السيرة ، تاريخٌ دون مؤرّخ عندما يقاوم عود ثقابٍ مشتعل ، رياح الحقيقة [
بحثا عن محمد في القرآن [ 16 ]

امارير امارير في الأربعاء ٠١ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

[ التاريخ ، أكثر الخصال ضرراً و خطراً بين كل ما عنيت به كيمياء الفكر ] .

[ بول فاليري ]

التاريخهو [ ما يصنعه المؤرخ ] ، الأمر بهذه البساطة ، النص التاريخي والذي يحاول أن يكون تأكيداتٍ مجملةٍ تشمل أحداث مرتبطةٍ بنطاقٍ زمانيٍّ و جغرافيٍّ بعينه ، يحوي دوماً ذاكرةً مفقودةً ، هذا النص ليس سوى خليطٍ مضطّربٍ من الأفكار و الرؤى والمشاريع التي لا تخرج عن وجهة نظر [ المؤرخ ] ومنظومة [ التدوين ] التي تبنّت كتابة هذا التاريخ ، إذ يمكن داخل كلِّ مرحلةٍ زمنيّةٍ اكتشاف أكثر من تاريخ ، التاريخ أغنى وأوسع من أن يمكن تدوينه ، إذ أنّه ليس سوى تسلسلاً غير ممكنٍ للأحداث ، هذا التسلسل لا يمكن الحديث عنه منذ انقطع الرابط الزماني و المكاني بين المؤرخ و الحدث ومن يقرأ التاريخ أيضاً ، فأحداث التاريخ تحوي دائماٍ [ سببيّةً طارئةً يخلقها المؤرخ ] ، التاريخ ليس سوى محاولةٍ لمقاومة النسيان ، حرب خاسرةٌ ضدّه في واقع الأمر تقودنا إلى ميلاد نصٍّ نشأ عبر مسلك التزوير ، الكذب والافتراء ، والنوايا غير المعلن عنها ، بل والتي لا يمكن اكتشافها منذ فُقدت الصلة بين عصر [ كتابة التاريخ ] وعصر [ حدوثه ] ، هذه الصلة التي ضاعت في فراغ اسمه [ الزمان ] ، فالتاريخ ليس علماً ، إذ أنّه يقوم فقط بالإجابة على أسئلةٍ لا فائدة منها ، أو يقدّم أسئلةً لا يمكن إجابتها في أحايين كثيرة ، كما أنه يقدّم إجابات جاهزةً ومقولبةً لا يمكن التحقّق منها ، والحديث هنا عن تاريخ تسلسل الأحداث بالدرجة الأولى ، فالتاريخ ليس سوى حراسةٍ للأفكار ، والفرق شاسعٌ بينه و بين العلم ، فهو لا يستند على [ الاختبار ] حاله حال العلوم الطبيعيّة ، أو [ الاستدلالات العقلية و المنطقيّة ] ، التاريخ ليس [ نظاماً متلاحم الأجزاء ] ، متّصلاً يمكن الاعتماد عليه كحقائق لا تقبل الشك ، وهذا هو حال العلوم في مجملها ، إذ أنّه يبقى مجالاً خصباً للاجتهاد و التأليف ، مقيّدٍ برغبات ونزعات [ الساسة ] و[ الفلاسفة ] و[ اللاهوتيّين ] ، [ العلم ] هو [ التدرّج في المعرفة ] ، بينما [ التاريخ ] هو [  جمود المعرفة ] ، حتى في حال كان قد كُتب في لحظة حدوث الحدث ، فما بالك ونحن نتحدّث عن تاريخ أحداثٍ كتبته مؤسّساتٌ ومنظومات تدوينٍ انفصلت عن مكان وزمان حدوث الحدث على أكثر من جانب ، والحديث هنا عن منظومة التراث الفقهي كاملاً بما في ذلك كتب الأحداث ، التاريخ الإسلامي ، السير و الأعلام ، وقد يكون السؤال المنطقي هنا ، [ هل يمكن الاطمئنان للنص التاريخي كمصدرّ للمعرفة ؟ ] ، [ و ماذا يحدث عندما يصبح النص التاريخي مقدّساً ؟ ]، [ماذا يحدث عندما يمتزج اللاهوت و التاريخ ؟ ] ، كي يصبح هذا الأخير [ التاريخ ]  جزأً غير منفصلٍ من [ عقيدةٍ ] أمّةٍ بكاملها ؟ وهل اتبّاع [ سنّة/تاريخ ] الرسول هي طاعة للرسول يمتلك صفته متّصلة بالوحي [ القرآن ] لا غير : ]قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [الكهف 110 ، أم طاعةٌ للمؤرّخ الذي يوثّق هذا التاريخ على اختلاف طائفته و انتمايّته السياسيّة بالدرجة الأولى : ]قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى ، قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَّا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى طه [51 – 52 ، ]تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة 134  ؟ ، وفي واقع الأمر السؤال سهل الإجابة ، بعد التحرر من قيود السلطة الكهنوتية للنص التاريخي يمكننا الحديث عن هذه النصوص بتجرّد ، بوصفها فقط نصوص تاريخيّة ، انطلاقاً من كون المؤرّخ في واقع الأمر يحيل النص إلى ذاته بالدرجة الأولى ، هذه الذات المقيّدة بالوهم بالدرجة الأولى ، فالتاريخ في واقع الأمر لا يتعدّى كونه [ شهادة العيان ] للوقائع والأحداث ، بمعنى أن المؤرخ لا يمكنه أن يتحدّث عن مرحلة تاريخية لم يعاينها و لم يشهدها ، بل و حتى في حال توفّر هذا الشرط الرئيسي فإن شهادته [ النص التاريخي ] تظل منقوصةً و مشكوكاً في صحّتها ، لأن المؤرخ يبقى مقيّداً أولاً [ بمنظوره الخاص ] ، وثانياً [  بحرفيته ] كصانع للتاريخ ،   فشهادات [ المسعودي ] ، [ الجرجاني ] ، [ ابن حزم ] ، [ البيروني ] ، [ إبن حيّان ] أو [ الطبري ] ، بل و[ ابن كثير ] أو [ البخاري ] وحتى [ ابن خلدون ] الذي يُقال أنّه أسس لمنهج أسس علم التاريخ ، تبقى هذه الشهادات مجرّد جزءٍ من مهمّة مزدوجة من استكشاف الوقائع القليلة الهامّة و تحويلها إلى وقائع تاريخيّة ، واستبعاد الوقائع الكثيرة الغير هامّة بوصفها وقائع غير تاريخيّة ، ويتحدّث [ ابن خلدون ] عن أسباب الكذب في الروايات التاريخيّة ملّخصاً إيّاها في نقاط رئيسيّة ، منها أن (1) الكذب متطرّق للخبر بطبيعته لأسبابٍ تقتضيه كالتشيعات للآراء والمذاهب ، وأن (2) الخطأ الذي يقع فيه المؤرخ نتيجة الثقة في الناقل أو الراوي ، فالمؤرخ أحايين كثيرةٍ ينقل الكذب وهو لا يدري ، فإنّ النفس إذا كانت على حالة اعتدالٍ في قبول الخبر أعطته حقّه من التمحيص والنظر حتّى تتبيّن صدقه من كذبه ، وإذا خامرها تشيّعٌ لرأيٍّ أو نحلةٍ قبلت ما يوافقها من الأخبار لأوّل وهلةٍ ، وكان ذلك الميل و التشيّع غطاءً على عين بصيرتها عن الانتقاد والتمحّض فتقع في قبول الكذب و نقله ، و(3) الذهول في المقاصد ، فكثيرٌ من الناقلين لا يعرف القصد مما عاين أو سمع أو نقل من خبر على ما في ظنّه أو تخمينه ، فيقع في الكذب ، و(4) توهّم الصدق ، وهو كثيرٌ و يجيء في الأكثر من جهة الثقة في الناقلين ، وأن (5) الجهل بتطبيق الأحوال على الوقائع لأجل ما يداخلها من التلبيس و التصنيع ، وأن (6) تقرّب الناس في الأكثر لأصحاب التجلّة والمراتب بالثناء و المدح لتحسين الأحوال ، مما يؤدي إلى إشاعة الأخبار الكاذبة عنهم لمجرّد إرضائهم ، و(7) الجهل بطبائع العمران ، فكلّ حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لا بد له من طبيعةٍ تخصّه في ذاته ، وفيما يعرض له من أحواله ، و أيضاً أن (8) النقل في المغالط للحكايات و الوقائع ، واعتماد المؤرخين و المفسّرين على مجرد النقل غثّاً أو ثميناً لا يعرضونها على أصولها ولا يقيسونها بأشباهها ولا يسبرونها بمعيار الحكمة والوقوف على طبائع الكائنات و تحكيم النظر و البصيرة في الأخبار ، فضلّوا عن الحق و تاهوا في بيداء الوهم و الغلط ، وأخيرا (9) كون قياس الماضي على الحاضر قياساّ مطلقاً ، فأحوال الأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرةٍ واحدةٍ ومنهاجٍ مستقرٍ .

