أهل الكهف و أساكير و خرافات المفسرين
بحثا عن محمد في القرآن [ 26 ]

امارير امارير في الخميس ٢٦ - أبريل - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

على جانبٍ آخر فإنّ القفز ناحية الحلول [ السهلّة ] و التفاسير [ العجائبيّة ] ، عبر سبر أغوار نصوص أخرى خارج [ النص ] ، و لا تتّفق معه في [ السياق ] أو في [ المعنى العام ] ، لينتج لنا نصٌّ جديد يتّحد فقط و [ التراكم المعرفي الأسطوري ] الذي تبنتّه النصوص المنسوخة في جلّها ، يقول [ ابن حنبل ] صاحب المذهب المشهور : [ ثلاثةٌ لا أصل لها ، التفسير ، الملاحم و الغزوات ] ، فعلى سبيل المثال  يرد في تفسير [ القرطبي / الجامع لأحكام القرآن ] عن تفسير قوله تعالى : ]ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ [القلم 1 : [ ... روي عن مجاهدٍ ، قال : نون ، الحوت الذي تحت الأرض السابعة ، و كذا قال مقاتل و مرّة الهمداني ، و عطاء و السدّي و الكلبي : إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون ، و روى أبي ذبيان عن ابن عبّاسٍ ، قال : اول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائنٌ ، تم رفع بخار الماء فخلق منه السماء ، تم خلق النون ، فبسط الأرض على ظهره فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، و إن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عبّاس : نون و القلم ، و قال الكلبي و مقاتل : إسمه البهوت ، قال الرازج : ما لي أراكم سكوتاً ، و الله ربّي خلق البهموتا ] ، بينما يقول [ ابن كثير / تفسير القرآن العظيم ]  : عن تفسير قوله تعالى : ]ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق 1  : [ ... قد روي من بعض السلف أنّهم قالوا : ق ، جبلٌ محيطٌ بجميع الأرض ، يقال له جبلٌ ق ، و كأن هذا من خرافات التي اخذها عنهم بعض النّاس ، لما رآي من جواز الرواية عنهم بما لا يصدّق و لا يكذّب .. ] ،و رغم أنّ ابن كثير أشار الى كون هذا القول هو من أقوال [ زنادقة ] بني إسرائيل ، إلا أن التداخل في نصوص [ التفاسير ] مضطربة الوجهة يبقى لصيقاً بها عبر عدّة جوانب ، فعلى سبيل المثال أيضاً ، عند الحديث عن تفسير قصّة أهل الكهف نقرأ في تفسير [ مقاتل بن سليمان  / التفسير الكبير ] في قوله تعالى : ]أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً [الكهف 9 : [ ... و الكهف ثقبٌ يكون في الجبل كهيئة الغار ، و اسمه بانجلوس ، و الرقيم كتابٌ كتبه رجلان ، قاضيان ، صالحان ، أحدهما ماتوس و الآخر أطوس ، كانا يكتمان إيمانهما ، و كانا في منزل دقيوس الجبّار ، و هو الملك الذي فرّ منه الفتية و كتب أمر الفتية في لوحٍ من رصاص ثم حملاه في تابوتٍ من نحاس ، ثم جعلاه في البناء الذي سدّوا به باب الكهف ... ] ثم يقول : [ ... و كلبهم اسمه قطمير ، و كان الكلب لمكسلمينا ]  ، بينما يقول بخصوص نفس النّص [ الثعلبي / الكشف و البيان عن تفسير القرآن ] : [ ... عن السدّي و وهب و غيرهما : و أسمائهم – يريد الفتية – ماكسلمينا و هو كبيرهم و رئيسهم ، و إيلخا و هو أجملهم و أعبدهم و أنشطهم ، و مكشينا و مطروش و نوافي و كير و سططنوس و كلبهم قطمير ... ] ، بينما يقول [ البغوي / معالم التنزيل ] : [ ... فيما يتعلّق بمكان الكهف و اسم الجبل الذي كان فيه ، أو الوادي الذي فيه الجبل فبعضهم يقول : إنّه قريبٌ من إيلة ، و بعضهم يقول : هو عند نينوى ، و منهم من قال : هو في بلاد الروم ، و منهم من يقول : بل هو في بلاد البلقان ] ، إن هذا الزخم العجائبي ، و التراكم الأسطوري يبقى مجرد [ لهوٍ ] في الحديث على جانب ، و هو ما اخبر به النصّ القرآني نفسه : ]وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ [لقمان 6 ، و الحديث هنا هو الإخبار بالمعرفة ، يقال حدّث فلانٌ فلاناً ، أي أخبره بما يعلم ، و اللهو متّصل كما يرد في صريح النّص بعدم العلم ، ليكون الإخبار كذباً ، و تعبيرٍ عن كم اللغط الذي ساد فهم النّص ، عبر الإبتعاد عنه نحو سواه ، و على جانبٍ آخر فإن صريح النّص ينفي أي [ مبحثٍ ] في عدد هؤلاء : ]سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَداً [الكهف 22، النص يخبر هنا أن الله فقط يعرف [ عددهم ] ، لكن فقط قلّةٌ من يعرفون [  كنهتهم ] ، و كانت أن أصبح التفسير بعيداً عن النّص من ناحية (1)اللغة و الرمز الذي تحتويه ، (2)التراكم المعرفي داخل النّص لا خارجه ، (3)الموضوع الذي يحيط به سياق النّص العام و دلالاته الخاصّة ، ليبقى محاصراً فقط (1)بواقع المفسّر و (2)الأهواء و النوازع التي تبقى محاصرةً (3)بالنتائج الجاهزة و المعرفة السابقة المنسوخة بالدرجة الأولى ، مما يُنتج نصّاً لا يمت للنّص الأصل المراد فهم غائيّته و المقصد منه البتّة .

