العصيان المدنى.. وما أدراك ما العصيان المدنى؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ٠٣ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

تعليقاً على الجدل المُحتدم عما إذا كان العصيان المدنى، الذى كانت بعض القوى الثورية المصرية قد دعت إليه منذ عدة أسابيع، قد نجح أم فشل، فإننى أخصص هذا المقال للموضوع.

كان مركز ابن خلدون قد دعا فى السنوات العشر الأخيرة من حُكم حسنى مُبارك إلى «العصيان المدنى» كوسيلة ضغط سلمية لنزع شرعية النظام. ومارسناه عملياً فى بعض قُرى ومُدن مُحافظة الدقهلية منذ عام ٢٠٠٥.

ولم يكن هذا المُصطلح مُتداولاً فى ذلك الوقت، لا فى اللغة السياسية، ولا فى المُمارسات الاحتجاجية للأحزاب والقوى الشعبية. هذا رغم أن مصر والمصريين عرفوا ومارسوا العصيان المدنى قبل كثيرين فى العالم، مثل المهاتما غاندى فى الهند، ومارتن لوثر كينج فى الولايات المتحدة، فى ثلاثينيات وستينيات القرن الماضى على التوالى. صحيح أن «غاندى» هو الذى أضفى على هذا المُصطلح قوة وذيوعاً، بعد أن أصّل له نظرياً وفلسفياً، وبعد أن نجح فى إقناع ملايين الهنود بمُمارسته فى مُقاومة الاحتلال البريطانى للهند، وإجباره على الجلاء عن بلاده، عام ١٩٤٧.

وقد كان على المهاتما غاندى، لكى يُقنع الآخرين من أبناء شعبه الهنود، هو أن يبدأ بنفسه. من ذلك أنه مع بداية الاحتلال البريطانى، أدرك أن إحدى آليات هذا الاحتلال فى استغلال بنى وطنه، هى شراء الأقطان من المُزارعين الهنود بأبخس الأسعار، ثم تصديرها إلى بريطانيا حيث يتم غزلها، وتصنيعها إلى نسيج، يُعاد تصديره إلى الهند، ليُباع إلى الهنود بأسعار مُضاعفة، وتجنى بريطانيا من وراء ذلك أرباحاً طائلة، وأن ذلك أحد الأسباب الرئيسية للتمسك باحتلال الهند.

فما كان من «غاندى» إلا الدعوة لمُقاطعة المنسوجات المستوردة من بريطانيا، والقيام بغزل القطن مُباشرة، ونسجه مُباشرة فى الهند. وكانت صورة غاندى، وهو يمسك مغزلاً يدوياً بدائياً، هى أحد رموز المُقاومة الروحية- الساتيا جراها. ونجحت الحملة، وتأثرت مصانع النسيج الإنجليزية، وأصابها الكساد. لقد كانت مُقاطعة الواردات البريطانية، هى إحدى صور المُقاومة.

وكان نجاح سلاح المُقاطعة حافزاً للتطوير إلى مستوى آخر، وهو خرق القوانين التى سنّها البريطانيون لمنع الهنود من التنظيم والتظاهر فى الميادين العامة للمُدن الهندية. واعتبر «غاندى» أن المقصود بذلك هو حصار أنشطة الحزب الذى كان قد أسّسه مع عدد من أنصاره فى مُقدمتهم جواهر لال نهرو، ومحمد على جناح، وهو حزب المؤتمر. ولذلك اعتبروا هذه القوانين ظالمة، ولا ينبغى طاعتها أو الامتثال لها. فبدأ الثلاثى المهاتما غاندى، وجواهر لا لنهرو، ومحمد على جناح، يخرقون هذه القوانين. فيتم القبض عليهم، ومُحاكمتهم، وإيداعهم السجون.. وهم لا يُقاومون، بل يذهبون طواعية إلى السجون. وبمُجرد سريان حبس غاندى ورفاقه، بدأ عشرات، ثم مئات، ثم آلاف الهنود يخرقون نفس القوانين الظالمة، ويتم القبض عليهم وحبسهم.

ولكن حينما وصلت أعداد المُتظاهرين إلى مئات الآلاف، أسقط فى يد سُلطات الاحتلال البريطانى. هذا فضلاً عن استيقاظ الوعى بحق تقرير المصير، الذى كان الحُلفاء قد رفعوه أثناء الحرب العالمية الثانية لتعبئة الرأى العام ضد النازية الألمانية، والفاشية الإيطالية. كما أن آلاف الطلبة الهنود الذين كانوا يدرسون فى بريطانيا، وظّفوا هوامش الحُرية المُتاحة لهم فى استمالة الرأى العام البريطانى لتأييد مطالب الهنود فى الاستقلال. وهو ما أذعنت له الحكومة البريطانية أخيراً، عام ١٩٤٧. وهكذا، تطور الاحتجاج إلى مُقاطعة، إلى عصيان مدنى، أسقط الاحتلال البريطانى للهند.

والجدير بالذكر، وهو غير معروف لمُعظم المصريين، أن «غاندى»، صاحب فلسفة العصيان المدنى، كان قد توقف فى مصر، أثناء إحدى رحلاته من بريطانيا إلى الهند، مروراً بقناة السويس، بعد ثورة ١٩١٩، وحاول الالتقاء بسعد زغلول. ولأنه لم يكن قد ذاع صيته بعد، فإن أقصى ما حظى به كان لقاء بعض أصحاب سعد زغلول من شباب الوفد. ويقول «غاندى»، فى بعض رسائله، إنه كان مُنبهراً بقُدرة سعد زغلول وحزب الوفد على توحيد المُسلمين والأقباط تحت شعار «الدين لله والوطن للجميع». وأنه اقتدى بكثير مما تعلمه عن ثورة ١٩١٩ للتغلب على السياسة البريطانية العتيدة «فرّق تسُد Divide and Rule».

وكما نهج «غاندى» نهج سعد زغلول، فإن داعية الحقوق المدنية، الأمريكى، مارتن لوثر كينج، قد اقتفى طريق «غاندى». ولم يكن النجاح حليف أى منهم فى البداية. ولكن بالمُثابرة وطول النفَس كان النجاح حليفهم جميعاً فى النهاية.

بل إن ثورة ٢٥ يناير المجيدة تُعتبر نموذجاً فذا على العصيان المدنى. فقد كان احتجاج الشباب سلمياً من بدايته إلى أن أسقط الرئيس حسنى مُبارك فى الحادى عشر من فبراير ٢٠١١. ولم يُطلق ملايين الشباب، ومن التحق بهم من الكبار طلقة نارية واحدة. ولكن زبانية النظام هم الذين استخدموا العُنف وأطلقوا عليهم الرصاص، وقتلوا منهم المئات وجرحوا منهم الآلاف، فى الوقت الذى ظل فيه المُتظاهرون يُرددون أحد شعاراتهم الأثيرة «سلمية.. سلمية»!

فالمصريون، والأمر كذلك، مارسوا العصيان المدنى بداية بثورة ١٩١٩، وانتهاء بثورة ٢٠١١، سواء استخدم الأولون منهم أو التابعون هذا المُصطلح أو لم يستخدموه فى حينه. أى أن المصريين من أوائل من مارسوا العصيان المدنى، على امتداد ما يقرب من مائة عام.

فليتمسكوا بهذا المنهج الأكثر تحضراً فى النضال ضد الاستبداد والفساد والطغيان. فهو بضاعتهم رُدت إليهم.

وعلى الله التوفيق

اجمالي القراءات 10199