تأصيل معنى ( كتب ، وكتاب ) فى القرآن الكريم(6/ 1 ) كتاب الأعمال

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٨ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

جزء حتمى مكتوب عليك فى الدنيا هو الحتميات الأربع، وجزء أنت حرّ فيه هو أعمالك وأقوالك ، وهو جزء تتم كتابته وتسجيله ليكون لك أو عليك يوم الحساب

مقدمة

1ـ لنا سلسلة مقالات بحثية بعنوان ( لكل نفس بشرية جسدان ) نشرنا منها 18 حلقة ـ وتبقى منها القليل ،وسننشره لاحقا بعون الله جل وعلا. تثبت هذه السلسلة حقيقة قرآنية ،هى أن عمل الانسان فى الدنيا ترتديه النفس البشرية ثوبا يوم القيامة عوضا عن ثوب الجسد الأرضى الذى سيتحول رمادا ثم يفنى مع هذه الأرض ، ويتم بعث كل نفس وقد ارتدت عملها جسدا جديدا أو ثوبا جديدا ، وبه يتم صلاحها لدخول الجنة إن كان ثوبها أو عملها صالحا نورانيا ،أو به تدخل النار تبعا لعملها الظالم المظلم. هذا العمل إن خيرا أو شرأ تتم كتابته لحظة بلحظة ونحن أحياء،ونصطحبه معنا الى الآخرة كتابا لأعمالنا الفردية والجماعية .

2 ـ وهنا نتوقف بالمزيد من التفصيلات مع كتاب الأعمال فى هذه السلسلة عن معانى (كتب ، كتاب فى القرآن الكريم). ونبدأ بمقال عن فقه المصطلحات الخاص بموضوع كتاب الأعمال لأنها تعطينا خلفية لا غنى عنها فى موضوع ( كتاب الأعمال البشرية ).ثم يتوقف المقال التالى عن كتاب الأعمال .

فقه المصطلحات المرادف لمصطلح (كتب / كتاب )

أولا : كتاب الأعمال والعلم الالهى

يقول رب العزّة :(اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)   ( الرعد 8 : 11). علم الله جل وعلا هنا يشمل الحتميات المكتوبة المقدرة سلفا ، كما يشمل ما سيقوم به البشر من أعمال ، يعرفها رب العزة مقدما قبل حدوثها وعند كتابتها وتسجيلها وحفظها.والآية الكريمة أعطت أمثلة للنوعين : الحتميات فى (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ)،وكتاب أعمال البشر الذى يسجل ما يحدث أولا بأول:(سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) . ومن هنا فهو جل وعلا عالم الغيب فى المستقبل وعالم الشهادة فى الحاضر: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ).

ثانيا : التعقيب بحفظ وكتابة العمل

1 ـ يقول جل وعلا:( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ)(الرعد:11) أى إن الملائكة تعقب أى تسجل وتكتب العمل. فى الآية الكريمة ما يعرف بلاغيا بالايجاز بالحذف ، وهو موضوع طويل ، لكنّ من أنواعه حذف الموصوف إكتفاء بالوصف إذا كان الوصف أكثر أهمية من ذكر الموصوف .أصل الجملة أن يقال (له ملائكة معقبات ):الملائكة هى الموصوف ، والوصف هو معقبات ، فحذف الموصوف وهو ملائكة وتم الاستغناء عنه بالوصف وهو( معقبات ):(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ ).

2 ـ ومصطلح (عقب ) ومشتقاته يأتى بمعنى التعقيب على شىء ما:بالتجاوب:(وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ)(النمل 10)، وبمعنى الخلف الذى يعقب السلف : (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ )(الزخرف 28) ، وفى سياق الضلال الذى يعقب الهدى:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا)(آل عمران 144) وبمعنى النتيجة المترتبة على شىء سابق:(فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ)(التوبة77 ).

3ـ وقد تكرر هذا المصطلح فى سورة الرعد: جاء بالتعقيب بالكتابة والحفظ والتسجيل :( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ)(الرعد 11 )، وجاء بمعنى النتيجة المترتبة على العمل الصالح أو المترتبة على العمل السيىء :( وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ)(الرعد 22 : 24 ،35 ، 42 ). أما الله جل وعلا فلا رادّ لأمره ولا معقب لحكمه:(وَاللَّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ)(الرعد 41 )

ثالثا : أمر الله وكتابة العمل:

1 ـ ولازلنا مع العبارة القرآنية (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ). البعض يظنّ أن تلك الملائكة تحفظ أى تحمى البشر من المصائب التى تحدث لهم (من أمر الله). وهذا خطأ لأن أمر الله كما سبق بيانه يأتى فى التشريع ويكون البشر أحرارا فى طاعته أو عصيانه. ويأتى فى الحتميات فلا بد من سريانه لأن الله جل وعلا إذا أمر فقال (كن ) فلا بد أن يكون. الفهم الصحيح هو أن ملائكة الحفظ هى التى تحفظ أى تسجل أعمال البشر أى تضع سجلا بتفاصيل حياة كل فرد وكل جماعة وتدخرها محفوطة الى أن يأتى موعد الحساب يوم القيامة . وهى بفعلها هذا تنفذ (أمر الله ) جل وعلا.

