سكوت، فـالـمــُشــيــر سيتحدث!

محمد عبد المجيد في السبت ٠٣ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

سكت المصريون، وتسمرتْ العيون أمام الشاشة الصغيرة، وعلـَت الهمهمات تـُنبيء عن استمرار الناس في سباق العرّافين، وضاربي الوَدَع، وقارئــي الفنجان. ماذا سيقول المشير؟

 

أعضاءُ المجلس العسكري يجلسون ولا يستطيع أيٌّ منهم أن يرسم على وجهه ابتسامة، فالجنرالات لا يبتسمون، لكن لا مانع من أن تتراقص النجوم والنسور على الأكتاف، فكل كتفين يستندان على جسد جنرال أقسم لزوجته مساء اليوم السابق أنه رئيس الجمهورية أو .. أقرب!

سكوت، فالمشير سيتحدث!

 

أيها المواطنون،

وأخيرا، وبعدما أرهقتموني لأكثر من عشرة أشهر، جعلتكم تقفون صفوفا طويلة متراصة أمام مصيدة ما كان لي أن أضع أقدامــَكم فيها بدون دعم من صندوق الانتخاب!

عشرة أشهر ونحن نحاور، ونجادل، ونناور شبابَ الثورة، وكلما نصبنا لهم فخاً، أطلقوا دعوةً لمليونية جديدة، ويزداد سقفُ مطــالبــِهم التي يتحقق منها أقل القليل.

طالــَبوا بالقصاص للمئات من زملائهم الشهداء، فجعلناهـم ينتظرون شهورا عدة حتى يلحق النوفمبريون بالينايريين، ويصاب عدة آلاف، ويتعلم رجال الأمن طــُرقاً جديدة للتصويب، والعيون التي لم تفقأها بنادق أجهزة الأمن في الجزء الأول من الثورة تنفجر في الجزء الثاني.

 

قاموا بثورة لمحاكمة رئيسي السابق وسيدي القائد الأعلى للقوات المسلحة عن كل جرائمه، وأنا أعرف تفاصيــَلها أكثر من معرفتي أسماء أولادي وأحفادي، فاختصرناها لاتهامات ضد كائنات غير مرئية أتت من كواكب أخرى، فقتلتْ، وجرحتْ، وعذبتْ، وجاءت بالخيل والجــِمال والحمير في رابعة النهار، وتسلقت أسطــح المنازل لتتنافس في قنص الشباب.

تطالبون بمحاكمة رئيسي السابق وطاغيتكم البائد عن ثلاثين عاماً قضاها يستنزف خيراتكم، ويأمر حيتانــَه بنهب أموالكم، ومـَرَّ على معتقلاته في ثلاثة عقود أكثر من ربع مليون مصري، واختفى مصريون، وبلعت أقبية السجون أبرياءَ لم يتم عرضهم على القضاء فقضوا في غيابات الزنزانات سنوات طويلة محرومين من الحرية والأهل والعدالة و .. الوطن، فقررنا أن نحاكمه محاكمة صورية عن ثلاثة أسابيع، ولم تخرج مليونية يتيمة تطالب بثأر شعب لكل تلك السنوات.

 

أيها الاخوة المواطنون،

لم يكن أمامنا لادخالكم المصيدة غير هذا الحل، فظننتم أنها عملية ديمقراطية، وأنكم تشتركون في اختيار ممثليكم في البرلمان، وأن القضية هي التزييف والتزوير سابقاً، ونسيتم أن كارثة بلدكم تتمثل في وصول قوى التخلف والرجعية والذهنيات المعاقة إلى الحرم الديمقراطـــي نتيجة نظام الدوائر والاعلانات والأحزاب التي تملك المال والسطوة والجهات الخارجية التي يفتح لها النظام الانتخابي الساذج أبواباً ونوافذ لوصول رجالها إلى مقاعد مجلس الشعب، فضلا عن أنصاف الأميين والجهلة وهم الأغلبية الساحقة في نظام الدوائر، فيشتريهم أصحاب المال والسلطــة والفلول والمزايدون في الدين و.. خدم القوى الخارجية.

مصيدة استطاعت أن تستقطب الشعب برمته، وينضوي تحت لوائها مثقفون، وأساتذة جامعات، ورجال دين اسلامي ومسيحي، وكــُتــّاب الوطن، وجماعات وأحزاب ومرشحون للرئاسة، فأغمضوا عيونــَهم عن فاجعةٍ تصيب وطناً في مقتل، وتغتال ثورةً عظيمة وسط تصفيق حاد لعملية الاغتيال من القاتل والقتيل في نفس الوقت.