 

في تفسيرٍ لذات النّص ، و هو [ قراءةٌ فوق العادة ] ، لنصٍّ [ فوق العادة ] أيضاً ، نقرأ في مبحثٍ انتهج منهجيّةً مخالفةٍ تماماً للمعتاد [ الفقهي ] عبر سبر أغوار البحث في القاموس القرآني عبر سياقٍ تاريخيٍّ يربط بين [ اللغة ] و [ الرمز ] و [ تاريخ النّص ] من الداخل نحو الخارج ، بما يمكن أن يقال أنّه أسّس لمدرسةٍ جديدةٍ في فهم النّص بعيداً عن منهجية الحصار بالتراث ، و كونه ليس بفقيهٍ ، و لا يعمل على تفسير القرآن ، يقول [ الصادق النيهوم / الرمز في القرآن ] : [ ... كنت أقوم بدراسة في [ الكلمة والصورة ] محاولاً أن أتعرف على أبعاد الرمز وراء حدود اللفظ ، وقد قادتني مراجعي منذ البداية إلى كلام الله في القرآن ؛ وبذلت جهداً جانبياً لفهم النص المقدس ضمن إطار دراستي ] ، و يضيف [ ... : ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف 25 ، والسؤال : هل يروي القرآن هنا حدوث معجزة ؟ ، وهل نام أصحاب الكهف ثلاثة قرون حقاً ؟ ، وليس ثمة شك أن المرء يستطيع أن يعتمد الإجابة باعتبار أن المعجزة ظاهرة في معظم الديانات ، وإن الله على كل شيء قدير، ولكن أليس ثمة طريق آخر ؟، أنا سأفترض أن القصة بأسرها [ حادثةٌ رمزيةٌ ] تهدف في الظاهر إلى الحديث عن بضعة من القديسين المطاردين في الجبال ، وتهدف في الواقع إلى الحديث عن [ تاريخ المسيحية ] ذاتها ، وهذا طريقي إلى ذلك الافتراض ، المسيح لم يولد في الخامس والعشرين من ديسمبر كما يزعم الإنجيل وقد ثبت الآن بأدلة لا تقبل الشك أن عيسى قد ولد قبل التاريخ المعتمد حالياً [ 5 ] سنين على الأقل ، والقرآن يذكر أن مريم جاءها [ المخاض ] بجانب [ نخلةٍ ] ، وقد أشار القرآن إلى هذا المكان بالذات لكي يشير بعد ذلك إلى أن بلح النخلة كان قد استوى وصار رطباً ، ولأن البلح لا ينضج في ديسمبر ؛ فمن الواضح أن [ القرآن يرفض تاريخ الميلاد الحالي ] الذي يحتفل به المسيحيون ، ولعله من المدهش أن يثبت علماء المسيحيين بعد ثلاثة عشر قرناً من نزول القرآن أن المسيح لم يولد في شهر ديسمبر فعلاً ، ثم أثبت الأسقف [ بارنز ] أن تاريخ الميلاد ذاته ليس صحيحاً ، وإن عيسى كان قد ولد قبل ذلك بخمس أو ست سنين ، فإذا افترض المرء أن المسيح بدأ في نشر دعوته مثل كل الأنبياء بعد أن بلغ مبلغ الرجال ، فإن المسيحية تكون قد بدأت في السنة [ 25 ] للميلاد ، وليس في السنة الثلاثين كما يزعم القسيس وهذه السنوات الخمس مهمة للغاية ، فبعد [ 325 ] عاماً بالضبط أصبحت المسيحية دين الدولة الرسمي ، وفقدت وحدانيتها لأول مرةٍ عندما اعتمد الإمبراطور نظرية الثالوث ، وعملية الحساب العادية تثبت أن الدين الجديد ظل مطارداً [ 300 ] عام بالضبط ، وظلّت عبادته سرية يزاولها القديسون في [ الكهوف ] طبقاً لكل المراجع المعتمدة حتى عصر قسطنطين ، ألا يفسر ذلك قول القرآن : ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ [الكهف 25  ، أليست هذه بالضبط نقطة الإعجاز التي وقفت تتحدى محاولات الشعراء التقليدية ، فالشاعر يستطيع أن يجد اللفظ ، ولكنه لا يستطيع أن يتجاوز [ معلومات عصره التاريخية ] ، وليس ثمة شك أن أحداً في العالم بأسره لم يكن يعرف تفاصيل حادثة الميلاد إلى هذا الحد ، ثمة نقطة أخرى أن القرآن يقول : ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف 25 ، فما هي السنوات الزائدة ؟ ، الإجابة المذهلة أن كل [ مائة سنة شمسية ] تزيد بمقدار [ ثلاث سنوات ] عن كل [ مائة سنة قمرية ] ،  والمسيحيون يحسبون تاريخ الميلاد بالتاريخ الشمسي والعرب يحسبون بالتاريخ القمري ، وأشار القرآن إلى الفرق دليل حاسم على أن يتحدث هنا عن حقيقة تاريخية تتطلب كثيراً من الدقة ، وليس من المحتمل أن تكون تلك الحادثة شيئاً أخراَ غير التاريخ المسيحي الذي يتبناه العالم الآن ، الرمز لم يكتمل بعد ] .

