علاقة المشروع الإنساني بالمشروع الإلهي

سامر إسلامبولي في الإثنين ١٥ - يناير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

علاقة المشروع الإنساني بالمشروع الإلهي

يتردد سؤال على ألسنة كثير من الناس لماذا خلقنا الله في الحياة الدنيا ؟ فسرعان ما يسمعون الجواب المعهود خلقنا الله لعبادته ويستدلون بقوله تعالى [ ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ] فيرد عليهم أصحاب السؤال لم نقصد هذا ، وإنما قصدنا الجانب الآخر من السؤال المتعلق جوابه بالله عز وجل لماذا خلقنا وماذا يريد من ذلك هو وليس نحن ؟! فلا يسمعون جواباً من أحد يقنع عقلهم ، ويكسب قلبهم طمأنينة ، ويدفعهم في الحياة تفاعلاً وفاعلية ، عملاً وصبراً واستمراراً في عملية البناء لتحقيق الهدف .

والملاحظ أن هذا السؤال يصدر من صنفين من الناس .

أحدهما : صنف يعاني من الفقر والظلم والأسى والحزن ولا يستطيع دفع ذلك عنه ، ولا يوجد في قلبه إيمان عقلي يكسبه التوازن والاطمئنان في حياته على الصعيد النفسي ، فيخطر في ذهنه لو أنه لم يكن مخلوقاً في هذه الحياة الدنيا ، أو يتساءل ماذا يريد هذا الإله العظيم من عملية الخلق . وينكفئ هذا الإنسان على نفسه كئيباً حزيناً ويموت نفسياً قبل موته جسمياً فيصير الميت الحي !! ويتمنى لو كان تراباً !! .

الآخر : صنف حقق نجاحاً في حياته على الصعيد النفسي والمادي ، ويسير في حياته وفق رؤية مستقبلية ضمن خطط مرحلية وظرفية ، يحقق نجاحاً تلو الآخر ، وينتقل من هدف إلى أسمى منه ، ويعلو بناؤه شامخاً وصرحاً من النجاحات . فيتساءل هذا الإنسان صاحب الرؤية المستقبلية وصاحب الأمجاد التي بناها من عرقه ودمه وعمره ماذا بعد الموت ؟! لأن الإنسان يسير منذ ولادته في طريق الموت ، كلما ازداد عمره ساعة كلما مضى من عمره ساعة واقترب من الموت أكثر . لماذا هذا التعب والبناء والنجاح إذا كنت سوف أترك كل ذلك لا محالة ، وهل أستطيع أن أضع خططاً لمرحلة ما بعد الموت ، وأستطيع أن أنفذها ، وهل يوجد علاقة بنمط حياة الإنسان قبلً لمرحلة ما بعد الموت ، وأستطيع أن أنفذها ، وهل يوجد علاقة بنمط حياة الإنسان قبل الموت بما بعد الموت ؟ لماذا خلقنا هذا الإله العظيم ؟! فإن لم يستطع أن يوجد هذا الإنسان صاحب الرؤية المستقبلية جواباً مقنعاً لعقله ، ويكسب قلبه طمأنينة يتسلل إلى نفسه الحزن والاضطراب ، وربما يقف عن تحقيق النجاحات ، وينكفئ على نفسه مفكراً ومتأملاً وهو ينظر إلى تجاعيد أصابت وجهه ، وإلى شيب غزا رأسه قائلاً ماذا بعد ذلك ؟ هل ممكن أن تكون نجاحاتي كلها هباءً منثورا لماذا خلق الله هذا المشروع الكوني العظيم ؟!...

الملاحظ أن كلا الفريقين محور حديثهما الموت . الأول يتمنى حصول الموت بأسرع وقت لأنه فقد الفاعلية وصار بحكم العدم ، والآخر يحاول أن يبعد عن حياته شبح الموت ليستمر في نجاحه ، ولكن الموت حق لا مرية فيه وسوف يدرك كل الناس عاجلاً أو آجلاً .

