التاريخ ، السنة ، السيرة .
بحثا عن محمد في القرآن [ 18 ]

امارير امارير في الأربعاء ٠١ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

المجتمعات نوعان ، مجتمعٌ تاريخي ومجتمعٌ غير تاريخي ، بمعنى أن الأول يمتلك [ وعياً بالتاريخ ] ، [ مؤرخين محترفين ] ، و[ سلطة حاكمة ] تمتلك وسائل تخوّل لها [ تدوين التاريخ ] في نص مقيّدٌ برغباتها وأهدافها اللحظيّة ، و في واقع الأمر فإن هذه المجتمعات لا تمتلك تاريخاً  حالها حال الأخرى ، بل هي أسوأ حالاً ، إذ تمتلك ما يمكن تسميته [ شيءٌ من التاريخ ] وهو الذي يكتمل في نصٍ مليء بالتلفيق ، بعد أن تضاف [ التأويلات ] ، [ الشهادات ] ، [ التفاسير ] ويتم التركيز على [ التفاصيل ] التي يراها فقط المؤرخ مهمّةً بالنسبة للسلطة والمنفعة التي تراها في كتابة هذا الحدث أو ذاك ، وكلما مر الزمّان ازداد هذا التاريخ في التضخّم تارةً وفي التضاؤل تارةً أخرى ، ورغم كل هذا الكم من النصوص يبقى [ التاريخ المحفوظ المقيّد ] جزأً ضئيلاً من [ التاريخ العام المطلق ] لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يساويه أو أن يحتويه لأنه يبقى بشرياً محدوداً بطاقات وقدرات البشر و المتاح في مرحلة حفظه وتدوينه ، مقيّدٌ غير مطلق ، وهنا تكمن الإجابة عن السؤال ،[  أين يوجد محمّد عليه صلاة اللهحقيقةً ، في المطلق أم في المقيّد الظنّي؟ ] ، فالتاريخ لا يحوي كل شيء ، بل أنّه يحوي داخله في المجمل أشياء لا يمكن فهمها خارج إطار موقعها الجغرافي والزماني مجتمعين ، مرحلة كتابة تاريخ الرسول انفصلت عن مكانه وزمانه ، فكل ما كُتب عن أفعاله وأقواله لم يكتبها هو أو من عاصره ، هنا تسقط تاريخيّة النص المنسوب إليه لا لجهلٍ في الكتابة قطعاً ، وهو ما سنثبته لاحقاً ، بل بسبب تجنّب التداخل الذي سيحدث كنتيجةٍ للمزاوجة و الخلط بين النّص القرآني والسيرة الذاتيّة للرسول ، وهو الأمر الذي حديث في الحالة المسيحيّة ، حيث غاب النّص داخل سيرة المسيح الشخصيّة و انتحل رجال الدين صوت [ الرب ] و[ ابنه ] مجتمعين حسب [ اللغة الإنجيليّة ] طبعاً ، فكل ما يشار إلى أنه على صلةٍ مباشرةِ به في واقع الأمر له علاقة فقط بالمؤرخ الذي كتبه مرتدياً عمامة [ فقيهٍ ] حرفته تقديم [ العلل ] و[ المبرّرات ] ، فهو يعرف فقط ما يمكن أن يعرفه ، والماضي ليس معلوماً في غياب [ الوثائق ] والابتعاد عن زمن حدوثه ، كما أن الماضي مليء بالألغاز التي لا يمكن حلّها بالتكهنّات ، بالإضافة إلى أن [ اللا وعي ] يتدخّل في كتابة التاريخ ، ليصبح