سوريا
الفيتو الروسي

زهير قوطرش في الأحد ١٩ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

هذه المقالة أنقلها لقراء الموقع ,بعد سؤال وجهته لي الأخت إيناس عثمان ,حول الموقف الغير متوازن للروس إزاء الأحداث التي تجري على أرض سوريا الحبيبة .وكوني ولظروف خاصة الآن لا  أكتب ....فقد فضلت أن  أنقل أراء السياسين والصحفيين اللذين امتهنوا هذه المهنة ...للآضطلاع على تحليلاتهم السياسية  وتكوين رأي سياسي مع أو ضد

والمقالة  للدكتور صبحي حديدي .

بعنوان  فيتو موسكو والرهان على شرعية رامي مخلوف

 

 قبل أن تستخدم روسيا والصين حقّ النقض في مجلس الأمن الدولي، لتعطيل قرار يدين ممارسات النظام السوري في قمع الانتفاضة الشعبية، كان البلدان قد استخدما في واقع الأمر الحقّ ذاته الذي سبق للولايات المتحدة أن استخدمته، مراراً وتكراراً، لتعطيل أيّ قرار يمسّ إسرائيل، لكي نبقى في قضايا المنطقة.
كذلك كانت روسيا والصين تتساويان، في استخدام الـ'فيتو'، مع جميع القوى العظمى التي تحتكر هذا 'الحقّ' وتلجأ إليه دفاعاً عن مصالحها القومية، في المقام الأوّل، ومصالح الحلفاء والشركاء والأصدقاء في المقام الثاني، وكلما اقتضت الضرورة. مَنْ كان منهم بلا خطيئة، في هذا المضمار، فليرجم موسكو وبيجينغ بحجر!
غير أنّ هذه الحقيقة البسيطة، التي لا ينكرها أحد حتى في صفوف أشدّ السذّج طوباوية، لا تُبطل مقدار قلّة الأخلاق في استخدام القوى العظمى للـ'فيتو'، هذا إذا توجّب الاكتراث بأي 'خلق قويم' في السياسة أصلاً، من جهة أولى؛ كما لا تقي الشعوب أو القضايا محلّ اختلاف تلك القوى، ومبرّر ذهابها إلى النقض، مخاطر ما تنطوي عليه سيرورة تعطيل مشروع القرار، من جهة أخرى. وإذا توفّرت قلّة تعلّق الكثير من الآمال على تمرير أي مشروع في مجلس الأمن الدولي ضدّ النظام السوري، فإنّ غالبية المراقبين يمكن أن تقتفي منطق الأمور الأبسط، فترى في إصدار القرار نافذة ضغط نوعي، معنوي وملموس في آن، لا يجوز إغلاقها أمام الشعب السوري.
من وجهة النظر الصينية، تبدو خيارات مساندة النظام السوري أوضح، وأسهل في الواقع، لأنّ بيجينغ تنفر نفوراً تاماً، وغريزياً على نحو ما، من أيّ 'فيروس' ديمقراطي يمكن أن يبلغ الشارع الصيني، حتى إذا ابتدأت حضانته على مبعدة مئات الآلاف من الأميال، أو كان من طينة ثقافية وسياسية مختلفة تماماً. كذلك ليس في وسع الصين أن تهدر، من نيويورك وفي قاعة مجلس الأمن الدولي، استثمارات بمليارات الدولارات في سورية، سواء في القطاع العام أم تلك التي يشهدها القطاع الخاصّ، ويديرها (ليس من دون مفارقة صارخة) رجل الأعمال السوري محمد حمشو، أحد كبار تماسيح الفساد في البلد، صاحب قناة 'الدنيا' الأشدّ تطبيلاً للنظام وتزويراً لإرادة الشعب وتشبيحاً ضدّ الانتفاضة، الذي يحدث ايضاً أنه... رئيس 'مجلس الأعمال الصيني ـ السوري'!
فإذا انتقل المرء من تفويت فرصة الضغط على النظام إلى النقيض، أي إسداء خدمة لمخططاته ومزاعمه ودعاوته، وإلحاق الضرر بالانتفاضة والشعب السوري؛ فإنّ من اليسير ترقّب طبيعة التوجهات التي يمكن أن تتخذها ردود الأفعال المعاكسة في الشارع الشعبي السوري: ابتداء من ارتفاع مقادير البغض للبلدين، إسوة بالحكومتين كما يتوجب القول، مروراً بحرق أعلامهما أثناء التظاهرات، وليس انتهاء بتقديم ذريعة جديدة للذين ضاقوا ذرعاً بسلمية الانتفاضة وأخذوا يطالبون بتسلّحها ويدعون إلى انتهاج عنف دفاعي مضادّ في وجه آلة النظام الوحشية.