ومن حقيقة الموت وُلِدَ السؤال ماذا بعد الموت ؟ ولماذا خلقنا الله في هذه المرحلة المؤقتة؟!

أيها الشباب !! إن الموت هو نهاية لمرحلة الحياة الدنيا ومحطة انتظار وانتقال إلى الحياة الأخرى ، فالموت فاصل مؤقت بين حياتين الأولى ( الدنيا ) أساس للأخرى ، لذلك كانت الحياة الدنيا دار العمل والمسؤولية ، والأخرى دار الثواب والسعادة ، فينطلق الإنسان الواعي من هذا المفهوم ويضع خططاً مرحلية لبناء الحياة الآخرة دون أن ينسى أو يهمل مستلزمات ومتطلبات مرحلة العمل والبناء في الحياة الدنيا .

[ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ] [ والآخرة خير وأبقى ]

أما السؤال لماذا خلقنا الله في هذا المشروع الإلهي العظيم ؟ فهذا السؤال له وجهان من حيث التعلق :

الأول : يتعلق بالله نفسه ، والسؤال موجه لذاته . لماذا فعلت ذلك يا الله ؟ والجواب هو :

[ فعال لما يريد ] [ ولا يُسأَل عما يفعل وهم يُسأَلون ] وذلك لأن الله متصف بصفات الكمال من الحكمة والعلم والإرادة والقدرة ، وهو أحد صمد حي قيوم، مستغن عن الخلق، قائم بنفسه ،الأول والآخر، فقطعاً لم يفعل ذلك احتياجاً أو مللاً أو عبثاً … الخ وإنما لحكمة يعلمها هو، وغائبة عن علم وإدراك الخلق ، كما أنها غير متعلقة بوظيفتهم في الحياة ، ولا يترتب على معرفتها بالنسبة إليهم أي شيء ، ولو ذكرها الله لهم لأتبعوها بسؤال آخر لماذا أيضاً هذا ؟وهكذا يستمر السؤال إلى ما لانهاية لانتفاء تعلق جواب السؤال بواقع الإنسان ، والإنسان لا يعقل أو يفكر إلا بواقع متعلق بحياته ويخضع لحواسه ، ويقيس الأمور بالنسبة إليه ضرراً أو نفعاً .

فالوجه الأول لتعلق السؤال ليس بمحل للتفكير أو الدراسة ، وهو أمر لا يهم الإنسان ، وإنما هو أمر متعلق بفعل الله وحكمته، وهو شيء خاص بالفاعل لا يمكن معرفته، بل يستحيل معرفته إذا لم يخبرنا الفاعل نفسه عن ذلك ، ناهيك عن عدم أهمية وفاعلية معرفة الجواب بالنسبة إلينا ، وبالتالي تستوي عملية المعرفة وانتفائها عندنا لعدم تعلقها بفاعلية حياتنا ، فالسعي وراء معرفة هذا الجانب هو سعي فاشل ونهايته مجرد تصورات وخواطر لا قيمة لها من الناحية العلمية .

الثاني : يتعلق بالإنسان نفسه . لماذا وُجِدَ في هذه الحياة الدنيا ؟ فلم يتركه الله عز وجل يتخبط في جوابه بل أرسل الرسل له، وأخبره إن وجوده في الحياة الدنيا إنما هو وجود ابتلاء وامتحان [ الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً ] وهذا الابتلاء متمثل بعمارة الأرض بالخير والسلام والعدل والمحبة والنهضة في المجتمع الإنساني ، وهذا الامتحان هو عملية تراكمية تستوعب الجنس الإنساني من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع لأن الإنسان كائن اجتماعي ، فلكل دوره في هذه المنظومة بصورة منسجمة مع بعضها بعضاً لتنسجم في النهاية مع المنظومة العامة الكونية ليشكلوا مع بعضهم التكامل الوظيفي في حركة هذا المشروع الإلهي .