 

ما أبأس سذاجتكم وأنتم تفغرون أفواهــَكم بهجةً بالعملية الانتخابية، ولم تطرحوا السؤال الطبيعي عن قبضة الأمن والجيش في يومين فيعود البلطجية والقتلة وقنـّاصو العيون إلى بيوتهم للراحة خلال ساعات الانتخابات، ثم يعاودون نشاطــاتهم الاجرامية فور اغلاق صناديق الاقتراع، ألم يكن أمراً مستهجناً، أو غريباً، أو يحمل في أحشائه سبعين علامة استفهام؟

 

أيها الاخوة المواطنون،

وقفتم في طوابير طويلة أمام عدسات التصوير مادحين في ديمقراطية اليومين، وغابت الأحداثُ الجــِسام عن ألسنة كل الذين تحدثوا إلى مُراسلي الفضائيات، تماماً كما تهبّ عواصف وتكتسح أعاصير الأخضر واليابس فيصفها متضرر بأنها نسمة هواء منعشة!

المشهد أمامكم طوال عشرة أشهر يكاد يتحدث نيابة عن الشهداء، وأنتم تصمّون آذانــَكم، وتصكــّون وجوهــَكم، فلا حديث إلا همساً عن أموالكم المنهوبة والنائمة في عشرات من مصارف الشرق والغرب تنتظر شعباً أيقظته ثورة شبابية ليستردها، على الأقل يشتري بها طــعام العشاء لربع سكان الوطن المسكين، ولا حديث إلا صمتاً عن رجال الطاغية المخلوع، وماذا يفعلون؟ وهل هم حقاً في السجون والمعتقلات كأقرانهم من المجرمين؟ ومن يملك الحق في تبرئة السيدة سوزان مبارك مقابل التنازل عن مبلغ يعادل مصروف جيب لولديها، فتأمر النيابة باخلاء سبيلها، وتبصق على ثلاثين عاما من العفن النتن لعائلة مبارك!

 

حتى الفئران لو وضعنا أمامها مصيدة كصندوق الاقتراع لترددت مرة واثنتين قبل أن تلتهم قطــعة الجبن، أما أنتم، فمباشرة عقب عمليات قنص العيون أمام عيون الشعب، والقاء جثث شهدائكم في مقالب القمامة تتوجهون كالتلاميذ النجباء في مدرسة للبلهاء لتصطفوا ساعات طويلة زاعمين أنها ديمقراطية، فإذا هي ماكينة لاعادة انتاج مبارك، وتفريخ نواب الكيف والقروض وتجار الشنطــة مع اضافة نكهة دينية هذه المرة، والثمن مدفوع مسبقاً.

 

ماذا دهاكم وأعادكم إلى النوم مرة أخرى؟

لماذا صدّقتم شائعات تقول بأنني سأشهد أمام المستشار أحمد رفعت، وأقص حكايات يشيب لها شعر الجنين عن مبارك وابنيه وحبيب العادلي وزكريا عزمي وأحمد فتحي سرور وصفوت الشريف وأحمد عز وغيرهم؟

وكأن شهادتي كانت مفاجأة لكم، فلم تخرج ردودي عن: لا أعرف .. لا أعرف، فأنا لا أضحي برئيسي السابق وحاشيته حتى لو تنزلت الملائكة بوثائق تثبت أنهم قتلة، ومجرمون، وجزارون، ومهربون، ونهــّابون، وكارهون لكم، وأفسد من قاموا بحكم مصر منذ عهد أحمس الأول.

 

أليس فيكم رجل رشيد ينصحكم بحقوقكم، وينبهكم لمن يتربص بكم، ويُعــَلـّمكم طــُرق الحفاظ على ثورتكم الشبابية؟

طمعتْ نخبتكم في مقعد البرلمان فقررتْ الاشتراك في نفس السباق مع الأميين والجهلة والمزايدين دينياً فعثروا في النظام المهتريء لاختيار ممثليكم على مبررات نجاحهم المسبق، فزعموا أنهم فلاحون، وأدعوّا أنهم عمال، وانتسبوا لفئة الفئات، وهم يعلمون سلفاً أن مجلس الشعب ليس له سلطــة تشريعية، وأن سحب الثقة من الحكومة تحدده أحذية العسكر، فمجلس الشعب هو المبرر لكي يلهب سوط المجلس ظــهوركم، فأنتم اخترتم أعضاء البرلمان، ولم نضربكم على أصابعكم، والشعب كله ترك شرعية ميدان التحرير ليبصم على شرعية ديمقراطية مزيفة يقوم على ثلثها رجال مبارك، وعلى الثلث الثاني قوى دينية تعتبر الديمقراطية واقفة بين الحرام والكفر، لكن الغاية تبرر الوسيلة، ولو كان مكيافللي حياً لترشح في المرحلة الأولى عن الاخوان وفي الثانية عن السلفيين وفي الثالثة يــُقْسـِم أنه فلاح يربّي دواجن في غرفة نومه، ويزرع حوش داره بقلاً وقثاءً وفوماً وبصلا وعدساً، وعلى الثلث الثالث أعضاء يستقلون القطار إلى باب الحديد للمرة الأولى، ويجلسون في مكان يحتارون في تسميته: البولمان أم البرلمان!