لا تُنسى أيضاً، رغم أنها هامشية وغير جوهرية، درجة الإحباط التي قد تصيب الشارع الشعبي إزاء المبتهجين بقرارَي الـ'فيتو'، الروسي والصيني، ليس في صفوف السلطة وأبواقها وأتباعها، فهذا أمر منتظَر بالطبع، بل في الأوساط التي تحتسب ذاتها على المعارضة. فإذا تجاهل المرء موقف شخصية هلامية وسلطوية مثل قدري جميل، ممثّل ما يُسمّى 'الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير في سورية'، الذي اعتبر أنّ الـ'فيتو' الروسي يشبه ما جرى في العام 1956 عندما استخدم الاتحاد السوفييتي حقّ النقض أثناء العدوان الثلاثي على مصر؛ فماذا يُقال في موقف حسن عبد العظيم، حامل هذه المسؤوليات الجسام مجتمعة: الأمين العام لـ'حزب الاتحاد الاشتراكي الديمقراطي العربي'، والناطق باسم 'التجمع الوطني الديمقراطي'، والمنسق العام لـ'هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي'، الذي دعا موسكو إلى أن تكون 'متوازنة' في علاقتها بكلّ من النظام والشعب في سورية؟
مصالح روسيا، التجارية والعسكرية والسياسية، التي تقف وراء مساندة النظام السوري، ليست سرّاً على أحد، ولا ينبغي لها أن تكون مفاجئة إلا لبسطاء العقول ودعاة الخلق القويم في السياسة، والطوبى في الاقتصاد. يقرأ المرء تقريراً حديث العهد في الطبعة الإنكليزية من صحيفة 'أخبار موسكو'، فيقع على استثمارات روسية في سورية تبلغ 19.4 مليار دولار، تتركز أساساً في التسلّح والبنى التحتية والطاقة والسياحة. تُضاف إلى هذا حقيقة أنّ الاتحاد السوفييتي المنحلّ كان المزوّد الأكبر لأسلحة الجيش السوري، وأنّ الديون المترتبة على دمشق وصلت إلى 13.4 مليار دولار، محت موسكو القسم الأعظم منها في ما بعد، واستبدلتها بعقد تسليح يبلغ أربعة مليارات، جرى التوقيع عليه سنة 2006.
من المعروف، أيضاً، أنّ إيران هي التي تتعهد سداد غالبية هذه الفواتير، ليس إكراماً للنظام السوري في الاعتبار الأوّل، بل لأنّ بعض هذه الأسلحة يُعاد شحنه إلى طهران، ضمن سياسة موسكو في التحايل على قرار حظر تصدير السلاح إلى إيران، وهذا بُعد أقليمي، ودولي، للموقف الروسي في تأييد النظام. بُعد آخر، ذو طبيعة مشابهة، يتمثّل في التسهيلات التي تحصل عليها موسكو من منشأة الخدمات البحرية الواقعة على الساحل السوري، في طرطوس، التي ترقى عملياً إلى مستوى القاعدة البحرية.
أهمية هذه المنشأة انها تُعتبر نافذة موسكو الثانية على المياه الدافئة بعد ميناء سيباستوبول على البحر الأسود، إذ أنّ جميع الشحنات البحرية الروسية ينبغي أن تمرّ من مضيق البوسفور، الواقع في المياه التركية.
وفي مطلع أيار (مايو)، سنة 2005، حين قام بزيارته الرسمية الأولى إلى دمشق (وكانت أيضاً أوّل زيارة يقوم بها رئيس روسي إلى سورية، في عهد الاتحاد الروسي) اختار ديمتري ميدفيديف صحيفة 'الوطن' السورية الخاصة، وليس أية صحيفة أخرى حكومية مثل 'البعث' أو 'الثورة' أو 'تشرين'، لتوجيه رسالة إلى الشعب السوري. أغلب الظنّ، اعتماداً على المنطق البسيط، أنّ المستشار الذي نصح مدفيديف باختيار 'الوطن' لم يكن جاهلاً بشؤون سورية المعاصرة، وكان يعرف أنّ الصحيفة أطلقها ويملكها رامي مخلوف، ابن خال الرئاسة وأشدّ رجال الأعمال السوريين نفوذاً وسطوة، وأعلاهم سيطرة على ميادين المال والاستثمار والتجارة والتصنيع المحلي. وبذلك فإنّ استقراره على اختيار هذه المطبوعة بالذات لم يكن عشوائياً ولا بريئاً، وكان إرسال إشارات ذات مضامين سياسية واقتصادية واستثمارية هو القصد؛ لم يغب عنها المغزى الإيديولوجي ربما، في تفضيل القطاع الخاصّ على الحكومي.