التاريخ مجرد [ مرآة للمؤرخ ] لا غير ، ولا يمكن الفصل عند الحديث عن الرسول بين [ سيرته ] و[ أقواله ] ، كلاهما إخبارٌ بحالةٍ تاريخيّةٍ مرتبطةٌ بصورته المقدّسة و شخصيّته التي تسلّط عبرها كل من استطاع انتحالها على العباد منذ أصبح هذا التاريخ جزأ من العلم في الشريعة تحت مسمّى [ الأحاديث النبويّة ] ، ونتحدّث هنا عن هذه النصوص بصفتها نصوصاً تاريخيّةً لا غير ، فالمسلمون وهم يدافعون باستماتة عن ما أسماه الفقهاء [ سنّة الرسول ] في واقع الأمر يدافعون عن نصٍّ تاريخيٍّ متّصل فقط [ بالمؤرخ ] و[ المبرّرات ] التي ألزمته كتابة نصوصه التي نسبها للرسول منتحلاً قداسته وصفته [ الاعتباريّة ] ، فالتاريخ يعني دائماً شيئين اثنين لا علاقة واضحة بينهما ، التاريخ هو الأحداث التي تكوّن الماضي ، وهو أيضاً رواية المؤرّخ للأحداث ، فأفكار المؤرّخ هي جزء من التاريخ في الحالة الثانية يضع فيه أشياء دون أن يدري أحايين كثيرة ، وبنيّةٍ مبيّتة أحايين أخرى ، لكنّها لا تمثّل شيئاً في الحالة الأولى ، فالتاريخ خاضعٌ للزمن خضوع العبد ، فالبشريّة كما يقول كارل ماركس : [ لا تطرح على نفسها إلا مسائل تستطيع حلّها ] ، فكلّ حضارةٍ تلقي الضوء على المسائل التي تهمّها ، وهذا هو حال التاريخ و المؤرّخين ، فحتّى من يقول أن التاريخ الحقيقي هو التاريخ المعاصر فقط ، يبنون قولهم هذا على مبدأ الثقّة المفرطة في نقل المعلومات التي تصل للمؤرّخ المعاصر ، وفي هذا خطأ كبيرٌ كون مصدر المعلومات حتّى في حال كان هو المؤّرخ نفسه يحيل المعلومات إلى ذاته ، فتخرج النتائج عبر لا وعيه لتنتهي إلى كونها فهم الوقائع لا تدوينها ، ليكون التاريخ مجرّد حراسةٍ على الأفكار لا غير ، فالتاريخ الذي تهتم به الدولة هو الذي يخصّها ، وبعد انتهاء عصر هذه الدولة يصبح هذا التاريخ مجرّد فراغٍ مليءٍ بالثغرات لا يمكن تصديقه أو الاهتمام به أصلاً لأنّه ببساطة لا يعني شيئاً خارج إطارا لدولة التي قامت بصناعته ، التاريخ هو : سرد وقائعٍ تُعطى صفة الصدق ، لكن ماذا عن المؤرّخ المتحزّب المنتمي لطائفةٍ تعادي مجمل الطوائف الأخرى ، وهو حال الجماعة التي أسمت نفسها بجماعة أهل السنّة وبنت قاعدة بنيانها فوق متراكمات نصوص أحاديث الرسول المنقولة خارج منهجيّة واقعها ، بل وخارج الواقع ككل ؟ ، فالالتباس أمرٌ مباحٌ جداً ومتاحٌ لسرد الوقائع والأقاويل المنسوبة للرسول ، كما هو حال الانتحال أيضاً ، [ المؤرخ/الفقيه ] الذي يدوّن هذه الأحاديث ناسباً إياها لذات الرسول خاضعٌ لضرورة عمله ، مقيّدٌ بذاته التي تميل إلى الأهواء والنوازع الآنيّة دوماً ، فتكون أحاديث الرسول في المجمل هي أحاديث المؤرخ أو من نقل عنه في نهاية سلسلة سند الحديث لا غير ، لأنّه هنالك [ انحيازٌ ] لاتجاهٍ دون اتّجاه ، وقومٍ دون قومٍ ، وطائفةٍ دون طائفةٍ من قِبل المؤرّخ ، وهنا يكمن السّر و الفجوة الضخمة ، هذا بالإضافة إلى كون هذه النصوص تنتهي إلى [ المُلاحَظ من الأحداث ] ، والمهم منها وهو مسألةٌ نسبيّةٌ ، وبناء تلاحقٍ متّصلٌ بين هذه الملاحظات أمرٌ مستحيلٌ دون تدخّل تأويل و فهم المؤرّخ نفسه الذي يصبح جزأً من النّص ذاته ، ليتحوّل التاريخ إلى عبث و يتحوّل الانتحال إلى جريمة في حالة النّص الديني : ]فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة 13 ، وهذه صفعةٌ ينالها الأتباع ، فبناء صورة الماضي أمرٌ مستحيلً يجعل هذا الماضي فاعلاً لا مفعولاً به ، فالبديهيّات لحظة كتابة التاريخ لا تكون حاضرةٍ في المجمل وقت حدوثه ، الأحداث تحدث من تلقاء نفسها عادة ، لكن المؤرّخ يبحث عن الموضوع فيها والفرق شاسعٌ بين الأمرين ، مع مراعاة الكم الهائل من المفقود من النصوص و الكتب بسبب الصراعات والحروب الطائفيّة التي مرّت عبر التاريخ الإسلامي في مجمله كحرق أو تدمير المكتبات واغتيال أصحاب الرأي المنتمون للطائفة المهزومة على امتداد المسافة الشاسعة ابتداءً من زمن  انقطاع الوحي وصولاً إلى يومنا هذا ، فالمؤرّخ وهو يبني صورة الماضي ينحاز سلبيًاً إلى الطائفة ، ولا يبحث في دقّة الراوي ويحيل المضمون الغرائبي في الرواية إلى اللاهوت والغموض الكامن فيه ، حيث لا يمكن أن يخضع النّص هنا إلى نزعات [ النقّد ] سوى عبر البحث عن [ التعليل ] ، ولا يقترب من [ الموضوعيّة ] إلا لغاية تقديم [ الأسباب ] ، فتحوّل النّص التاريخي من تقديم [ الحضارة ] عند المؤرخ إلى تقديمٍ [ الأشخاص ] عند الفقيه عبر تقديم الأحكام الكليّة والأفعال الصادرة عن الشخص ومحاولة مطابقتها و المنهج الديني الصادر عن الله ، وهذا في واقع الأمر أمرٌ مستحيلٌ كون كل التاريخ هو في واقع الأمر تاريخٌ [ معاصرٌ ] ، فالمؤرّخ لا ينظر إلى [ الماضي ] إلا عبر منظار [ اليوم ] ، وهنا تكمن المشكلة حقيقةً ، ذلك بسبب كون الإنسان وهو الأكثر وعياً بالزمن بين كل المخلوقات ، لكنّ في ذات اللحظة فإنّ أفعاله لا يمكن أن تتّصل وهذا الزمن كي تسير معه وتنتقل بحيثيّاتها عبره ، فيكون التاريخ مجرّد جملة تصوّراتٍ تكوّنت لدى المؤرّخ لا غير ، لمرحلةٍ انقطع عنها عبر [ المكان ] أو [ الزمان ] أو كلاهما في أغلب الأحايين .