 

أيها الاخوة المواطنون،

ضقتم ذرعاً بأولادكم، أليس كذلك؟ وبعتم زملاءهم الشهداء بالصمت تارة، وبالوقوف في ميدان العباسية تارة أخرى، وفي النهاية تقفون في صفوف طويلة لنزع شرعية ثورة شبابكم ووضعها في جيب وحساب وفـَم من لا يعرف الفارق بين مجلس الشعب والمجلس المحلي، أو بين الجيش والمجلس العسكري.

 

لم أتصور للحظــة واحدة، في يقظتي ومنامي، أن مثقفيكم، وعلماءكم، وفقهاءكم، ومفكريكم، وإعلامييكم، وكل القوى السياسية والحزبية والوطنية سيسقطون في الحفرة كالسائرين نياماً، وتكدست الفضائيات والصحف والندوات بآلاف المناقشات والحوارات عن تلك اللذة المازوخية العجيبة لدى السقوط في حفرة ما كان لها أن تصطاد الشعبَ لو أصررتم على مطالب ثورتــِكم، وحماية أولادكم، واسترداد ملياراتكم، ومحاكمة قاتلي فلذات أكبادكم، والتعجيل في وضع نهاية لمسرحية المحاكمة!

 

تريدون مني محاكمة ضباط الأمن الملوثة أيديهم بدماء الشباب، شهداء ومصابين، وتنتظرون أوهاماً وخزعبلات تأتيكم فتتمنون اعتقال كل رجال رئيسي السابق حسني مبارك، لكننا لن نفعل، وعليكم أن تشجّوا رؤوسكم في جدران بيوتكم، وسنترككم تتناحرون، وتتشاجرون، ويـُكـَفـِّر بعضكم بعضا، وتتمزقون بين معارضين لنا في ميدان التحرير، ومتزلفين جبناء في العباسية يستبدلون بأرواح الشهداء رضا المجلس العسكري.

 

مزقوا شرايينكم، وانتحروا حُزنا وكمدا وغضبا، لكننا لن نــُلقي القبض على البلطجية والمجرمين وسارقي السلاح والهاربين من السجون والمعتقلات وأصحاب السوابق، رغم أنني أستطيع أن أجمعهم في يومين اثنين كما يجمع ضباط الأمن وقناصة العيون جثث أولادكم لضمها إلى القمامة المتراكمة على الأرصفة.

مليونية تطالب بعزل رئيس الوزراء السابق الدكتور عصام شرف الذي كان يقف أمام أعضاء المجلس كما يقف التلميذ الخجول أمام مدير المدرسة في أول أيام الدراسة، فاستجبنا لهم، لكنني عنيد ككل الجنرالات، فبحثت في تاريخ رجال رئيسي السابق فإذا برجل سيحتفل بعيد ميلاده الثمانين بعد عامين، وكان مخلصا لمبارك، ومطيعا لأوامره، وخائفا من غضبه، وصامتا أمام اهانة ابن الرئيس له، وحاملا بصمات مشروعات فاشلة، فأخرجته من متحف التاريخ نكاية في شباب الثورة، ولم أكترث لأي مليونية ترفض رجال مبارك، فخريفنا أبقىَ من ربيع شبابكم!

 

أيها الاخوة المواطنون،

تحلمون بمشنقة تنتصب ليلتف حبلــُها الغليظ حول عنق رئيسي السابق، لكنني لن أترك الشعب ينتقم منه، ونحن، بفضل المستشار .. رجلنا في المحكمة، سنصبر تأجيلا، وتسويفاً، وعبثا، ولهواً، حتى يقوم مــَلــَك الموت بزيارته، ونقيم له جنازة عسكرية مهيبة، وندفنه مع زعماء مصر الكبار، أما شهداؤكم فلا عزاء فيهم، وإذا أردتم فاحتكموا للعلي الجبار يوم القيامة، ونحن نضمن أن مئات الآلآف من الاخوان المسلمين والسلفيين سيشهدون لصالح العسكر يوم الحشر الأكبر، فالصفقة معهم لا تتبدل، وقد حصلوا على ثمن الصمت وباعوا التحرير عباسياً وبرلمانياً!

