الجزء الثاني
ليبيا بين مطرقة الدولة الثوريّة و سندان الدولة الدينية

امارير امارير في الإثنين ٢٦ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

قبل المسير نحو البحث عن الحلول الممكنة ، أو تلك المستعصيّة ، فلننطلق مرّة أخرى نحو إعادة فهمٍ لما نعرفه وما لا نعرفه عن [ الدولة ] ، الدولة ليست حقيقة تاريخيّةً أو علامة أثنولوجيّة يمكن أن نميزّ عبرها الفرد عن الآخر كحقيقةٍ إثنوغرافيّةٍ ، الدولة هي [ هيكلٌ ] و [ سلطانٌ ] ، والرابط بينهما [ جماعةٌ ] تقوم بدور تمثيل سلطة السلطان عبر هذا الهيكل الذي يحتوي سكّان الوطن داخله ، هؤلاء هم [ المواطنون ] ، وهؤلاء [ مواطنون ] أصحاب حقوقٍ بالدرجة الأولى ، والجماعة التي تدير الدولة إمّا موظّفون ، عسكر ، جُباة أو قضاة ، أو كل هؤلاء مجتمعين ، يجسّدون الحقوق المكتسبة للمواطن عبر [ إدارة ] هذه الدولة التي يحدّد شكلها [ السلطان ] ، هذا السلطان قد يكون الدستور أو الدكتاتور ، وفي الحالة الأخيرة يتحوّل السلطان الى متسلّطٍ على المواطنين ، خلاف الحالة الأولى التي يحمي فيها السلطان المواطنين من هذا التسلّط الممكن دائماً ، هنا يكون الدستور هو شكل العقد الإجتماعي بين الحاكم و المحكومين عبر هيكل الدولة الذي تملأه جماعةٌ خلال أجهزة الدولة ومؤسّساتها المتداخلة ، المشعبّة وشديدة التعقيد ، لكن قبل الدخول في تعقيدات شكل هذه الدولة ، دستورها ، شكل مواطنيها وصلاحيّات جماعة الهيكل التنظيمي للدولة ، نسأل كيف يمكن أن تكون الدولة دون أن تكون دولة الأقوياء فقط ؟ . 

 

 

الدّولة ميزتها [ العقل ] يقول هيغل بإلحاحٍ ، هذه القاعدة تنفي عنها الدين والثورة أيضاً ، الدولة الدينيّة دولةٌ غير عاقلة لانّها لا يمكن إلا ان تكون دولة مذهبٍ انتهى دور العقل فيه منذ انتهى تأسيسه و بناء هرمه الفقهي ، والدولة الثوريّة دولة غير عاقلة لأن الثّورة أساس حدوثها عدم التعقّل وحساب التبّعات التي ستنتج جرّاء الخروج على طاعة الحاكم الظالم ، فلو كان للثورة عقل لما كانت الثورة أصلاً ، لا لأن الدين منافٍ للعقل أو لأن الثورة يقوم بها الثوّار الغير عاقلون ، بل لأن المشكلة أن رجال الدين والثوار هم من يغيب عنهم العقل عند محاولتهم لعب دورٍ في نباء الدولة ، بسبب تغليبهم كونهم أصحاب [ الغلبة/المنتصرون ] ، أو أصحاب [ المعرفة الخفيّة/اللاهوت ] التي تتسلّط على المغلوب على أمرهم ومن لا يملكون هذه السطوة أو المعرفة الخفيّة / اللاهوت ، فالثوّار دائماً يحملون معهم شيئاً من تركة الإستبداد ، نفس الشيء عند رجال الدين الذين يحلون معهم دائماً جذور استبدادٍ يتّسم أولاً بإنكار [ الآخر ] النظير ، وثانيّاً إنكار حق المعرفة لدي [ الأتباع ] والسؤال حين بروز الشكّ ، الثورة لا تستطيع منذ أيام نابلوين بل و حتّى قبلها ، لا تستطيع أن تقضي على تبعات الحكم السابق كاملةً ، فالثورة التي تبدأ بمعركةٍ يجب أن تنتهي بحربٍ ، المعركة هي التي يموت فيها الثوّار ، والحرب هي التي يولد عبرها المجتمع دون ميزٍ عرقيٍّ ، جنسيٍّ ، جغرافيٍّ ، طبقيٍّ او مذهبيٍّ ، لتكون الدولة في نهاية المطاف هي [ غنيمة ] الحرب التي يقودها المواطنون لا الثوّار في طريقهم المحفوف بالمخاطر عبر طريق الإدارة البيروقارطيّة ، التي يسير بموازاتها دائماً [ الثيوقراط/الإستبداد الديني ] و[ الأوثوقراط/الإستبداد السياسي ] يهدّدون إكتساح الدولة لأجل الإستحواذ على الغنيمة الوحيدة ، الدولة . 

 

 

الدولة كقيمةٍ من قيم الحياة الحقيقيّة ، العالم الحقيقيّ بلغةٍ أكثر وضوحاً ، لا تحوي داخلها المجهول ، القوانين و العقوبات لحظيّة وآنيّة لتنتج فاعليّتها و دوامها ، وتبعات الأفعال التي يقوم بها المواطن ، الموظّف في أدنى سلم تكوين نظام الدول وصولاً الى قمّة الهرم المسطّح في حالة الدولة الديموقراطيّة والعمودي في حالة الدولة الديكتاتوريّة ، تبعات هذه الأفعال توصل الى نتائج داخل العالم الحقيقي لا خارجه ، الثواب والعقاب الأخروي شيء ، والثواب و العقاب الدنيوي شيءٌ آخر ، الأول في يد الله و في علم الغيب أيضاً ، أمّا الآخر فإنه في يد وسائل الدولة عبر معاييرها ، قوانينها وتشريعاتها الخاصة ، والتي تخضع لظروفٍ وحيثيّاتٍ متغيّرةٍ بعينها ، تناقض [ الخطيئة ] و[ الثوبة ] والذي يكفل الدين وجودهما جنباً الى جنب ، لا يمكن للدولة أن تسمح بوجودهما محكومين فقط بالنيّة المبيّتة للإنسان ، بل يوجد فقط [ الجريمة ] و [ العقاب ] ، حيث [ القانون ] منظّمٌ للعلاقات ، لا [ الضمير ] أو [ ذروة الإيمان ] ، هنا لا مكان للدين جوار الدولة ، فوقها أو تحتها ، الدين للمواطنين فقط لا غير يدينون به ، امّا الدولة فهي بطبعها و حقيقتها لائكيّة كونها ليست كائناً حيّاً في الأساس ، وفي سياقٍ آخر فإن تكامل منظومة [ الثواب ] و[ العقاب ] لا تتّفق أيضاً مع جبروت [ الثوّار ] من يُعلنون أنفسهم مصدراً للحق ، معلنين إياه ، ينشأ عبرهم الحكم و خلالهم يتم التنفيذ ، فتضيع الدولة في فوضى الثورة لأن الثوّار لا يقبلون أن يقفوا جنباً الى جنب ومن ثاروا عليهم أو من يعتقدون أنّهم في صفّ من أطاحوا بهم ، حتّى لو كانوا ارتكبوا أسوأ مما أرتكب في حقّهم في اتّجاه المغلوب ، هنا تضيع العدالة في ضوضاء الدولة الثوريّة ، ويعاد تكرار مسلسل الإستبداد مرّةً أخرى رغم أنف الجميع ، فكيف يمكن الفرار بالدولة في ليبيا من براثن الدين/الفقه أو [ التسلّط الفقهي ] بعبارةٍ أصح ، من تهيّأت له الظروف ليفرض نفسه بأريحيّةٍ عبر لا وعي الليبيّين من تم تصطيح فهمهم للدين ؟ ، وكيف يمكن أن تنتج الدولة الليبيّة الديمقراطيّة بعيداً عن الحشد الثوري ، في بلدٍ كل من يحمل سلاحاً يعتقد أنّه يمتلك الحق و يستحق أن يكون المرجعيّة في بنيان الدولة غير مكتملة النمو أصلاً ؟ . 

 

 