 

نكتشف هنا حقيقة كون النصوص [ المدوّنة ] للمرحلة الزمنيّة التي تدّعي أنّها تحتوي وقائعها ، في واقع الأمر ليست نصوصاً تاريخيّةً البتّة ، و لا تمت للمرحلة المشار إليها بمقدار صلتها العميقة بالمرحلة التي تمّت كتابتها فيها ، مرتبطة بالمنظور الذي قيّد المؤرخ حينها ، مع الأخذ في الاعتبار تدخّل [ المستشرقين ] في صياغة الكثير من أمهّات كتب التاريخ الإسلامي ، ولنا في كتاب [ تاريخ الطبري ] خير مثال ، حيث لا توجد نسخة أصليّة كاملة للكتاب سوى بضع وريقاتٍ في المتاحف الفرنسيّة و البريطانيّة ، ولا توجد سوى ترجمات بالفارسيّة ، الإنجليزيّة والفرنسيّة ، قام بتحقيقها وإعادة صياغتها لجنة مستشرقين في أوائل عشرينيّات القرن العشرين  بقيادة المستشرق الألماني [ نولدكة ] والهولندي [ فلهاوزن ] ضمن لجنة رباعيّةٍ تضم آخرين ، بعد أن اكتشفه المستشرق الهولندي [ دي خوي ]  ، وكون العديد من أمّهات كتب التاريخ الإسلامي والسير ليست سوى نصوصاً قام بتحقيقها المستشرقون في عصور متأخرةٍ جدّاً في بدايات القرن العشرين تحديداً ، ككتاب [ الفهرست ] لابن النديم والذي قام بتحقيقه المستشرق الألماني [ فلوجيل ] ، وكتاب [ البيان المغرب  في تاريخ المغرب ] للمراكشي والذي وضعه ونشره المستشرق الهولندي [ دوزي ] ، وكتاب [ خطط المقريزي ] الذي حقّقه المستشرق الفرنسي [ فييت ] رفقة كتبٍ لإبن حوقل ، إبن رسته واليعقوبي مؤرّخ العلويّين ، كل هذا وهم يستخدمون مطابع خلقت آلاف النسخ لكتبٍ أصبحت مع مرور الوقت أمّهات كتب الفقه والتاريخ الإسلامي ، بل و جزأ من الثقافة الإسلاميّة ، كمطبعتي [ بريل ] و[ ليدن ] الشهيرتين ، يقول إدوراد سعيد : [ ... إن الإستشراق مؤسّسةٌ ، وليس عملاً فرديّاً ] ، [ المادة الخام ] للحدث غائبة بسبب المسافة الزمنيّة بين الحدث و كتابة تأريخه ، و[ التناقض ] في الروايات المنسوبة لنفس المرحلة بين طائفة و أخرى ، بل ولنفس الأشخاص دليلٌ على عدم ارتباطها بالأحداث أو الأشخاص عينهم ، [  تأطير ] هذه الأخبار داخل إطار نصٍّ [ انتقائيٍّ ] يلغي ما يشاء ويضيف ما يشاء ، يجعل هذه النصوص ليس سوى [ جزئيّاتٍ ] مشتّتة لا تعني شيئاً حقيقةً ، لأنها كلّها ليست سوى نصوص تاريخ [ خبريّة ] ، أي أنها تاريخ [ أخبار ] ، وهذا النمط يقع أمام عوائق أهمّها [ تحديد الأصول الموثوق ] بها في نقل المروي ، و هذه مسألة مستحيلة لأن من يحدد الثقة من عدمه هو من [ ينتهي ] عنده النص و هو أيضاً من منه [ يبدأ ] ، أي أن النص تقيّده [ الإنتمائيّة ]  والولاء الطائفي بالدرجة الأولى ، وليس التسليم بحجيّة هذه النصوص سوى نتيجة لإفتقاد حاسة النقد والبحث المعرفي للخطاب الفقهي الإسلامي الذي تحجّر على يد الفقهاء : ]وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا [الأحزاب 67 .

 

 

المراجع :

 

 

[ مفهوم التاريخ / عبد الله العروي ] ، المركز الثقافي العربي ، الطبعة الثانية 1992 .

[ قيمة التاريخ / جورج هورس  ، ترجمة نسيم نصر ] ، منشورات عويدات ، الطبعة الثانية 1982 .

[ فلسفة التاريخ عند ابن خلدون / د.زينب محمود الخضيري ] ، دار التنوير للطباعة و النشر ، الطبعة الأولى 2006 .

[ نهاية أسطورة نظريّات ابن خلدون / د.محمود إسماعيل ] ، دار قباء للطباعة و النشر ، القاهرة ، الطبعة الأولى 2000 .

[ الإسرائيليّات و أثرها في كتب التفسير / رمزي نعناعة ] ، دار القلم دمشق و دار الضياء بيروت ، الطبعة الأولى 1970 .

اجمالي القراءات 10033