دليل المفتون بأنواع السجون

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١١ - يونيو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

أولا :

. اقترب عيد الفطر سنة 1988 وكنت وقتها بأحد المساجد في ولاية أريزونا الاميركية , ووجهت لي الدعوة الرسمية من أحد السجون في مدينة تقع على الحدود المكسيكية للإفطار في أخر ليلة من رمضان وقضاء ليلة العيد مع مجموعة من المساجين المسلمين في ذلك السجن النائي . ورحبت بالدعوة ووجدتها فرصة للتعرف على الجانب الآخر من الحياة الاميركية .

.وصلت مع بعض الأصدقاء الأمريكيين إلى بوابة السجن وكان دخولنا في منتهى البساطة برغم أن الحراسة الاليكترونية تجعل الهروب من السجن مستحيلا ، واستقبلنا الواعظ الرسمي للسجن وهو مسيحي بالطبع ، ولكن الديمقراطية الأمريكية أوجبت عليه أن يشارك المساجين المسلمين عنده في احتفالهم بعيد الفطر ، بل وأن يقوم بنفسه على خدمتهم في احتفال الإفطار الأخير في رمضان ، برغم أن عدد أولئك المساجين المسلمين كان لا يتجاوز الخمسة عشر مسجونا ، منهم ثلاثة من الإيرانيين وواحد من الأمريكان البيض والباقي أمريكان سود . ما شهدته في ذلك اللقاء جعلني أتحسر على حال المسلمين في أوطانهم خصوصا وقد كنت قبلها ببضع شهور سجينا في أحد السجون المصرية بسبب آرائي ومؤلفاتي ، وكانت ذكرياتي في سجن بلدي تلح علي وأنا أشاهد السجن الأمريكي وحال المساجين فيه .

.كانت المفاجأة الأولى هي تلك المعاملة المهذبة التي يلقاها المساجين من القائمين على السجن إلى درجة أنني لم أتبين الفارق بين الضابط والمسجون ، فالجميع يرتدون ما يشاءون من الزى ولهجة الخطاب بينهم لا تفصح عن مكانة المتكلم والمخاطب سواء كان مأمور السجن أو مسجونا بأصغر جريمة ، والطريف أن بعضهم استرسل معي في الحديث وابهرني بثقافته وأثنى على لغتي الإنجليزية – وقتها – ووعدني بإرسال كتب لي أتعلم منها كيفية النطق باللهجة الأمريكية ، ووفّى بوعده فيما بعد . وكنت اعتقد أنه أحد المسئولين الكبار في السجن إلا أنني فوجئت في نهاية الزيارة بأنه مسجون : !!

.وكنت أظن السجن مختلطا إذ رأيت بعض السيدات يتجولن في ساحة السجن يختلطن بالرجال ، وفوجئت بأنهن من حرس السجن ، وساءلت نفسي هل أنا في سجن أم في مستشفى المجانين ؟ وألهبت وجداني ذكريات السجن في بلدي.. ورحت أسأل نفسي : هل أولئك الناس من طينة ونحن من طينة أخرى ؟ وفي تلك اللحظة التي لا أنساها ، تذكرت كلمة مصطفى كامل : لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا ، وقررت وقتها أنه كان طيب القلب حسن النية ، ولو دخل سجن طره وزار بعدها ذلك السجن الأمريكي الفاخر لندم على هذه العبارة !!

.وجاء موعد الإفطار في أخر يوم في رمضان وفوجئت بالواعظ الذي دعاني يقوم ومعه بعض المسئولين بخدمة الصائمين من المساجين المسلمين . ولم تكن تلك المفاجأة الوحيدة ؛ إذ أن مطعم السجن كان مفاجأة في حد ذاته ؛ بنظافته وتجهيزاته والكمية المهولة من الطعام والشراب مما يجعله ينافس فندقا من بضعة نجوم . كانت صنابير الشراب  تسيل باللبن أو بالمياه الغازية حسبما تريد . وخيل لي وقتها أنها ربما تكون مؤامرة إمبريالية أمريكية لعمل غسيل مخ لي لأقتنع بالجنة الأميركية وأن المسألة كلها تمثيل في تمثيل ، وضحكت من هذا الخيال الأحمق وأنا أتناقش على مائدة الطعام  مع مسجون إيراني ( كان ضابطاعالى الشأن فى بلده ) ، وكان يبدو انه دخل السجن الأمريكي بتهمة التجسس لحساب وطنه ، ومع ذلك فقد اعترف بأن الفرق شاسع بين السجون الأميركية وسجون آيات الله في إيران . وتذكرت كيف قضيت اليومين الأولين لي في سجن بلدي عازفا عن الطعام والشراب حتى تشققت شفتاي وتحول ريقي إلى مرار علقم وذلك حتى لا اضطر للذهاب إلى دورة المياه التي يخجل منها كل من يمشي على قدمين ، وحتى لا اضطر لأكل السوس المخلوط بالفول المدمس !!

