التي يعاني منها و لا ينتبه الى أنه عليه الرجوع الى الله الغفور الرحيم ، حتى انه يستهون عذاب الله سبحانه وتعالى و يعتبر عذاب الناس كعذاب الله  سبحانه ، فعذاب الله شديد و دائم الى ما لا نهاية و عذاب الظالمون موقت زائل ، (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ...) 10 العنكبوت ، فتنة الناس أي عذابهم  .

هذا في الحياة الدنيا ، أما في الآخرة فالفتنة تعني عذاب النار (أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ  )63 الصافات ، أي عذابا للظالمين ، (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) 13 الذاريات ، أي يعذبون .

يأمرنا الله سبحانه و تعالى أن لا نظلم لأنه إذا ما إنتشر الظلم و ساد في المجتمع فالعقوبة عامة ، طامة على الجميع ، (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)24 الأنفال .

  الفتنة هنا لها معنيين :

الأول : إتقوا فتنة ، أي عقابا و عذابا و تحولوا في إتجاهكم الى الاتجاة الإيماني ، بأن تلتزموا طريق الحق و الصواب ، لأن من لم يلتزم ، واقع عليه عقاب الله سبحانه و تعالى و هو شديد أليم دائم .

الثاني : تجنبوا فتنة ، أي  عقابا ، و هذا العقاب (فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) بل هو شامل كل المجتمع و يحذركم الله سبحانه بأنه شديد العقاب . 

نلاحظ كلمة العقاب وليس العذاب، لأنها عقوبة على ذنب كبير قد إرتكب من قبلكم .

السؤال هنا : لماذا تقع العقوبة على المجتمع كله ؟ و لماذا لم تختص بمن ظلم من المجتمع دون غيرهم ؟

الظالم حينما يقوم بفعل الظلم يقوم به أولا: على أهل بيته  و ثانيا على بعض الناس و إذا قصت شوكته وطال رمحه و ساس الناس والمجتمع ، ظلم الناس جميعا و كلما زادت قوته كلما زاد ظلمه .

أولا : هو ظالم لنفسه و أهله في الحياة الدنيا و يحشر في الآخرة أعمى، إذ إنه يجعل معيشته و أهله الى معيشة ظنك أي معيشة قهر و فقر و قد يكون الفقر ،  فقر بالأخلاق و القيم و ليس فقرا ماديا ، و تتصف حياته و أهله بالمناحرة و الخصام بين أفراد أسرته ، كما بينه و بينهم على قدم و ساق و قد يصلون الى مخاصمة بعضهم بعضا ، علنا و أمام أعين الناس  و مسامع الناس و له في الآخرة عذاب السعير (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) 124 طه ، (َمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي)، أي من أعرض عن التقوى و المخافة من الله سبحانه و تعالى ، بإجتناب معاصيه و تأدية أوامره .

ثانيا : على المظلومين من الناس و المجتمع  أن لا يرضوا بوقوع الظلم عليهم ، بل مقاومه الظالم حتى لا يستفحل أمره و لم يعد في الإمكان إيقافه ، إذ إن عدم التصدي له ،  يجعل منه فرعونا و جبارا و يتمادى في غيه الى أبعد الحدود وبموقفهم السلبي و المهين هذا ، يغذون إعتقاده أنه هو دائما على الحق ، و قيل في الأمثال ( يا فرعون من فرعنك ، قال ما وجدت من يقف في وجهي ) .

يعتقد الظالم أنه دائما على الحق و الصواب  و إلا لماذا هم راضون بما يقوم به دون شكوى أوإعتراض ؟ إلا همسا خلف الجدران و على إستحياء ، و خضوعهم ينمي عن ضعف أيمانهم و قد يصل بهم الى الكفر الخفي حينما يعتقدوا أنه هو الرزاق و هو الذي يحي و يميت ، فالذي يحظى بصحبة الملك أو الزعيم أو سار مع الركب السائر و التيار المسيطر على الحكم ،  فقد فاز و له رغد الحياة و بذلك فهو يحيا رغد العيش و الحياة  ، بينما من يجاف الزعيم و القائد و الملك و الرئيس و تيار الحكم ، فقد خسر فرصة أن يوظف في قطاع الدولة العام ، فهو مواطن من الدرجة الثانية  و إذا ما وقع في خصومة فهو خسران و مهان و في كل الأحوال مكبل اليدين ، معصوب العينين ، معقود اللسان ، لا رأي له و لا مشورة ، و قد خسر طعم الحياه فهو بمثابة الميت و إن لم تخرج نفسه من جسده ، ونرى هذا المطحون من عامة الشعب يحرص على الحياة و لو كانت حياة قهر و مذلة و قلة وفاقه و جهل و نكد و تناحر و مرض و هذا المطحون يمثل أغلبية الشعب و أكثريتهم .

و يعتقد أعوان و أزلام الزعيم و الحاكم أن زعيمهم هذا هو الرزاق و الحامي  بينما هذه ليست من صفات المؤمن الحق ، فالمؤمن الحق يعتقد أن حياته الدنيا ما هي إلا ممرا للحياة الحقيقية في الآخرة بالقرب من الله العزيز الحكيم ، لذا لا يرض بالظلم و المهانة و الخنوع و الإستكانة فيقوم معترضا ، منتفضا ، رافضا معيشة القهر و الذلة و المهانة ، فهو قوي الإيمان ، عزيز النفس (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ  ) 8 المنافقون  ، فالإيمان يرافق عزة النفس و القوة و التفاعل الإيجابي مع أحوال المجتمع و مشاكله ، أما ضعيف الإيمان و المنافق يحرص على الحياة الدنيا  و يرضى بمعيشة الزلة و المهانة و لو على حساب كرامته و دينه ، يرجو العزة عند مليكه و تياره و حزبه  و يتخذه وليا ، ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا  ) 139 النساء .