الدستور باختصارٍ هو : [ ... كتابٌ يحوي موجز القوانين الواجب تطبيقها على كل المواطنين دون ميزٍ جغرافيٍّ ، إثني ، لغوي ، ثقافيّ، جنسيٍّ أو مذهبيٍّ ، يهدف الى عقلنة الدولة و تنظيم العلاقات بين المواطنين ] ، الدستور يهدف الى بناء الدولة المؤسّساتيّة التي يكون فيها [ الموظّف ] فرداً منسلخاً عن محيطه الإجتماعيّ ، العائلي و الحرفي ، كجزءٍ من طبقة [ البيروقراط/مجال الإدارة ] ليحمي الدولة من الإنحطاط أولاً ، وليضمن حقوق المواطن بناءٍ على كونه مواطناً لا غير ثانياً ، بحيث يتم تحويل العمل الفردي للموظّف ، الى عملٍ جماعيٍ لا يهم فيه الفرد بقدر أهميّة النظام الفعّال ، فالفرد الموظّف لا يهم كونه أبيض أو أسود ، رجل أو إمرأة ، مالكي أو إباضي ، شريفاً أو عاميّاً ، صاحب رأيٍّ او لا رأي له بقدر ما يهم كفائته في تأدية وظيفته ، لتكون [ الدولة البيروقراطيّة ] الغير مبرّرة بأيديولوجيا أو مشروعٍ شوفينيٍّ يحدد الأهداف البعيدة و يتجاهل المواطن و همومه الآنيّة ، حيث الأحداث الصادرة خارج الوطن تدفع الوطن حيث لا يريد دائماً ، الدولة البيروقراطيّة هي دولةٌ يباح فيها 1: التفكير ، 2: التعبير ، 3: العمل لجميع الأفراد/المواطنين داخل حدود القانون ، حيث المجال مفتوحٌ أمام 1: الفرديّة ، 2: الإبداع ، 3: والإعقال للوصول في نهاية المطاف الى 4: الديمقراطيّة ، وفي ليبيا لا يمكن أن تكون هذه الدولة دون دعم [ إقتصادٍ ]  قويّ متحرّرٍ يكون عماده ثلاثة جيوش معقلنة في اتّجاه المدنيّة ، 1: جيش العسكر ، 2: جيش الموظّفين و 3: جيش المنتجين ، حيث يتحوّل المجتمع من مجتمع [ عسكري ] الى مجتمع [ متمدّن ] ، و من مجتمع [ عمالة ] الى مجتمع [ موظّفين ] ، ومن مجتمع [ إستهلاك ] الى مجتمع [ إنتاج ] ، وهذا لا يكون إلا بفرض قوانين صارمة تنطلق عبر فكرة [ الحصار القارّي ] التي قام نابليون بتطبيقها ، وهي فكرةٌ اقتصاديّةٌ ثوريّةٌ خالصة ، حيث أولاً يتم 1:  إقفال الباب أمام تسلّل إقتصاد المحيطين بالدولة القوميّة ، 2: رفع الحواجز الجمركيّة الداخليّة ، 3: إلغاء القوانين التي تكبّل المنتجين ، 4 : منع تكدّس العمالة الرخيصة ، وأخيراً 5: تنظيم الملكيّة الخاصّة للمواطنين داخل حدود الدولة للوصول الى [ الرفاهيّة ] والتي هي أهم وأول أهداف تكوين الدولة في الأساس ، كل هذا يتم بعد تحرير [ التعليم ] من الأيديولوجيا و الإتجاه نحو تكريس توجيهه ناحية [ التطبيقي ] بموازاة [ الإنساني ] ، فلا يتم تغليب ثقافة اللا ورائيّات على ثقافة الإنتاج ، و لا يتم أيضاً إغفال زيادة المعرفة لأجل نمو الإقتصاد ، وهذه عمليّةٌ معقّدةٌ لا يمكن للدولة الدينيّة التي خطابها إنساني لا ورائي فقط أو الثوريّة التي خطابها أيديولوجي تعبوي محض تبنّيها أو تطبيقها ، كون الأولى هي دولة [ مفتّتة ] تفصل بين الإدارة ، السلطة و الرعايا كجزر منفصلةٍ يربط بينها فقط الغيبي المكتنز داخل ضمائر الأتباع ، وهي دولةٌ وهميّةٌ تؤسّس فقط لإستبداد طائفةٍ وعبودية طائفةٍ آخرى ، أما الدولة الثوريّة فإنها عادةً بل دائماً تمثّل فقط [ الإمتداد ] للدولة السابقة تطيح بالإستبداد لتنشأ إستبداداً آخر ، فنابليون نفسه على سبيل المثال لم يكن سوى امتداداً رغم محاولاته التخلّص من التركة ، امتداداً للملكيّة السابقة التي قامت ثورته للقضاء عليها ، [ الإقتصاد الحر ] و [ التعليم المؤمّم ] المبنى على المنافسة للوصول الى الكفاءة بغية الحصول على الكم المعرفي الذي يرشّح الفرد للإنضمام كأداة من أدوات الدولة الفعّالة وفق الأفضليّة لا وفق الإنتماء لجهة الغلبة ، كل هذا تحت كنف [ البيروقراطيّة ] التي تحمي الضعفاء من الأقوياء ، تكفل حقوق الذين لا يملكون كي يصبحوا من الذين يملكون . 

