تأصيل ( كتب/كتاب ) فى القرآن الكريم ( 6 : 10 )
( 6 : 10 ) :الميزان والكتاب والرحمة والعذاب

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٦ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : الميزان فى الخلق   

1 ـ أقام الله جل وعلا الخلق على أساس تقدير محكم بالغ الدقة : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) (القمر 49 )، فكل شىء مخلوق بأعلى درجة من التقدير : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) ( الفرقان 2 )، يشمل هذا التقدير كل خلية حيّة وكل ذرة فى عامنا المادى وغيره:( قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا)(الطلاق 3 )،ويشمل هذا قطرة ماء المطر، من نزولها من الغلاف الجوى الى إسكانها فى الأرض،وتبخرها وذهابها: (وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ) ( المؤمنون 18 )، وخلق الجنين البشرى ونزوله:(أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ إِلَى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ )( المرسلات 20 : 22 )،بل كل جنين وكل أنثى فيما تحمل أو تلد ، وما بينهما ، كله بتقدير زمنى وموضعى ،يعلمه الله جل وعلا ويسير حسب تقديره : (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ)(الرعد 8 )

2ـ والميزان أو التوازن هو من مرادفات التقدير. وهذا الميزان يسرى على كل شىء ، يقول جل وعلا : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ)(الحجر 19،21 ). يسرى هذا على الأرض ، فكل نبات فيها يتم بميزان : (وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ )(الحجر 19 )، كما يسرى على السماوات السبع وما بينهما من نجوم ومجرات وتوابع ، خلقها رب العزة بنظام وتقدير محكم ، يذهل الانسان ، فلا تفاوت ولا خطأ ولا خلل فى خلق الرحمن من الذرة وما دونها الى المجرة وما فوقها: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)( تبارك 3: 4 )

ثانيا : من الميزان فى الخلق الى الميزان فى الشرع:

وخالق هذه الأكوان بكل هذا الابداع هو الذى علّم الانسان النطق والبيان ، وهو الذى وضع ميزان الخلق كما أنزل الشرع ميزانا للقسط فى تعامل الناس مع رب الناس وفى الناس مع بعضهم : (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ َالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ )( الرحمن  1 ـ )، فكما يوجد ميزان فى خلق الرحمن فهناك ميزان هو شرع الرحمن ، وينبغى على البشر إقامة ذلك الميزان فى تعاملهم مع ربهم فليس من العدل إتخاذ اله مع الله ، وليس من العدل الطغيان فى الميزان ، سواء فى البيع والشراء أو فى أى نوع من التعامل بين البشر . فالظلم والطغيان محرم تماما فى شراء السلع أو فى شراء الذمم.

ثالثا : الميزان فى الشرع :

لذا نزلت الرسالات السماوية بميزان العدل ليتبعه البشر فى حياتهم الدنيا ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد  25)، فكلمة (الْكِتَابَ ) جاء مرادفا لها ومعطوفا عليها (وَالْمِيزَانَ )،فالميزان وصف للكتاب السماوى،وكلاهما جاء وصفه بالمفرد،فلم يقل رب العزة (الكتب) فالرسالات السماوية تعبر فى مجملها عن( كتاب ) واحد مهما إختلفت الألسنة و الأقوام والأزمنة والأمكنة،فكلها لكى يقوم الناس بالقسط .ولم يقل رب العزة (الموازين) لأنه ميزان واحد لكل البشر، فالعدل له وجه واحد لا يتعدد، وكذلك ( أم الكتاب )،المصدر الذى نزلت منه كل الرسالات والكتب السماوية. ويقول جل وعلا عن الرسالة الخاتمة،وهى الكلمة الالهية للبشر قبل قيام الساعة:(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ)(الشورى 17 ). فالاسلام له ( كتاب ) واحد ومصدر واحد ، وهو ميزان واحد لا يتعدد . وبالتالى لا وجود لمصادر أخرى كالسّنة والحديث..الخ ..

فى التشريعات

رابعا : القسط والعدل والوزن بالقسط فى القرآن الكريم:

1 ـ جاءتالوصايا العشر فى القرآن تأمر بالعدل والقسط مباشرة أو بطريق غير مباشر:( قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(الأنعام 151 : 153 )وقال جل وعلا لنا : ( وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (الاسراء 35 )

2 ـ وتخصصت رسالة النبى شعيب فى حض أهل مدين على الوفاء فى الكيل والميزان حيث كانوا يحترفون التجارة(هود  84 )( الشعراء 181 ـ ).يقول جل وعلا :(وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ )(الأعراف 85 ).