 

[ ... باقي الآيات تتحدث بوضوحٍ عن كهفٍ معينٍ عندما تقول : ]وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ [الكهف 17 ، وحركة الشمس هنا ليست معجزة ، فأي كهف ذي مدخل شمالي يقع فوق مدار السرطان في نصف الكرة الشمالي لا تصله الشمس في أي وقت من أوقات النهار ، فإذا أضاف المرء إلى هذه الحقيقة ، أن المسيحية انتشرت أولاً في أوربا فوق مدار السرطان فإن الرمز يصل نهايته من الدقة ، وتتحول الحادثة إلى صور بلاغية معجزة ، فالكلمات تروي قصة أصحاب الكهف كما تناقلها الناس في عصر النبي والرموز وراء الكلمات تتحدث عن حقائق تاريخيةٍ خفيةٍ لا علم لأحد بها ، والنص بأسره متناسقٍ ومنطقيٍّ مقنعٍ في كلا الحالتين ، وأنا أزمع أن أواصل عرض هذا التناسق تحت مسطح لكلمات ، فالحديث عن مجموعة من القديسين في أحد الكهوف يستطيع أن يكون مجرد مدخل إلى [ كليّات تاريخيّةٍ عامةٍ ] ، وهذا العمل معروف في آداب العالم المعاصر ] ، و يكمل الصادق حديثه عن منهج القصّة في القرآن ، والذي يشمل بالدرجة الأولى إلى تحقيق الشمول المسخّر لأهداف الرمز في تفسيرٍ عقليٍّ للقصة التاريخيّة لكن بلغة أخرى ، و خارج التاريخ حقيقةً : [ القصّة تبدأ بقوله تعالى : ]أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ، إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ، فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً ، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً [الكهف 8-12 ،والمرء يستطيع أن يلاحظ يفسر أن النص يخلوا خلواً متعمداً من التفاصيل ، فليست ثمة إشارة إلى [ عدد أصحاب الكهف ] أو [ عدد السنين ] التي قضوها هناك أو مكان الكهف نفسه ، وليس ثمة تحديد خاص لمفهوم الكلمات المستعملة فالآية [ فضربنا على آذانهم ] تعني [ منعناهم من السمع ] ، وأحد معاني [ ضرب ] : سد وأغلق ، ولكن الآية تعني أيضاً [ عزلناهم عن العالم من حولهم ] واللغة العربية ما تزال تستعمل جملة [ ضرب حوله ستاراً من العزلة ] وتعني [ عزلة كلية عما يحيط به ] ، فأي التفسيرين أقرب ؟، فالمعروف أن كتب التفسير تتبنى فكرة العزلة بطريق النوم ، هي فكرة تستند في الدرجة الأولى إلى [ أسطورة مسيحية ] تقول : أن سبعة من أتباع المسيح لجاءوا إلى أحد الكهوف هرباً من الاضطهاد الديني في عصر الإمبراطور [ ديكيوس ] و قد اكتشفت الشرطة أمرهم وسدوا عليهم منفذ الكهف ، فظلوا نائمين بداخله [ 187 ] عاماً طبقاً لإحدى الروايات و [ 375 ] عاماً طبقاً لرواية أخرى ، والقرآن لا يثبت الزعم ولا ينفيه ، وخلو النصين من التفاصيل يشير إلى فكرة التعمد القرآني لاختيار هذا الموقف  ،  وتجنب كلمة [ النوم ] بالذات تبدو بمثابة اقتراح مجدد للبحث عن [ تفسير أخر أكثر شمولاً ] ، إلى جانب ذلك يبدو الإصرار على ذكر كلمة [ الرقيم ] ظاهرة أكثر مدعاة للتريث في قبول الأسطورة المسيحية ، [ فالرقيم ] رمزٌ واضحٌ محدد للنشاط التجاري الذي تميزت به الأمم المسيحية في العصور الحديثة ، و [ الكهف ] رمز أخر محدد للنشاط الكهنوتي في الأديرة المتوحدة وتباع النساك في الجبال ، وترتيب وضع الكلمتين في النص [ الكهف والرقيم ] يبدو بمثابة تلخيص مذهل لتاريخ المسيحية بأسرها التي بدأت في كهوف الرهبان وانتهت في بورصات المدن الكبيرة والبنوك وهو أيضاً نبوءة واضحة بالمصير المادي لتعاليم المسيح ، وهذا الاقتراح لا بد أن يدعو في النهاية إلى اعتبار القصة كلها عملاً رمزياً متعمداً ، فالشواهد تشير بوضوح إلى أن القرآن لا يسرد حادثةً معينة داخل أية تفاصيل ، ونقاط الاقتراح تتوالى على هذا النحو :