 

يجب هنا التمييز بين [ منهج ] ابن خلدون في [ مقدّمة ابن خلدون ] و[ التطبيق  ] في [ تاريخ إبن خلدون ] ، بل بين ابن خلدون نفسه و مقدّمته دون أن ننزعه من جذوره الفكريّة وعصر الانحطاط الذي واكبه ، فمن ناحيّةٍ فإن تاريخ ابن خلدون المعروف باسم كتاب [ العبر ]  خالف المقدّمة والقواعد التي يحتويها بخصوص ميل المؤرخ للتحريف ونقل الأكاذيب ، حيث عاش في ضلّ دولة [ الموّحدين ] ، وكان متحيّزاً لهم في كتابته لتاريخه ، فعلى سبيل المثال عندما توفّى مؤسّس دولة الأدارسة بمرّاكش دون أن يترك ابناً يخلفه ، برزت زوجةٌ له من البربر مع طفلٍ قالت أنّه ابن إدريس الأكبر ، فصار سلطاناً ، فيقول ابن خلدون عن هذا : [ ... يتناجى الطاعنون في نسب إدريس ابن إدريس ابن عبد الله بن حسن بن الحسين بن علي ابن أبي طالب الإمام بعد أبيه بالمغرب الأقصى ، ويعرضون الحد بالتظنن في الحمل المخلف عن إدريس الأكبر أنّه لراشد مولاهم قبّحهم الله ، أما يعلمون أن إدريس الأكبر كان أصهاره في البربر وأنّه دخل المغرب إلى أن توفّاه الله ] ، بل أن أكبر جزء من كتابه كان بخصوص البربر وقد كتبه بناءً على طلب سلطانٍ حفصي في خضم حياة سياسيّة مضطربةٍ مليئةٍ بالمؤامرات والانقلابات  ، لم يكن فيها مساحةٌ للتروي والتدبّر و البحث الدقيق في أصول وصحّة الأخبار التي ترد إليه ، وعلى الصعيد الآخر فإن المقدّمة نفسها تحوم حولها الشكوك خصوصاً إذا قرأنا أن ابن خلدون قد نقل حرفيّاً في مقدّمته نصوصاً كتبها [ إخوان الصفا ] ، ولم يقم بالإشارة إليهم إلا بصفتهم [ أهل بدع ] ، بل ألح على الإشارة إلى أهم أعمدة فكر إخوان الصفا وكان اسمه [ مسلمة المجريطي ] كونه خبيثٌ ملحدٌ ، وإخوان الصفا جماعةٌ فكريّة تنويريّةٍ سياسيّة سريّةٌ من جماعات القرن العاشر الميلادي ، تجاهلها المؤرخون ولا يرد ذكرهم إلا في شذرات ومقتطفات عن رسائلهم خصوصاً ، كما يجدر بالملاحظة البين الشاسع و التناقضات الصّارخة بين الأبواب الأولى للمقدّمة حيث يظهر ابن خلدون عقلانيّاً ، والفصول الأخيرة التي خصّ الحديث فيها عن الشريعة والفقه والتي كان فيها متكّلساً نمطيّاً يميل إلى الخطاب الفقهي المذهبي الشمولي ، والسبب هو كون إخوان الصفا لم يكتبوا في شؤون الفقه أو أمور التمذهب إلا النذر القليل ، إذ دوماً في نهاية المطاف ما تختلط نزعات المؤرخين وشخصيّاتهم بين مؤرخ و لاهوتيّ ، بين عالمٍ وراوي ، بين شاهد و باحثٍ وسياسيّ ، لتظلّ مجرّد منازعات [ حرفيّة ] ، متصّلة [ بالظروف المحيطة ] ، بالأحداث و بالمؤرّخ وقت كتابة [ النص التوثيقي ] ، لا يمكن فصلها عن هذه الظروف الآنيّة ولا يمكن تصديقها أو فهمها خارجها ، التاريخ ينقسم بين [ نقل الأخبار ] ، و[ معرفة الماضي ] من جانب و[ نقد الأخبار ] و[ تمحيصها ] من جانبٍ آخر ، وهذا هو ما جعل [ التأريخ ] يسير عبر اتّجاهين ، الأول يختص بالحياة العسكريّة والسياسيّة والآخر بالحياة الاقتصادية و الاجتماعية ، وهذا الأخير احتكره اللاهوتيّون ، الفلاسفة و علماء الدين ،  وهنا كان المزج الخطير بين [ الدين ] و[ التاريخ ] بحيث تصبح الغاية من التاريخ خدمة اللاهوت بالدرجة الأولى عبر جمع أكبر عددٍ ممكنٍ من الوقائع التاريخيّة التي تخدم الغايات المبيّتة في عمليّةٍ بارغماتيّة المنشأ عبر رحلة خلق نصٍّ [ خارقٍ للعادة ] يحوي النيّة المبيّتة خلف غطاء [ المقدّس ] ، فالتاريخ في واقع الأمر ليس سوى تجميع [ أوهامٍ ] يتوهّمها المؤرّخ عبر نقل تصوّر وفهم الحاضر إلى الماضي وذلك بسبب كون التاريخ يقع في الهوّة السحيقة الفاصلة بين العلوم [ الطبيعيّة ] و العلوم [ الإنسانيّة ] ، التاريخ لا ينتمي إلى [ حتميّة ] الأول و لا يقع ضمن [ حريّة ] الأخير ، بل في واقع الأمر فإن التاريخ ليس علماً أصلاً ، كونه لا يهتم بما يفيد البشريّة أو بتقدّم العقل البشري بمقدار اهتمامه بالنشاط السياسي لحركة البشريّة بالدرجة الأولى ، فكل النّصوص التي تتحدّث عن الرسول الكريم ، أفعاله ، أقواله وتقريراته ليست سوى نصوص تأريخ ، وتصديقها وإتباعها ليست إتباعاً لمنهجه بقدر ما هي إتباعٌ وتصديقٌ لغائيّة المؤرخ الذي ارتدى عباءة فقيهٍ ومقصده أولاً وأخيراً ، فالتاريخ ليس مجرّد كتابةً للأحداث ، بل هو منهجيّةٌ مجوّفةٌ مليئةٌ بالثغرات ، لكن و رغم ذلك ، هنالك قواعد رئيسيّة لا يمكن تجاهلها ، [ فلا تاريخ بدون وثيقة ] وعلى المؤرخ بالدرجة الأولى تقديم [ الشك ] في الوثيقة على [ اليقين ] ببراءتها من التدليس ، وهذه مهمّة مستحيلةٌ وفق منهج أصحاب اللاهوت حيث منهجهم لا يقبل المعقول أصلاً ولا يقبل الدخول إلى دائرة الشك في النّص الديني فقط بسبب كونه منسوباً للدين ، مما يملأ النّص التاريخي بالاستنتاجات الخاطئة كونه يستحيل التحقّق من مطابقة الوثيقة لما ورد فيها حقيقةً .

اجمالي القراءات 9629