2 ـ إن للملائكة دورا أساسا فى تنفيذ (أمر الله) ضمن تدبير الله جل وعلا فى تحكمه فى العرش ،أى مجال ملكوته ومخلوقاته فى السماوات والأرض. يقول جل وعلا يربط تدبيره للأمربخلقه السماوات والأرض:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)(يونس3 ).الكون المعروف لنا يقع بين السماوات والأرض، أو (ما بينهما) ولأن الأمر الالهى يسرى فى هذه المنطقة (البينية ) فالتفصيل القرآنى يشير اليه بالزمن،يقول جل وعلا:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(السجدة 4: 6 ). وأهم وظائف الملائكة فى تنفيذ (الأمر الالهى ) ثلاثة:

2/1 :النزول بالأمر التشريعى أى الرسالات السماوية ، وتلك وظيفة الروح ـ أى جبريل عليه السلام مع طائفة من الملائكة تنزل بالوحى: (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ)(النحل 2 )(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)(غافر 15)(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ )(الشعراء 192 ـ )( قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(البقرة 97 ).

2/2 :النزول بالحتميات من نفخ النفس فى آدم ثم فى رحم مريم :(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) ( الحجر 29 )( فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا )( مريم 17 ـ ).ومنها الموت(قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)(السجدة 11)، وفى آية واحدة يذكر رب العزة نوعين من الملائكة : ملائكة حفظ العمل وملائكة الموت والوفاة ،يقول جل وعلا:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61 ). وفى ليلة القدر من شهر رمضان نزل الروح الأمين بالقرآن الكريم دفعة واحدة مكتوبا فى قلب النبى محمد ، ثم توالى نزوله مقروءا بعدها. وفى كل ليلة قدر ينزل الروح بالحتميات الأربع للبشر من ميلاد ووفاة ورزق ومصائب:(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)(سورة القدر).

2/ 3 : تسجيل العمل وكتابته:( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرعد:11).

رابعا : كتاب الأعمال والعلم والشهادة والشفاعة

1 ـ وبهذا العلم المحيط والشامل يكون رب العزة شاهدا على كل شىء لا يغيب عنه علم أى شىء ، يقول جل وعلا :(وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)( يونس 61 ).

2 ـ وهناك إثنان من الملائكة يسجلان على كل فرد عمله ،وسيأتيان به الى يوم الحساب ، وسيكون عمله شاهدا عليه لو كان عملا سيئا ، أو يكون شاهدا له أو شفيعا له لو كان عملا صالحا ، وفى كل الأحوال فملائكة الكتابة وتسجيل الأعمال لا تشهد إلا بالحق وبالعلم ، والشفاعة هى بأمر الله جل وعلا وإذنه فيمن يستحق بعمله دخول الجنة ، فيأتى أمرالله جل وعلا لأولئك الملائكة التى تحمل العمل بتقديم كتاب عمل الفرد الذى كان مؤمنا صالحا فى الدنيا ، فيكون عمله شفيعا له . وبهذا تكون الشفاعة لله جميعا مرتبطة بهذا العلم الالهى بالبشر وبإذنه جل وعلا ورضاه. وهذا عكس مزاعم الأديان الأرضية فى إتخاذها شفعاء من البشر لا يملكون شيئا ولا يعلمون شيئا،( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)( يونس 26 ). وفى الرد عليهم يقول جل وعلا عن تحكمه فى الشفاعة : (أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا)(الزمر 43 : 44 ). وطبقا لهذا التحكم تأتى الملائكة تحمل كتاب الأعمال شاهدة بما سجلته وكتبته:(وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف 86). إذن ترتبط الشهادة بكتابة العمل ، وتقديم صاحب العمل الصالح ليكون عمله شفيعا له ، وذلك بعلم الله جل وعلا وإذنه ورضاه (البقرة 255، طه 109 ، الأنبياء 28 ،النجم  26).