 

أولاً: تعمد النص إغفال كلمة [ النوم ] وهي في الواقع الكلمة الوحيدة التي كان بوسعها أن تؤكد حدوث المعجزة ، ولو أن القرآن يرمي إلى الحديث عن [ الخارقة ] غير طبيعية ، فمن المستبعد حقاً أن يعتمد إغفال تلك الكلمة أو يتجنب ذكرها بوضوح كلي .

 

ثانياً: وردت كلمة [ الرقيم ] في نص بالغ الإيجاز دون أن يكون لها ثمة علاقة مباشرة بتفاصيل المعجزة . ولو كانت القصة تروي حدوث خارقة غير طبيعية فقط لما كان ثمة حاجة ملحة إلى ذكر [ الرقيم ] أصلاً .

 

ثالثاً: قدمت الآيات الكريمة صورة غير محصورة لمجموعة من النساك لجاءوا إلى الكهف ما عدداً معيناً في السنين ثم غادروه في النهاية ، ولم تتقدم الآيات بأية تفاصيل كتثبيت حدوث المعجزة أو عدم حدوثها .

 

والقرآن لا يتعامل مع الظواهر غير الطبيعية بهذا الأسلوب ، إلا إذا كان ثمة تفسير أخر أكثر احتمالاً يعترض طريق التحديد ، أما التفاصيل فتبدأ بعد ذلك في هذا النص : ]نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ، هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقاً[الكهف 13-16 ، والواضح حتى الآن يشير إلى أول [ ثورةٍ دينيةٍ ] في المسيحية ، وهي تلك الثورة التي يعرف إتباعها باسم [ الموحدون ] في الشرق و باسم [ المفكرون ] في الغرب لأنهم يرفضون الاعتراف بعقيدة التثليث [ والآلهة ] هي عيسى ومريم العذراء ، والآية : ]لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ[، إشارةٌ مذهلةُ إلى حجة الموحدين الذين تحدوا القائلين بالتثليث بأن يثبتوا أن عيسى المسيح قال أنه أبن الله ، وذلك بالضبط هو ما سيعمل الرهبان على تزويره في نسخ الإنجيل التي كتبت في نهاية القرن الأول ، أما نقطة النقاش هنا فهي قول القرآن : ]وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ  [فالاعتزال حادثة معروفة في معظم الديانات ، وهي أيضاً تاريخية فيما يخص الموحدين بالذات ، وليس ثمة اقتراحٌ واحدٌ هنا بحدوث أية معجزة ، فهؤلاء الرجال يعتزلون بقية الفرق القائلة بالتثليث التي تقترف إثم الشرك بالله اعتزالاً عادياً خالياً من أية إشارة إلى الخوارق غير طبيعية ، ثم تطل تفاصيل أكثر : ]وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً [الكهف 17 ، والذي يلفت النظر هنا أكثر هو سرد التفاصيل لمكان الشمس بالنسبة للكهف مما يوحي للوهلة الأولى بأن ذلك هو موطن المعجزة ، ولكن المعروف أن أي مرئ ذي معلومات جغرافية محدودة يستطيع أن يؤكد أن [ حركة الشمس ] هنا لا تقترح أي معجزة ، فالكهف ذو المدخل الشمالي فوق [ مدار السرطان ] لا تصله الشمس مباشرة لأنها تشرق من [ يمينه ] و تغرب من [ يساره ] طوال أيام العام ، فماذا يقترح النص على وجه الضبط،المعروف أن المفسرين القدامى اعتبروا حركة الشمس جزءاً من المعجزة ، وهو تفسير لا يخالف روح النص بأي حال ، ولكن معلومات هذا العصر تتقدم بتفسير أخر أكثر مطابقة للظروف الطبيعية السائدة في مناطق انتشار المسيحية الأولى ، وتلغي حدوث المعجزة في هذا الموضع على الأقل ، وهو عمل يمكن أن يظل قاعدة لمحاولة مخلصة في البحث عن أبعاد الرمز في بقية النص ، ولعل الآيات القادمة تلقي مزيداً من الضوء على هذه النقطة : ]وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً  [الكهف 18 ، وهنا ترد أول إشارة إلى [ النوم ] باعتباره عكس اليقظة ، وترد بقية التفاصيل الخاصة بكلب الحراسة ومكان عند المدخل في وضع محدود حافل بالحياة ، والسؤال المباشر : هل هذه طريقة القرآن لمتميز بالإيجاز في سرد الحوادث   الخارقة ؟ ، وماذا تعني : ]وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [إذا كان لنص يقترح تفسيراً حرفياً ؟ ، أنا اعتقد أن إجابة الأسئلة ستبدو أكثر يسراً وتحديداً عبر تفسير رمزي لكل وحدات الصورة ، وسوف أحاول أن أثبت هذا الاقتراح ، الآية تقول : ]وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً  [، وهذه الصورة التي يعتبرها معظم المفسرين نقطة الحادثة في رواية أهل الكهف ، تثير في الواقع مزيداً من الثقة في تبني تفسير رمزي من نوع مغاير فالوحدات اللفظية المخصصة لتحديد صورة القديسين داخل الكهف تتميز بأربع ظواهر حادة من ظواهر الرمز :