 خامسا : من ميزان الشرع الى كتابة العمل وميزان الآخرة

1 ـ الفارق بين ( الميزان ) فى الخلق و ( الميزان ) فى الشرع أن ميزان الخلق حتمى لا مجال فيه للاختيار ، فلا تملك الشمس أن تعتذر عن جريها الى مستقر لها ولا تستطيع الاليكترون أن يأخذ أجازة يتوقف فيها ليستريح من التعب ويلتقط أنفاسه من دورانه حول نواة الذرة . فهذا ميزان حتمى . أما ميزان الشرع فمع أنّه فرض على الناس ، ولكن الله جل وعلا جعل الناس أحرارا فى طاعة ميزان شرعه بأن يقيموا العدل أو أن يعصوا بالظلم والفساد . ومثلا فالانسان يتكون من جسد ونفس . النفس هى التى تقود الجسد ، والنفس لها الحرية فى قيادة جسدها نحو الطاعة أو المعصية ،وهذا الجسد تتبع أجهزته الحيوية الميزان الحتمى للخلق ، فالقلب لا يكف عن الخفقان ، ولا يتوقف للراحة ، وكذلك بقية أجهزة الجسد طالما بقى حيا. وهذا الجسد الدنيوى ينتهى الى فناء دون ان يتعرض الى عذاب أو نعيم فى الآخرة ، أما النفس صاحبة المشيئة فى الاختيار بين الطاعة أو المعصية فهى التى تتحمل مسئولية مشيئتها يوم القيامة ، إن حافظت على ميزان القسط دخلت الجنة ، وإن أخلّت به دخلت النار . وعملها بالطاعة أو المعصية يتم حفظه أوّلا بأوّل ، وترتديه النفس يوم الحساب الذى يتم فيه وزن عمل النفس طبقا لعقيدتها ، وبالميزان الالهى لكتاب عمل النفس يظهر فوزها أو خسارها .

2 ـ ومراعاة الميزان الخلقى والدينى تبدأ من الوزن بالحق والعدل فى البيع والشراء الى كل مناحى التعامل مع الناس ومع رب الناس، والناس فريقان : متمسكون بالعدل ومطففون ، يقول جل وعلا يتوعّد المطففين :(وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ)،أى يأخذون فوق حقهم ،ويعطون الناس أقلّ من حقوقهم، ليس فقط فى البيع والشراء،ولكن أيضا فى كل الحقوق والواجبات ، ويقول رب العزة لأولئك المطففين منبها على نسيانهم يوم القيامة ومسئوليتهم يوم الحساب :(أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)؟ . فى هذا اليوم سيكون كتاب أعمالهم فى أسفل سافلين:( كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ) حيث يتم تسجيل أعمال كل فرد ببصمته الوراثية النفسية وبصمته التى كانت لجسده الفانى فأصبحت بذرة يقوم عليها بعثه يوم البعث والنشور،(كِتَابٌ مَّرْقُومٌ) أى مؤسس على الأرقام والأعداد. ويقول جل وعلا عن القائمين بالقسط (كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)(المطففين 1 : ـ  21).

3 ـ فكتاب العمل هو الوصلة بين ميزان الشرع فى الدنيا وميزان الحساب فى الآخرة ، وهو يشمل العمل المادى الذى يكون طاقة تخرج عن الجسم ،وميزانها بالذرة،كما يشمل المشاعر النفسية والمعتقدات القلبية التى تنتمى الى عالم البرزخ ، وبالتالى يكون تسجيلها بما هو أقل ضآلة من الذرة،كلها ينتظمها علم الله جل وعلا فى كتابه المبين الشامل المحيط ، يقول جلّ وعلا :(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)( يونس 61 )، فشهادة الله جل وعلا علينا من خلال كتب أعمالنا الذى يسجل عملنا مشفوعا بعقائدنا ومشاعرنا . ثم يكون كتاب العمل لكل شخص فى ميزان الآخرة يوم الحساب.