 

هل سمعتم صراخ المعتقلين والمفقودين والمختطــَفين وهم يتوسلون إليكم أن تقفوا كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا؟ قطـعاً لم تسمعوا، فــ(مولد) التصويت يُغطــي علىَ أنــّاتِ المحرومين من الحرية، ويـَعْصــِب عيونكم، ويصـُمّ آذانــَكم؟

 

هل تظنون أننا لا نملك المقدرة الفائقة على عمل مناقصة عاجلة ومربحة لعدة شركات نظــافة فتجعل مصر كلها تبرق، وتلمع في شهرين حتى لو استفادت شركات التنظيف بعشرات الملايين في عمليات دوران القمامة والفضلات في قطــعة أرض بعيدة عن العمران قبل أن يهاجم الطاعون أولادكم؟

 

نحن لا نكترث لمليارات من أموال الشعب التي تقبع في مصارف غربية وعربية وأمريكية، ولكن جريمتكم أكبر لأنكم أكثر بلادة في التعامل مع خيراتكم المنهوبة، وعندما وقف الدكتور كمال الجنزوري أمام الصحفيين يتحدث عن عهد سيده السابق مبارك وقال بأنه اكتشف ضياع 87 مليار جنيه من صندوق الأجيال القادمة لم يرتفع حاجب واحد فوق عيـّن أحدكم، دهشة، وتعجباً، يعقبه غضب ومليونية، فمن الذي يتستر على الجريمة، نحن أم أنتم؟

 

الآن لنا رجالنا في برلمان لا يستطيع أعضاؤه الاعتراض على مشروع فاشل تـُقــَدّمه الحكومة، والحكومة لا تتنفس إلا بأمر المجلس العسكري، وأعضاء المجلس لا يحركون عضلات وجوههم، فرحا أو غضبا، قبل التأكد من موافقتي!

ما أسهل أن تــُهدد إسرائيل بالعودة لاحتلال سيناء بحجة أن حكومة من الاخوان المسلمين في القاهرة تقوم بتهريب السلاح إلى أشقائهم الحمساويين في غزة!

وما أسهل قبول طلبات المهاجرين الأقباط من بلدهم الذي استوطنوه قبل دخول الاسلام بمئات الأعوام، فكنا عنصراً واحدا لا يستطيع تشارلز داروين أن يميــّز بيننا، وإذا بلا فكر جديد يكتشف أن الآخر من أهل الذمة، وأن مواطــَنــَتـَه لا تساوي في فكر التكفير جناح بعوضة، وأنه أقل مرتبة من المسلمين الجدد حتى لو كان أكثر صدقا وشرفا وعـِلْما، وأن مصر ليست بلده، إنما هي حــِكْرٌ على أهل الاسلام فقط.

 

أيها المواطنون،

لقد كسبنا المعركة يوم أن أرهقتكم المليونيات في ميدان التحرير، وبدلا من أن تحتضنوا أولادكم الثوار، وتطــالبوا بالقصاص لدماء الشهداء، وتستعجلوا يوم صدور أحكام الاعدام على مبارك ورجاله، وتعتصمون في الميدان بكل فئاتكم، وأحزابكم، وجمعياتكم، ولا ينتهي الاعتصام أمام كل وكالات الأنباء والفضائيات قبل استرداد مليارات نهبها رئيسي السابق، تعاتبون أولادكم في الميدان لأنهم أوقفوا عجلة الانتاج، أو لأنهم يريدون تحريركم.

لقد كسبنا المعركة يوم أن ذهب الظن بكم أننا لا نعرف اسم كل قاتل، وقنــّاص عيون، ومنتهك حرمات بناتكم، فنحن نعرفهم فرداً .. فرداً، ولن نضحي بهم سواء كانوا من رجال الأمن أو من البلطجية والمسجلين كأصحاب السوابق والاجرام، وموتوا بغيظكم، أيها المصريون، فالنظــام الجديد قديم، وأموالكم في ذمة التاريخ، وعيون أولادكم ليست أغلى لدينا من فوهات بنادق ضباطنا.

 

قولوا لأولادكم في ميدان التحرير بأن صمت أهلهم لثلاثين عاما في عهد مبارك يحتاج لثلاثين عاما أخرى من اطراقة الخوف والخجل خلال حــُكم العسكر، وأن صفوة مفكريكم دفعوا بكم إلى مصيدة الانتخابات، وأن أعضاء مجلس الشعب سيـُشــَرّعون قوانينَ جديدة لطاعة ولي الأمر مادام يقيم فيهم الجمعة و.. العيدين!

  أترككم الآن حتى أتصل بالسيد الرئيس في المستشفى وأقول له: تمام يا أفندم! 

 

 

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 3 ديسمبر 2011

Taeralshmal@gmail.com

اجمالي القراءات 9190