على المجتمع أن لا يرض بإنتشارالظلم و المعاصي و إستفحالها دون خجل و حياء حتى تغدو شيئا عاديا ، لا إنكار له من قبل المجتمع ، فبالرضوخ للظالمين و عدم إنكار المنكر ، فالمجتمع كله مشترك في فعل الظلم و إنتشاره و بالتالي يستحق المجتمع كله العقاب الشديد ، لذا على المجتمع بكافة أطيافه و ألوانه  و أفراده ، القيام بالإصلاح و الأمر به و السعي لتطبيقه  (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) 117 هود ، إذ أن المؤمن مأمور بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، فالسكوت و إتخاذ موقف الحياد السلبي هو تعطيل لأمر من أوامر الله سبحانه و تعالى ، لذا يستوجب العقوبة الجماعية .

ألفت النظر أن كل منا حاكما و زعيما في بيته ، فالحاكم قد يكون رب أسرة كما قد يكون رب مجتمع و بلد بأسره ، و يقعان تحت نفس الحالة و الحكم .  

4 -  من معاني فتنة الله عز و جل إغواء إبليس  :

أي إختبار إبليس وإغوائه و إعطائه حرية الإختيار و القرار .

الله سبحانه و تعالى هو الذي فتن إبليس عليه لعنة الله ، أي إختبره ، حينما طلب منه أن يسجد لآدم عليه السلام  بعد أن أعطاه حرية القرار، فكانت حجته ، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) 39 الحجر، ( بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) أي بما إختبرتني و أعطيتني حرية الإختيار و الفعل و التصرف ، مجرد إعطائه حرية القرار ، إعتبرها إبليس أنها غواية أي إختبارا في حد ذاتها ، و دافعا له للوقوع في المعصية .

 قد يقول قائل : أن القول هنا ( بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) لإبليس و ليس لله سبحانه و تعالى و لم يرد في القرآن الكريم صراحة أن الله سبحانه و تعالى قد فتن إبليس ، إلا ما زكر في القرآن الكريم و على لسان إبليس ( بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) .

هذا صحيح ، مما دفعني الى هذا القول الآتي :

 1 – أن الله سبحانه و تعالى لم ينف أنه قد فتن إبليس بمعنى إختبره ، على العكس من ذلك حيث رأينا كيف إعترض إبليس على عملية السجود لإبن آدم و عمليه الإعتراض تدل على حرية القرار و هي بحد ذاتها فتنة و إختبار .

2 – قول الله سبحانه و تعالى (..وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.. ) المائدة 41 ، المخاطب الرسول محمد علية السلام و كلمة (يُرِدِ اللَّهُ)  تشمل الإنس و الجن .    

الفاعل و المعطي هو الله العزيز الحكيم و هذا ما عرض على الإنسان ، حينما عرض الله سبحانه و تعالى الأمانة عليه ، فقبلها و إختارها و كان ظلوما جهولا (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا (72) الأحزاب 33  .

نلاحظ ، أن الله سبحانه و تعالى أغوى إبليس أي جعل قرارإبليس بيده ، من نفسه و صادرا من ذات إبليس ، و الفاعل و الجاعل هو الله العزيز الحكيم هذا الإغواء أدى الى إستكبار إبليس عن السجود بإعتبار أنه مخلوق من نار بينما الإنسان مخلوق من طين و الطين أقل مرتبة من وجهة نظر إبليس لهذا وقع في المعصية عندما فتن ، أي إختبر من الله العزيز الحكيم ، بينما الإنسان عرض عليه الأمانة وله أن يحملها  أو أن لا يحملها و القرار للإنسان ، فإختار الإنسان الأخذ بحرية القرار و كان ظلوما لنفسه و جاهلا بإختياره .

(قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)الأعراف ، (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ) نلاحظ قوة و جزالة جملة (لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ)، أبليس عليه لعنة الله ، هدفه الوحيد فتنة و إغواء بني آدم و هو جالس و متفرغ فراغا تاما لهذا الأمر ، و أين يجلس ؟ إنما يجلس على طريق فطرة الإنسان ، الصراط المستقيم ، معترضا كل من يسلك هذا الطريق من بني آدم ، فهو عدو لبني آدم عليه السلام (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) فاطر.

و نلاحظ الفرق الكبير بين إغواء الله سبحانه و تعالى لإبليس و هو مجرد إعطاء لحرية القرار و إغواء إبليس لبني آدم عليه السلام ، فالله سبحانه و تعالى يعطي الحرية في إتخاذ القرار و التصرف دون تدخل منه جل جلاله و هو عطاء ربوبية ، بينما إغواء إبليس هو فتنة و تحايل و سعي و تدخل في قرار الإنسان  ليحيده عن طريق الصواب و الصراط المستقيم ، (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) 39 الحجر .

و كم منا من يغفل عن هذا العدو الخفي ،  فهل نحن منتبهون ، جاهزون ، مستعدون لصد هذا العدو ، الذي لا يكل و لا يمل عن فتنة الإنسان ؟


اجمالي القراءات 10890