الأولى: أن الآية تقول : ]وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [ولو كانت الصورة تتعامل مع نظر بضعة من القديسين النائمين في أحد الكهوف لما كان ثمة حاجة إلى تحديد لحظة [ الشذوذ ] في المظهر ، فالنوم ظاهرة عادية من  جميع الوجوه وعندما يرى المرء بضعة رجال يستلقون في كهف ما ، فإن أول ما يخطر بذهنه أنهم هاجعون للنوم ، إلا إذا كان ثمة شيء شاذ يعترض طريق رد الفعل الطبيعي لديه ، وإشارة القرآن إلى هذه النقطة بالذات لا يمكن اعتبارها مجرد وحدةٍ لفظيةٍ عادية .

الثانية: أن الآية تقول : ]وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [وهي حركة تحتمل التفسير بحالةٍ واضحةٍ من النوم القلق ، ولكنها بالتأكيد تحتمل أكثر من تفسيرٍ أخر ،  ولو كان القرآن يتعامل مع صورة واحدةٍ محددةٍ لبضعة قديسين يلجئون للنوم في كهف ما ، لاستبعد كل مسارب التفسيرات الجانبية .

الثالثة: الإشارة إلى وضع الكلب المتأهب للحراسة في مدخل الكهف ، جزءٌ جانبيٌ من الصورة الأصلية يضاهي أجزاء الرمز العاملة في إبعاد الأصل القائم وراء السطح اللفظي ، وليس ثمة شك أن الصورة مكتملة بدون ذلك الجزء ، وإن الإصرار على ذكره في نص موجز لا بد أن يكون عملاً ذا أهداف أوسع نطاقاً .

الرابعة: أن الآية تقول : ]لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً  [وهي إشارة واضحة إلى حالة من الشذوذ لا يمكن تفسيرها كليةً داخل أبعاد صورة القديسين الهاجعين للنوم في أحد الكهوف .

 