سادسا :طبيعة الوزن فى الآخرة :

1 ـ كتاب العمل يقوم على الوزن الذرى وما هو أقل منها ممّا أى جزء من الذرة أو أكبر : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِوَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ )( سبأ 3 ) وكذلك سيرى الناس أعمالهم يوم البعث بالمقياس الذرى، أى جزء من الذرة أو أكبر:( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه)( الزلزلة 8)، وسيكون الحكم بالعدل بنفس المقياس الذرى،أى جزء من الذرة أو أكبر ، يقول جل وعلا :(  إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ )( النساء 40 ). وهذا الوزن العادل لا يترك شيئا إلا أحصاه وأتى به :( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)( الأنبياء 47 ).

2 ـ وفى ثنايا الوزن الذرى يتم حساب البشر ومساءلتهم ، بما فيهم الأنبياء والمرسلين ، حيث سيقص عليهم رب العزة من واقع كتب أعمالهم التى تنطق بالحق:( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ).وسيكون الوزن يومئذ بالحق ، فالذى تثقل موازينه سينجو ويفلح ومن تخف موازينه يخسر نفسه ، والسبب هو ظلمه للميزان الالهى أو آيات الله جل وعلا فى كتابه السماوى :(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ) ( الأعراف 6 : 9 )

3 ـ مع أن المقياس موحد فى الميزان ،أو هو وزن واحد بالقسط ،إلاّ إن الموازين تتعدد لكل فرد، فهناك ميزان للعمل المادى بمقياس الذّرة وميزان للمشاعر والمعتقدات بما هو أقلّ من الذرة،ثم يكون الوزن الأخير بالغفران أو بالاحباط ،لذا يستعمل رب العزة كلمة(الموازين ) مضافة للأفراد :(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ)( القارعة)، (فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) ( المؤمنون ـ 102 ـ )

4 ـ وفى الوزن تكون النفس بكتاب أعمالها فى كفّة ويكون فى الكفة الأخرى الكتاب الالهى السماوى ( الميزان الشرعى ):(وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ)(الأعراف 6 : 9)،

والخاسر هو الذى يخسر نفسه: ( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) ( المؤمنون ـ 102 ـ )

5 ـ الوزن الالهى ينتهى الى عكس الوزن البشرى ، فى الوزن البشرى الفائز يثقل ويهبط أما الفائز فى الوزن الالهى فهو الذى يصعد ويعلو ،والخاسر هو الذى يهبط :(فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ )(القارعة).

6 ـ وبالتالى فلا مجال للتساوى فى ميزان الآخرة ، أى لا تساوى بين الحسنات والسيئات. فالذى يأتى يوم القيامة بقلب سليم نظيف من عقائد الشرك والرياء لا يخلو من عمل سىء ولكن يضاعف الله جل وعلا حسناته ، ويغفر أى يغطى سيئاته عند الوزن فلا يكون فى كفّة ميزان أعماله وكتاب أعماله سوى حسنات فيفوز .أما المشرك فلا يخلو هو الآخر من أعمال صالحة ولكن يحبطها الله جل وعلا ويضيع ثمرتها فلا يبقى له إلا سيئاته فيهوى بها الى الجحيم .

7 ـ إى إن الكلمة الأخيرة فى الميزان هى للعقيدة من إيمان خالص أو شرك ، ومن مشاعر الاخلاص أو الرياء والنفاق .ووزن العقيدة ومشاعر النفس يؤكد قفل كتاب الاعمال بموت صاحبه ، لأنه بالموت تموت النفس ومشاعرها وأحاسيسها . وهنا التوفية الأخيرة ، توفية الوزن والجزاء ، بعد توفية العمر وتوفية كتاب العمل وكتب الحتميات.  

8 ـ  ويظل هناك فارق بين الميزان البشرى الدنيوى والميزان الالهى الأخروى . صحيح إن الانسان استخدم فى موازينه المادية الدنيوية جانبا من التقدير الالهى فى الحساب و الأرقام ولكن يقتصر الميزان البشرى على العالم المادى دون النفاذ الى البرزخ والنوايا ومشاعر النفس . وفى العلم الطبيعى يتم إخضاع الجسد البشرى للتجربة والتحليل والجراحة ، ولكن كينونة النفس أبعد ما تكون عن مشرط الجراح . لايعلم عنها العلم سوى مجرد تأثيرها على الجسد وانفعاله بها.  أما فى كتاب الأعمال فهو يسجل عقائد ومشاعر النفس، ثم يكون وزنها ، وبه يتحدد مستقبلها بين الجنة أو النار.