مدفيديف ـ ونقتبسه، هنا، في نصّ صحيفة 'الوطن' السورية ـ استذكر علاقات التعاون التاريخية بين البلدين، وعدّ عشرات المشاريع الصناعية ومشاريع البنية التحتية؛ ثمّ انتقل مباشرة إلى ما يهمّ موسكو بصفة أولى في ميزان العلاقات الدولية، أي نظام تعدد الأقطاب، وقال: 'قبل كل شيء يجب تفعيل الحوار السياسي المتعدد الأبعاد، وتجمعنا فكرة إقامة نظام عالمي عادل يقوم على سيادة القانون الدولي، ومساواة كل الدول ـ أكانت كبرى أم صغرى ـ والتعامل بينها من أجل حلّ القضايا العالمية، بما فيها التحديات والمخاطر الجديدة التي نواجهها في القرن الواحد والعشرين'.
وللوهلة الأولى تبدو هذه النقطة أقرب إلى تحصيل حاصل متفق عليه ويحظى بإجماع طبيعي، لولا أنّ ما وراء الأكمة فيها يُظهر منطقاً آخر مختلفاً، لعلّه يطيح بقسط كبير من روحية الاتفاق. ذلك لأنّ النظام السوري يمدّ يد الصداقة إلى موسكو، ولكنّ القلب يخفق لهفة على تحسين العلاقات مع واشنطن، قبلئذ وبعدئذ وفي الغضون، فهذه لا تكتسب الأولوية على المستوى العملي التكتيكي فحسب، وإنما قد تكون الغاية القصوى والعليا على المستوى الاستراتيجي كذلك. وموسكو لا تجهل هذا، بل كانت تقيم التوازن مع نظام الأسد الابن على هذا المعيار طيلة عهد الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين، وحتى سنة 2005 عندما قرّر الأسد اتخاذ خطوة نوعية تجاه موسكو حين ضاقت به سبل ترطيب الأجواء مع واشنطن.
والمرء، بالطبع يتمنى أن تلعب موسكو أي دور حيوي يكسر نظام القطب الأمريكي الواحد، لولا أنّ التعويل على روسيا الراهنة هو ضرب من الاتكاء على قوّة عالقة في شباك مآزقها المحلية والوطنية ذاتها، قبل مآزق الكون.
وليس جديداً التذكير بأنّ روسيا تعاني من انحدار متواصل في مستوى المعيشة، وتآكل ثابت في القدرة الشرائية، وفشل متواصل في الخطط الاقتصادية، وتضخّم وعجز وبطالة وعصابات مافيا. وروسيا العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين ترتدّ إلى ما يذكّر بروسيا أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكأنّ مشاهد البلاد اليومية قفزت مباشرة من أفلام سيرغي ميخائيلوفيتش أيزنشتاين.
وإذ ترتدّ هذه الأيام إلى ما يشبه المربّع الأول في حسابات القوّة الدولية، فذلك لأنها تعود من بوّابة واحدة وحيدة هي كاريكاتور التحديث الليبرالي، الذي يتجلّى في صورته الأكثر بشاعة وإثارة للرعب: مخلوق ديناصوري نووي اغترب عن هويته وعن أطرافه الجغرافية والسكانية (25 مليون مواطن روسي يقيمون في بلدان الجوار غير الروسية)، لا يستطيع التقدم خطوة إلى الأمام إلا إذا توقّف في المكان بمعدل زمني يساوي خطوتين إلى الوراء. فكيف يمكن لروسيا، وهي على هذه الحال، أن تتنافس مع سواها من القوى الكونية في إقامة نظام متعدد الأقطاب، تكون فيه مالكة أي قول وفصل، ما خلا 'حقّ' النقض' إياه؟ وهل ميادين تنافسها مع واشنطن أو باريس أو لندن أو برلين... انتقلت إلى درعا وحمص وحماة ودير الزور واللاذقية، حيث يختلط دم الشهيد السوري برماد العلم الروسي؟
خطأ موسكو القاتل أنها هذه المرّة، على نقيض سوابق العلاقة مع النظام السوري، تراهن على عصبة تحتضر، آيلة إلى سقوط وشيك، ولا يدلّ سلوكها الانتحاري إلا على سكرات الموت، وقد فقدت كلّ شرعية ما عدا تلك التي ما يزال الـ'فيتو' الروسي يتمسّح بها، ويبحث عنها عند أمثال بشار وماهر الأسد، رامي وحافظ مخلوف، آصف شوكت وعلي مملوك ومحمد حمشو وطريف الأخرس... فأيّ غرابة، إذاً، في أن لا يتورّع الديناصور الروسي عن مساندة وحوش القمع وذئاب النهب في سورية، على مستوى الأفراد إسوة بالنظام والمؤسسات؟ ولماذا لا تدافع موسكو عن نظام ديناصوري بدوره، وتوريثي أيضاً (حتى إذا اختلفت قواعده عن لعبة الكراسي الرئاسية بين مدفيديف وبوتين)، لا يتقدّم خطوة إلا لكي يرتدّ عشر خطوات؟

اجمالي القراءات 9900