وموجز هذا كله أن [ الوحدات اللفظية ] في الآية تتميز بظاهرتين : الأولى : أنها تتطابق تماماً مع حدود التفسير المعروف الذي يتبنى قصة شبان [ ايفيسوس ] في عصر الإمبراطور [ ديكيوس ] ، و الثانية : أن كل جملة في النص المقدس تأتي في صيغة أكثر اتساعاً من أبعاد تلك القصة وحدها ، ولعلي أستطيع أن اقترح هنا أن ثمة تياراً رمزياً خفياً يجري تحت سطح الأحداث الظاهرة في الرواية ، وإن القرآن يجمع بين صورة محددة لبضعة رجال في أحد الكهوف النائية ، وبين صورةٍ أخرى شاملةِ لرمز أوسع أبعاداً ، وهنا تصبح الآية : ]وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ [، رمزٌ لحالة [ الركود ] المعروفة في تاريخ المسيحية بين [ ميلاد عيسى ] و بين عصر [ الإمبراطور قسطنطين ] ، وهي فترةٌ تميّزت بحالةٍ حادةٍ من الخمود الكلي في جميع مناطق الدين الجديد ، وتصبح الآية : ]وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [، رمزٌ لحالة التيه التي عاشها أتباع المسيحية في تلك الفترة ، متلمسين طريقهم لنشر تعاليم المسيح بين أوروبا وبين أثيوبيا عبر أديرة سيناء وكهوف الرهبان في جبال [ البحر الأحمر ] وتصبح الآية : ]وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ[إشارةٌ أكثر وضوحاً إلى أن الدين الجديد كان يواصل انتشاره في مناطق مأهولة بالشعوب التي تحترف [ الرعي ] وهي حرفة شعوب أوروبا خلال تلك الفترة بصورة عامة ، وحرفة سكان [ سيناء ] والمناطق العربية المجاورة و[ أثيوبيا ] ، ثم تصبح الآية : ]لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً  [ إشارةٌ أخرى إلى تلك الفكرة التي سادت [ المسيحين الأوائل ] خاصة أوروبا ، والتي ظلت تربط بين [ التعبد ] وبين ممارسة [ الزهد المسيحي المتطرف ] إلى حد تجاوز النطاق الطبيعي بكثير ، وحتى معظم الرهبان كانوا يمارسون حياة أقرب إلى حياة المتوحشين في الأدغال ، ويطلقون لحاهم وشعورهم ويعزفون عن الغسل ويطيلون أظافرهم ويعيشون العمر كله في مسوح ممزقة وهي ظاهرة بوذية ما زالت معروفة حتى الآن ، والنص بأسره موافق هذا التفسير إلى حد يدعو لإثباته والآية تحمل مزيداً من التفاصيل : ]وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ، إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً[الكهف 19-20 ،  والقصة عادت إلى هذا الحد فليس ثمة إشارة إلى حدوث أي معجزة ، والقرآن يروي الحادثة كما وقعت بين أصحاب الكهف دون أن يحدد مدى [ الزمن ] الذي مضوه نائمين ، ولكن المعجزة تأتي من [ أسطورةٍ مسيحيةٍ ] تقول أن الرجل الذي ذهب ليشتري الطعام واسمه [ جامبليكوس ] انكشف أمره بعد أن قدم للبائع عملة فضية من عصر [ ديكيوس ] ، والقرآن لا يشير إلى هذه الحادثة من بعيد أو قريب ، ولكنّه يثبت بوضوح أن أصحاب الكهف قد انكشف أمرهم في النهاية دون أن يحدد متى حدث ذلك وهل وقع في نفس اليوم أم بعد عدة سنين : ]وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً [الكهف 21 ، وهنا تتضح ثلاث وقائع محددة : الأولى : أن أصحاب الكهف قد حكم عليهم بالموت ، وذلك ما يشير إليه القرآن بقوله : ]لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ [، الثانية : أن الفريق الذي عثر عليهم كان يمثل في معظمه [ سلطة الدولة الوثنية ] وقد نال حق إصدار الحكم النهائي لأنه يمثل السلطة الأقوى ، و الثالثة : أن ثمة مجموعة من المسيحين كانت بين أفراد تلك الفرقة ، وقد عجزوا عن إنقاذ أصحاب الكهف من الموت ولكنهم قرروا اعتبارهم [ قديسين ] وهو ما يشير إليه القرآن بقوله : ]لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِداً [، معلناً بوضوح بداية تلك الظاهرة التي ستعرف في تاريخ المسيحية بإقامة [ النصب ] و [ عبادة القديسين ] ، والقصة ما تزال تخلو من المعجزة ، فالذي رواه القرآن حتى الآن إن : [ بضعة رجال من اتباع التوحيدية قد لجاءوا إلى كهف ما هرباً من الاضطهاد ثم انكشف أمرهم بعد أن لفتوا الأنظار في المنطقة المجاورة وصدر ضدهم حكم بالموت ، فيما اعتبرهم باقي المسيحين قديسين شهداء ] ، ولكن المعجزة تأتي من [ الأساطير المسيحية ] وحدها التي تدخل في تفاصيل بالغة التعقيد وتجعل من الحادثة بأسرها خارقة حافلة بالغموض عبر كل جزء.وموقف القرآن من هذه الأساطير موقف رفض واضح : ]سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَد[الكهف 22 ، وكلمة [ مِّنْهُمْ] تعني المسيحيين على الإطلاق ، ومن الواضح أن القرآن يرفض ما يقوله المسيحيون في شأن أصحاب الكهف ، ولكنه يشير بقوله : ]فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَد[إلى أن أصحاب الكهف كانوا فعلاً من المسيحيين ، وهذه نهاية القصة في القرآن ، ولكن الإشارة إلى [ 300 ] عام تأتي بعد ذلك في مرحلة خاصة من تطور النص ، ولا بد من [ تجميع وحدات القصة ] مرة أخرى لكي تتضح نقطة الحادثة عبر التوزيع اللفظي المتلاحق ، وهذا عمل قائم بذاته لا بد أن أقوم به في فصل خاص ، و الملاحظ في قصة أصحاب الكهف إنها تروي مرتين على التوالي داخل بعد شعري واحد المرة الأولى تتميز بإيجاز متعمد بطريقة واضحة : ]إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً ،  فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً  ، ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً [الكهف 10-12 ، وهذا الهيكل العام يضم أربع نقاط ذات وضع رئيسي في القصة :  