9 ـ الفارق الأساس بين الميزان البشرى الدنيوى والميزان الالهى الاخروى يتمثل فى وحدانية الميزان البشرى وتعدد مقاييس الموازين البشرية الدنيوية . تجد فى البشرية تعددا فى الأوزان والمكاييل والمسافات من الميل والكيلو والفرسخ والسنتيمتر والبوصة، ومن الرطل والأوقية الى الجرام والكيلو جرام . ولكن الميزان الالهى موحّد ، صاحبه هو الاله الواحد الأحد ، وله ميزان واحد وكتاب واحد ومقياس واحد موحد ، عدى رقمى ن فالقرآن له بداية ونهاية ، وهو مرقم بالسور والآيات ، وكذلك كتاب العمل له بداية تنتهى بالموت . لا مجال هنا لكتاب آخر مع القرآن ، ولم يأت فى تاريخ الأنبياء السابقين أن كان لأحدهم ثنائية الكتاب والسّنة ، أو تعدد مصادر التشريع، فالدين لله جل وعلا واصبا:(وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ) ( النحل 51: 53 )، لأنه جلّ وعلا وحده الخالق الفاطر ، ولأنه وحده الذى سيحاسب الناس يوم القيامة ،ولأن الرسول وظيفته التبليغ فقط .

سابعا:عقاب الاخلال بالميزان :

يحدث الاختلال فى (ميزان الخلق ) أو التوازن الطبيعى (فى الخلق )، فيحدث التلوث والفساد فى الجوّ والبر والبحر،وتكون العقوبة فى الدنيا فى صحّة البشر والكوارث الطبيعية (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم 41 ). ويحدث الاختلال فى ميزان الشرع بشيوع الظلم والكفر السلوكى و العقيدى فيأتى العقاب فى الدنيا على شكل مصائب لأفراد واهلاك عام للظالمين:( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ )( الشورى30 )، (فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) ( الحج 45 ).ولكن كل عقوبات الدنيا ليست بشىء مقارنة بلحظة عذاب فى اليوم الآخر . والنجاة منه هو ( الرحمة ).!!

أخيرا :  ارتباط الرحمة فى الدنيا بكتاب الله جل وعلا

1 ـ لأن الكتاب السماوى هو الميزان فى الدنيا ولأنه سيكون فى كفة فى ميزان الآخرة مقابل كتاب العمل فإن الرحمة ترتبط بطاعة الله ورسوله ، وطاعة الله جل وعلا ورسوله تتركّز فى كلمة واحدة : طاعة القرآن الكريم ،أو الكتاب السماوى . يقول جل وعلا عن التوراة يصفها بالرحمة : (ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ )( الانعام 154 )(وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)(الاعراف 154 )،ويقول جل وعلا عن القرآن  يصفه بالرحمة :(وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(الاعراف 52 )(قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)(الاعراف 203 / 204 )(إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ( الأنبياء106 :107).

2 ـ بطاعة الكتاب السماوى فى الدنيا يتم التأهّل لنيل رحمة الله جل وعلا يوم الحساب ، فمن ينال رحمة الله جل وعلا يبيضّ وجهه ، ومن يحرم منها يسودّ وجهه :(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(آل عمران 106 : 107 ). ينجو المؤمنون المتقون برحمة الله وباقترابهم منه حيث تعنى الرحمة القرب من الله جل وعلا رب العالمين ، وحيث يعنى العذاب أن يكون هناك حجاب بينهم وبين رب العزة ، والله جل وعلا يتوعدهم ويحذرهم مقدما المكذبين بالكتاب من هذا اليوم :( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ).

السطر الأخير

راجع القرآن كله وستجد أن سمات الشرك والكفر تتركز فى تكذيب آيات الله . وهذا هو ما يقع فيه الأغلبية العظمى من المسلمين الذين سمّوا أنفسهم صوفية وشيعة وسنية وآمنوا بمفتريات ، ومن أجلها كذّبوا بآيات الله فى ميزانه أو كتابه الحكيم.

اجمالي القراءات 17638