3 ـ وتأتى تفصيلات توضح دور الملكين المكلفين بكل فرد يسجلان عليه أعماله ،يقول رب العزة:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، هذا العلم ـ حتى بخطرات القلوب ـ تسجله ملائكة تسجيل العمل،تقول الآية التالية عن عملهم:(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ). (رقيب وعتيد) هما ملكا تسجيل العمل لكل فرد .وينتهى تسجيل عمل الفرد بموته ،عندها يرى الفرد ملائكة الموت وكتابة العمل فيرى الموت بعينيه رؤية اليقين ويعيش سكرة الموت، وهى لحظة إغماء بين اليقظة والمنام،وقد كان غافلا لاهيا عن هذا الموقف:(وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ )، ويموت فيدخل فى البرزخ حيث يفقد الاحساس فيكون آخر إحساس فيه هو فى لحظة الاحتضار،ويكون التالى له هو لحظة البعث عند نفخ الصور أوالانفجار الثانى؛إنفجار البعث:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ).وفيه يؤتى بكل فرد معتقلا ، يعتقله من كانا يسجلان عمله فى الدنيا وهما (رقيب وعتيد ) ليكونا يوم الحساب ( سائق وشهيد ) : (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ )، أى أحدهما يسوقه والآخر يشهد له أو عليه حسب عمله،وكل شىء بأمر الله جل وعلا، ويقال للفرد حينئذ وهو يرى ما لم يكن يستطيع رؤيته من قبل:(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ )(ق 16 : 22). وفى يوم الحساب يرى كل فرد عمله بالصوت والصورة كالفيلم التسجيلى الوثائقى القصصى :(فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (الاعراف 6 : 7). هو قصص بالحق وبالعلم .

4ـ فهو جل وعلا حاضر (قيوم ) قائم على كل نفس بما كسبت :(أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ)(الرعد33 )، وهو جل وعلا حاضر لايغيب (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( المجادلة 7 )

5ـ وهناك شهود من المؤمنين المجاهدين فى سبيل الحق ، يتحملون الاضطهاد متمسكين بالصبر، يدعون رب العزة أن يجعل هذا مكتوبا فى سجل أعمالهم، وأن يكونوا شهودا على أقوامهم يوم القيامة . وقد قالها المؤمنون من أهل الكتاب حين سمعوا بالقرآن الكريم:( رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(آل عمران 53 )،(وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)(المائدة 83 ).

خامسا :كتابة العمل بالحفظ

1ـ يؤكد رب العزة أن لكل نفس يقوم (عليها ) حافظ ،يسجل مشاعرها وحركاتها وأقوالها : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) (الطارق 4) ، يسرى هذا على البشرجميعا، يقول جل وعلا : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61). ويقول جل وعلا عن وظيفتهم فى كتابة العمل ومعرفة ما نفعل :( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ) (الانفطار 10 : 12).

2 ـ الملاحظ هنا أن وظيفة الحفظ هى (علينا ) وليست (لنا )، وهى مهمة تم التكليف بها للملائكة من الرحمن ، ولذا وصف رب العزة القائمين بها بأنهم رسل من لدن الله جل وعلا: (إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ)(يونس 21 )( أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ )(الزخرف 80 ).

3 ـ وبملائكة الحتميات وملائكة حفظ الأعمال تتحقق قاهرية الله جل وعلا (فوق )البشر . وقد تكررفى القرآن مرتين وصف القاهر لله جل وعلا (فوق عباده) فى  سورة الانعام . يقول جل وعلا عن حتمية المصائب وحتمية الرزق (وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) ( الانعام 18 )،أى فهو القاهر بتحكمه فيما يصيبنا من خير أو شر. وهو أيضا القاهر فوقنا بملائكة الموت وبملائكة الحفظ وتسجيل أعمالنا علينا بحيث لا نستطيع الفرار من الله جل وعلا فى حالتى الموت والسعى فى الأرض بالخير أو الشّر:( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الانعام 61). وهذا درس لا يعيه الطغاة إلا بعد فوات الأوان .

سادسا : السعى وشمولية الحفظ وكتابة كل الأعمال

1 ـ تعبير (السعى ) يعنى الحركة الانسانية المقصودة التى تسبقها نية وتدبير، وبالتالى يكون صاحبها مسئولا عنها ومساءلا عليها. أى إن السعى لا يشمل فقط الحركة والقول ولكن أيضا النية وما يخفيه القلب وما تضمره النفس حتى لو لم يتحقق بالفعل وبالصوت والقول. ونعطى بعض التفصيلات:

2 ـ عن شمولية المساءلة للسمع والبصر والفؤاد يقول جل وعلا:(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الاسراء 36)،والغفران قد يأتى لمن يستحقه ولكن بعد الحساب والمساءلة:(وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء)(البقرة 284). والعقائد تدخل ضمن هذا السعى الذى يتم تسجيله وكتابته والمساءلة عنه،يقول جل وعلا:( وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ)(الزخرف19).ومنها إرادة شيوع الفاحشة فى مجتمع مؤمن:(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النور 19)، وإرادة الظلم والالحاد فى البيت الحرام:(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الحج 25).