.وأحزنني هذا التشرزم بين المسلمين حتى في ذلك السجن ، فمع عددهم القليل إلا أنهم كانوا فرقا وطوائف ، السود يكرهون ذلك السجين الأبيض المثقف ، والإيرانيون لا يثقون بالأمريكيين المسلمين ، مع أنهم جميعا مسلمون في مكان واحد ، ورأيت فيهم ملخصا وافيا لحال المسلمين في أمريكا وفي العالم كله .

.ودارت مناقشات بيننا وبين المسئولين عن السجن وعلموا من أصدقائي أنني كنت فى بلدى سجينا بسبب الرأي ( prisoner of conscious  ) وأفزعهم ذلك. وأطمعتهم مؤهلاتي العلمية في أن اعمل واعظا للمسلمين في السجون الأميركية ووعدوا بالتوصية على تعييني ، وفرحت وقتها بهذه الفرصة . وفي نهاية اللقاء سألني الواعظ الأمريكي عن رأيي في أحوال المسلمين في السجن . ووجدتني أرد عليه بالعربية التي لا يعرفها قائلا : اللي يقول ده سجن أروح فيه ستة اشهر ..!!

.وبعدها بأسبوع جاءت المفاجأة الأخيرة إذ وصلتني الأوراق الرسمية للحصول على وظيفة واعظ ، ومكثت ادرسها بإمعان خصوصا واجبات الواعظ مهما كانت ديانته ، وأهمها الحرص التام على توفير الحرية الدينية لكل مسجون والاحترام التام لكل ما يقدسه ذلك المسجون سواء كان أيقونة أو سجادة للصلاة أو تمائم للسحر أو عبادة للشيطان ، ثم الحرص على توفير كل التسهيلات لهم في ممارسة شعائرهم ومشاركة إدارة السجن لهم في احتفالاتهم الدينية . واكتشفت في النهاية أن تلك الوظيفة المعروضة على وقتها تتطلب الحصول على الجنسية الأميركية – واتصلت بالمسئول واعتذرت له وشكرته ، وعبرت له عن إعجابي الكامل بما قرأته  في تلك الأوراق الرسمية فيما يخص حرية العقيدة ..

.وركبتني بعدها الكوابيس.. ما الذي جرى للمسلمين ؟ فالإسلام هو الذي سبق الجميع بتقرير حرية العقيدة ومنع الفتنة أى الاضطهاد في الدين والإكراه على الدخول في الإسلام أو غيره ، وبتلك السماحة انتشر الإسلام في مواطن لم تصلها جيوش المسلمين ، ثم دخل المسلمون في تيار التعصب والجهل والتأخر والتفرق بينما أدرك الغرب أن التقدم رهين بالحرية الدينية والحرية العقلية وان يكون الدين لله يحكم فيه يوم الدين وأن يكون الوطن للجميع يتمتع فيه كل مواطن بالحرية والمساواة وتكافؤ الفرص ، فتقدم الغرب بينما لا نزال نحن نعيش في ظلام العصور الوسطى

.وقفز إلى ذاكرتي أحد المساجين التعساء في الزنزانة التي عشت فيها فى سجن مزرعة طرة ، وقد كانت تهمته هي الردة عن الإسلام والدخول في المسيحية ، وقد كان يخشى زملاءه المسلمين  في الزنزانة أكثر من خشيته من إدارة السجن ، وأذكر أنني قلت للناقمين عليه أن يدعوه وشأنه لأنه يمارس حريته في العقيدة التي كفلها له رب العزة حين قال في القرآن " لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ   (256) ( البقرة )  ، " وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ  (29) ( الكهف )  " ، " قلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا   (107)( الاسراء ) . وقلت لهم إن الذي سيحاسبه على هذه الحرية هو رب العزة في يوم القيامة يوم الدين ، وأنكم باضطهادكم له قد سلبتم الله تعالى بعض اختصاصاته التي لم يعطها لرسوله الكريم حين قال له " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وحين قال له وللناس : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) ( يونس )  . صدق الله العظيم .    

أخيرا

نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار بتاريخ ( 21/ 10 / 1991  ) .واليوم أصبح التعصب أكثر تسيدا فى مصر، ويريد الاخوان والسلفيون تقنينه فى الدستور . ولو حدث هذا فقل : على مصر السلام .!!          

اجمالي القراءات 16808