 

 

المدنيّة لا تُنتجها الثورة ، والدولة لا يبنيها الثوّار ، يجب أن ننظر الى الأمر بهذه الصرامة ، المدنيّة نمطٌ سلوكيٌّ و طريقةٌ من طرق التفكير يصنعها تسلسل الأحداث الكبرى في تاريخ الأمم ، التنوير بعد الثورة يجب أن يكون في كل الإتّجاهات لتنتج المدنيّة ، في ليبيا عملية التعتيم الممنهج على كل مصادر المعرفة وهدم كل مصانع الأفكار جعلت المدنيّة تتقهقر أمام سطوة التعصّب أو [ بنية العصبيّة ] ، وسطوة رغبة الإمتلاك منذ تحوّل الليبيّيون الى مجرد [ أشياء ] في نظر السلطة و في نظر الليبيّين أنفسهم للأسف الشديد ، وهذه أخطر تبعات النظام الدكتاتوري على امتداد التاريخ البشري ، يجب أولاً : السعي لتوحيد اللّيبيّين كليبيّين تحت [ غطاءٍ قوميٍّ واحدٍ ] يعتبر كل شيءٍ خلاف [ الوطن ] هوامش ضروريّة منبعها الإختلاف ، مصبّها وحدة الوطن نفسه ،  ثانيّاً : يجب توجيه [ الكفاءة ] نحو مكانها الصحيح في منظومة الإنتاج ، وثالثاً : وهو الأهم تجريد [ المحاربين/الثوّار ] من ملكيّة السلاح أولاً و الولاء الأيديولوجي ثانياً ، للوصول الى رابعاً وهو الدولة صاحبة الموقف السياسي ، الإقتصادي والإجتماعي البعيد عن الصبيانيّة ، حيث الدولة هي فقط أداة الدولة كما يقول أنجلس ، ليست الدولة أداة الفقيه لتمرير الفقه في اتّجاهٍ واحدٍ ، إقصائيٍّ و تعسّفيٍّ ، منشأه التاريخ لا غير كحقائق لا تقبل الشكّ ، وليست الدولة وسيلة في يد الثوّار للحصول على المكاسب بقوّة السلاح أحايين كثيرة . 

 

 

الدولة الدينيّة هي دولة قمع ، ودولة تربيّة أيضاً ، والدولة الثوريّة هي دولة غنائم ، وهي دولة المنتصرين أيضاً ، وهذه مجتمعةٍ ليست دولاً في واقع الأمر بل هي شيءٌ آخر يمكن أن نسميّه ما نشاء ، الدولة لا تقمع مواطنيها ولا تقوم بتربيتهم ، المجتمع يفعل ذلك ، النظم الإجتماعيّة و التمايز الطبقي بين ساكني الحاضرة هو الذي يضع معايير التمييز بين الأفراد/المواطنين ، أمّا الدولة فإنها تعمل كظاهرةٍ إجتماعيّةٍ متساويّةٍ بالنّسبة لكل المواطنين ، بغض النّظر عن المذهب الذي يعتنقونه ، وعلى صعيدٍ آخر فإن المنتصرين من قاموا بالإطاحة بأربابٍ ليأتوا محلّهم يُنتجون إستبداداً وعسفاً يوازي أضعافاً مضافعةً ، يؤدّي الى إضمحلال الدولة وإختفائها كغنيمةٍ لا يمكن أن تعود لمالكيها الحقيقيّن ، المواطنين جميعاً ، كون القمع يتحوّل من ظاهرةٍ مؤقّتةٍ في عصر الإستبداد الأول الى جزءٍ من الحياة اليوميّة في عصر الإستبداد الثاني ، ولا يمكن الفرار من هذا العصر سوى عبر إعلان ثورةٍ أخرى على مستوى القيم و الذهنيّات ، المبادئ والأفكار العامّة ، تلك التي شُوِّهت ،  وغاب عنها المنطق ، بسبب غياب عقلنة الدولة أصلاً ، وغياب إحساس المواطن بالمواطنة أيضاً ، فصار كما رأته القوة الباغية [ شيئاً/شخص ] يتعامل مُجبراً مع [ أشياء/أشخاص ] للحصول على [ أشياء أخرى/ممتلكات ] ، ولا يمكن أن تتحول هذه الأشياء الى حقيقتها ووضعها الصحيح إلا بإعلان عقلنة الثورة و الدين ، في طريق عقلنة الدولة ، عقلنة الدين يكون بإنكار حق ومنع المذهب الواحد في الحديث بإسم الدين ، وعقلنة الثّورة يكون بمنع تسلط الثوّار على غير الثوّار ، لينتج جهاز الدولة الحديثة و الموضوعيّة ، حيث بنية المجتمع مفصولةٌ تماماً عن تركيبة الدولة المبنيّة فقط على المنطق الموضوعي الفعال ، الذي يعتمد على فصل المصلحة العامّة عن المصلحة الخاصّة ، بفصل الدولة عن الماورائيّات أي أن يكون للدولة هدف خارج عالمها ، وفصلها أيضاً عن المجتمع المدني الذي يلعب دور الرقيب وراسم معياريّة عمل وسير أجهزة الدولة و مؤسّساتها ، هكذا تكون الدولة أمّا خلافها فليس سوى تدليساً و إمتهاناً لشرف الثورة و قداسة الدّين . 

اجمالي القراءات 8284