الأولى: إغفال [ العدد ] بالنسبة لإبطال القصة ، و بالنسبة [ لسنوات ] العزلة داخل الكهف ، و الثانية : إغفال [ نوعية العزلة ] ، وهل تمت بطريق المعجزة أم تمت على نحو عادي كما حدث دائماً في تاريخ الرهبنة ، وفي مقابل نقطتي الإيجاز ثمة نقطتا إثبات ، الأولى : أن الاعتزال تم بمقتضى حاجة دينية ملحة لتجنب أخطاء الآخرين ، الثانية : أن ثمة حزبين معينين سيدخلان في نقاش حاسم حول قضية الزمن في القصة ، وهنا لا بد أن يشير الرد إلى النص لا يقترح حدوث المعجزة ولا ينفيها ، وأن يتعامل مع حد شعري داخل نطاق الوحدة اللفظية التي تحمل أكثر من تفسير ، فكلمة [النوم ] لا ترد في النص وكلمة [ بعثناهم ] تعني [ البعث من الموت ] أو النوم أو خالة الخمود ، واللغة العربية تستعمل اصطلاح [ يغث الأمم ] بمعنى [ انطلاقها ] وراء أهداف جديدة بوسائل أفضل ، وليس ثمة ما يحول دون تبني هذا المعنى بالنسبة لابعاد النص ، ثم يعود القرآن فيروي القصة مرة أخرى بتفاصيل أكثر :]نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ،  وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ، هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الكهف 13-15 ، والواضح هنا أن القرآن بتعامل مع قصة مجموعة من [ الموحدين ] المسيحيين الذين رفضوا قصة الثالوث ورفضوا اعتبار المسيح ابن الله معلنين أن [ التثليث ] فكرةٌ باطلةٌ لا دليل عليها ، والمعروف أن كلمة [ ابن الله ] ذاتها في لغة المسيح تعني أيضاً [ عبد الله أو خادم الله ] ،  فالقضية اختلاف في تفسير رمز معين ، وليس ثمة شك أن المسيح كان أكثر الأنبياء إيغالا في إبعاد الرمز والنص القرآني يتعامل مع هذه الفكرة بطريقة متعمدة خصوصاً عندما يبدأ في تحديد موقع الكهف :]وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً [الكهف 17 ، و هذا بالضبط أسلوب المسيح عبر إشاراته ذات البعد الرمزي المباشر ، ثم تصل هذه الصورة التي تظهر خط الرمز بطريقة متعمدة ، ]وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً  [الكهف 18، ولكن القرآن لا يستعمل هنا رمزاً مسيحياً خاصاً لا واقع له ، فالقصة ما تزال عماد الحادثة بأسرها ، والنص يتعامل معها داخل إطار الرمز الشامل ، وهذا يعني أن قصة أصحاب الكهف التي أشار إليها أكثر من مرجع تاريخي أخر ، تروس هنا فوق قاعدة رمزية عامة من شأنها أن تجدد يقاظاً أكثر أهمية في تاريخ العالم ، وهذا يتضح بجلاء عبر الآيات التالية :]سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِراً وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَد[الكهف 22 . ثم يصل عدد آخر : ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً ، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا  [الكهف 25-26   ، والملاحظ أن محاولات الأساطير لتحديد عدد أصحاب الكهف محاولاتٌ مرفوضةٌ بالنسبة للقرآن ، وإذا كان بعض  المفسرين المسلمين قد تبنوا العدد [ 7 ] لأنه ورد وحده فالواقع أن ذاك مجرد [ اجتهاد ] خاص [ لا دليل ] عليه ، وما دام القرآن يقول : ]مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [فمن المستبعد أن يكون أي من الأرقام المذكورة مطابقة لواقع العدد ، وذلك يعني أن القصة تنتهي في القرآن دون إشارة حاسمة لعدد أصحاب الكهف ، أما عدد السنين التي قضوها في الكهف فترد بعد ذلك في وحدة قائمة بذاتها ، وبعد آيتين لا علاقة مباشرة لهما بجسم القصة :]وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا ، إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ، وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [، وإذا كان بعض المفسرين يلحقون عدد السنين بعدد أصحاب الكهف في الآيات السابقة ويعتبرون العددين معاً جزءاً من السر الذي لم يشأ القرآن أن يفصح عنه ، فإن هذا التفسير أيضاً دليل عليه ، والأقرب إلى روح اللغة العربية أن يعتبر المرء آية : ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ [تقريراً يتميز بصفة الإثبات ، خصوصاً بعد أن أشار القرآن إلى السنين القمرية الزائدة طلباً للدقة في تاريخ الحوادث الكبيرة ، وهذا يعني أن عدد سنوات العزلة الذي لم يفصح القرآن عنه داخل القصة قد ورد بعد أن انتهت رواية الحوادث وبعد أن وصلت القصة ذاتها إلى نهاية واضحة وتم فصلها عن بقية التقريرات بآيتين كاملتين ،فهل يستطيع المرء أن يفترض أن قصة أصحاب الكهف ترد في القرآن لتأدية أبعاد رمزية تحت سطح الألفاظ؟ ، وأن الحادثة التي تروي لجوء بضعة رجال إلى كهفهم ما عدداً ما من السنين ، تضم داخل أبعادها اللفظية رموزاً محددة [ أكثر شمولاً ] ، أنا أفترض ذلك ، وأقيم الافتراض على نقطتين أساسيتين : الأولى : أن قصة أصحاب الكهف التي وردت في الأساطير المسيحية ، تعاد في النص القرآني مجردة تماماً وفي كل المواضع من فكرة المعجزة ، فالقرآن يشير إلى عدد السنين ولا يشير إلى فكرة النوم ، و [ لا يقترح حدوث المعجزة ] بأي حال ، و الثانية : أن [ التحديد ]  الذي أورده القرآن حدث في موضوعين هامين بالنسبة لتاريخ المسيحية ،  [ الموضع الأول] يخص موقع الكهف فوق مدار السرطان ، وهو بالضبط مكان انتشار المسيحية بصورة عامة ، و [ الموضع الثاني ] يخص عدد السنين الذي جاء منفصلاً عن أصل القصة ومحدد بالسنوات الشمسية والقمرية ، وهو بالضبط عدد السنوات التي قضتها المسيحية قبل أن تتبنتها [ الدولة الرومانية  ] وتصبح دين الدولة الرسمي ، وإذا كان هذا الافتراض سليماً كما يبدو لي ، فأنا أنوي أن أقترح هنا أن قصة أصحاب الكهف ، كما وردت في القرآن كانت تتجاوز معلومات العالم التاريخية في عصر النبي ، وإن أحداً من المفسرين الأوائل لم يكن بوسعه النفاذ إلى [ منطقة الرمز ] التي تعتمد أصلاً على معلومات لا يملكها ، ولعل ذلك هو المصدر الحقيقي لإصدار القرآن على استعمال حدود لفظية واسعة مثل :]فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ  [الكهف 11 ، ومثل تأخير الآية : ]وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف 25 ، والوقع أن وجود احتمالات التفسير المتعددة دليل حاسم على هذه الحقيقية ، ولكن الرد يحتاج دائماً إلى مزيد من الأمثلة لكن يطمئن إلى أي افتراض ] ، و ينتهي هنا حديث النيهوم ، و مرّة أخرى ليست هذه قفزة في الفراغ ، فإبعاد الفهم الأسطوري عن النّص ، يبقى محاولةً لقبول التحّدي الذي يعلنه النّص نفسه : ]قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 88 ، ]أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود 13 ،  ]أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد 24 ، ]وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ [القمر 22 ، و القول بالإحاطة الكاملة بتفسير القرآن عبر أي مرحلةٍ زمنيّة كانت يبقى محض افتراء لا يكلّف النّاس شيئاً سوى أنهم يفقدون عقولهم ، مما يوصلهم الى النتيجة التي يعلنها أيضاً النّص : ]وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً [الفرقان 30 ، بالإضافة الى هذا التأويل [ الرمزي ] يمكن أن نعزل الواقعة عن سياقها التاريخي في المجمل ، لنضع فهماً آخر لمعنى القصّة ، فالسبات الذي إضطّر إليه أهل الكهف كان سببه أمران يحدثان في كل مكانٍ و عبر كل زمانٍ أيضاً ، يمكن فهمها عبر قراءة النّص من [ داخل المجتمع ] لا عبر [ خيال الفقيه ] : الأول : فهم الدين بمعنى التزهّد و عزل الإنسان عن مجتمع [ الحياة الدنيا ] بحثاُ عن نعيم [ الحياة الآخرة ] ، ليصبح المجتمع مجتمع أهل الكهف لكن بصورةٍ أخرى حقيقةً  ، و الثاني : أن [ التسلّط الكهنوتي ] يوصل المجتمعات الموغلة في [ التديّن السطحي ] الى الوصول فقط لأقصى درجات التخلّف ، فالكهنوت مرتبط بتسليم فهم الدين لطائفةٍ بعينها ، تقوم فقط بعزل دين الناس عن الناس ، و إلغاء الفكرة المركزيّة المرتبطة بالإسلام كون ديناً [ وسطاً ] : ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة 143، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [التوبة 34 ، و الخطاب في الآية يتحّث عن [ أحبارٍ ] ينتمون بالظاهر للمؤمنين و يقودونهم زوراً بإدعاء العلم في الدين ، و احتكار العلم في الخواص دون العوام ، يقول الغزالي فيما يُنسب إليه من شعر : [ و أكتم علمي عن ذوي الجهل طاقتي/ و لا أنثر الدر الثمين على الغنم ، فمن منح الجهّال علماً أضاعه / و من منح المستوجبين فقد ظلم ]، و هذه صورة فقهاء التقليد صراحةً دون الحاجة الى الغوص في اللغة و الرمز حقيقةً 

اجمالي القراءات 10598