3 ـ ويوم اللقاء مع الواحد القهّار لن يخفى منّا شىء:(يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)( الحاقة 18)، لن تكون هناك سرائر،فقد ظهر وانكشف ما فى الصدور(وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ) (العاديات 10 )وسيكون هذا إمتحانا عسيرا للمنافقين :(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ)(الطارق 9: 10).وللقرآن الكريم تعبير أخّاذ عن موقفنا ذلك اليوم، هو مصطلح ( برز) الذى يعنى الظهور الكامل بلا خفاء وبلا أسرار أمام رب العزة:(وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا)(يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ)(ابراهيم 21 ، 48).ويأتى تفصيل فى قوله جل وعلا:(يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ)(غافر 16 ـ ).

4 ـ ومنذ الوحى الأول لموسى عليه السلام حذّر رب العزة من إقتراب الساعة:(إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)(طه 15)، أى سيجزى الله جل وعلا كل نفس بسعيها فى هذه الحياة الدنيا ، وهو سعى تتم كتابته وحفظه، ويتوقف السعى عند الاحتضار، وحينئذ يغلق كتاب الأعمال ولم يعد للانسان سوى ما سعاه ، ثم يوم القيامة سيرى سعيه هذا مكتوبا ومسجلا:(وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)(النجم 39: 40 ).   وقد يكون سعيا سيئا مثل حال صاحبنا :(وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ)(البقرة 205 )، وقد يكون سعيا صالحا معززا بإيمان مخلص:(وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (الاسراء 19).وفى كل الأحوال سيرى الناس كل أعمالهم فور البعث وفق ما جاء فى سورة الزلزلة :(إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتْ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه) .

5 ـ والسعى الصالح يرتفع بصاحبه الى الجنة فى أعلى عليين:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُوَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)( فاطر 10 )بينما يهبط السعى السىء بصاحبه الى قاع الجحيم يحمله صاحبه أوزارا على كاهله،وهنا يوصف السعى الشرير بالأوزار. وحملة هذه الأوزار نوعان:قادة الضلال (المضلّون)وأتباعهم (الضالون ). ويوصف القادة بالجهل وعدم العلم، ويوم القيامة يحمل أولئك القادة أوزارهم وأوزار أتباعهم (لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ )(النحل 25 ). وهذا لن يخفف من حمل التابعين لأوزارهم لأنهم استسهلوا طاعة شيوخ الضلال ليتسع وقتهم لجمع حطام الدنيا متناسين لقاء الواحد القهار، فيكون مصيرهم الخسار والبوار:(قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ) (الانعام 31 ). والقاعدة أن من يعرض عن كتاب الله ولا يحمله فى قلبه ولا يطبقه بجوارحه فإنه يحمل بدلا منه وزرا:( وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا )( طه 99: 101). أولئك هم الخائبون الذين حملوا الظلم فى كتاب أعمالهم عند لقاء الحى القيوم الذى سيخضع للقائه الجميع :(وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا)(طه111).ويومها لن يحمل أحد عن أحد ورزره:(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى)(فاطر18 )

هذا التوصيف القرآنى يجعل كتاب الأعمال مثل كيس يحمله كل انسان على ظهره ، وهو الذى يملؤه بنفسه ، وما يملؤه بنفسه سيحمله حيث يكون فيه عذابه أو نعيمه ، وبالتالى فهو الذى يظلم نفسه وهو الذى يكرمها،وصدق رب العزة:(وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)(النحل 118 ). ولنتخيل المثل المصرى القائل للظالم ( حمّل وشيل )،أى ما ترتكبه من ظلم هو الذى ستحمله فوق ظهرك ، هو كتاب أعمالك ، وهو الذى سيتحول الى نار تتعذب بها أبد الآبدين.  

6ـ فى تركيز البشر على الجسد المادى يعتقدون أنه كل شىء ، مع إنه ليس سوى ثوب خارجى ترتديه النفس ، تغادره مؤقتا بالنوم، وتغادره أبدا بالموت. وفى تركيز البشر على ذلك الجسد الفانى يتخيلونه فى القبر نفس الشخص المتوفى ، ولا يعتقدون أن ذات الشخص قد غادرت ذلك الثوب المادى ليعود ترابا ، بينما ترتدى النفس عملها أو زيها الجديد لتغوص به فى البرزخ الى يوم البعث والنشور. وفى تركيز البشر على الجسد المادى يحاولون حفظه من التحلل بالتحنيط وبالحفظ فى ثلاجات محكمة . ولكن الحفظ الالهى والحقيقى يكون للعمل أو السعى. وهو حفظ كامل لكل أقوال وأفعال ومشاعر الفرد تعوض جسده الذى فنى وتحتفظ لهذا الجسد بارشيف كامل محفوظ بالصوت والصورة والهمسة واللمسة من بدايته الى موته.

اجمالي القراءات 15390