فالإنسان الذي يؤمن بالخالق المدبر الفاعل الأول،وبالمشروع الإلهي، ويدرك وظيفة الإنسان في هذا المشروع بمرحلتيه الدنيا والآخرة يقوم بناء مشروعه ضمن مشروع المجتمع الإنساني المنسجم مع مشروع الله الكلي . وإذا حصل ذلك عند الإنسان يدرك أن وجوده في الحياة الدنيا وجود هام ،وهو عنصر فاعل في المشروع الإلهي يساهم في بناء تفاصيل وجزيئات متعلقة بنهضة المجتمع الإنساني من خلال استخدام سنن وقوانين الخالق المدبر ،وهذا الإنسان الفاعل الذي جعله الخالق خليفة في الأرض كمجتمع ينطلق في تنفيذ مشروعه ضمن المشروع الإلهي وهو يشعر بالعزة والفخر والاحترام لوجوده الفاعل ، فيعلم حينئذ أن وجوده الواعي في المشروع الإلهي خير له من الهلاك والفناء أو أن يكون تراباً ، كما أنه يعلم أن تعبه ونجاحه في بناء مشروعه الخاص لن يذهب سدى أو يضيع بل سوف يستمر ويتراكم في المجتمع الإنساني وينتقل معه إلى الحياة الآخرة ، فالإنسان يعيش في الجنة بشخصيته التي شكلها في الحياة الدنيا ، وسوف تنتقل معه العلوم والمعارف التي لها صفة الثبات والتجريد مثل الرياضيات والفلسفة [ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ] وترتفع درجته حسب علمه وعمله . أما العلوم والمعارف النسبية المتعلقة بالمرحلة الأولى من المشروع الإلهي ( الحياة الدنيا ) مثل الفيزياء والكيمياء فسوف تهلك مع هلاك المرحلة الأولى [ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات .. ]إبراهيم 48 ليحل محلها علوم ومعارف جديدة تناسب المرحلة الآخرة .

إذاً الإنسان الذي آمن بالله خالقاً مدبراً ، وبالحياة الدنيا ابتلاء وخلافة ، وأن الموت مرحلة انتقال وانتظار إلى حياة باقية يتم بناؤها ابتداءً من الحياة الدنيا، يعلم يقيناً أن وجوده في الحياة الدنيا شيء عظيم مهما كانت مادة الامتحان، فقر أو غنى أو غير ذلك كله ابتلاء وامتحان وصبر وشكر ، ولكل دوره ووظيفته في بناء المشروع الإنساني الذي لا يمكن أن يتم إلا إذا وُجد التفاضل والتمايز في درجات الناس ليتخذ بعضهم بعضاً سُخريا مع إمكانية تحرك الإنسان ورفع مستواه الوظيفي من دور إلى آخر .

قف دون رأيك في الحياة مجاهداً .......إن الحياة عقيدة وجهاد

أما المقصد من قوله تعالى [ ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ]

فهو حرية الاختيار في بناء المشروع الإنساني، لأن كلمة العبادة من الكلمات التي لها صور متضادة في الاستخدام [ الشدة أو اللين ] ومن الشدة ظهر الكفر ، ومن اللين ظهر الإيمان . لذلك يقول العلماء : إن كلمة يعبدون يقصد بها الإيمان والكفر على حد سواء . وذلك من باب تفسير الشيء بمآله . ويصدق ذلك المعنى قوله تعالى [ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ] فالمؤمن يقوم بحرية في بناء المشروع الإنساني بصورة منسجمة مع المشروع الإلهي ، بينما الكافر يحاول أن يبني مشروعه العدواني داخل المشروع الإلهي فلا يتم انسجام بينهما ،ومآله إلى الهلاك والفناء إمّا بيد المؤمنين عاجلاً، أو بدفع السنن والقوانين الإلهية آجلاً، نحو تفكك الاتحاد السوفييتي وذلك إذا تخاذل الناس عن أداء دورهم الوظيفي في بناء مشروع النهضة بالإنسانية …

فالحكمة من خلق الناس المتعلقة بهم هي ممارسة الحرية في اختيار الإيمان أو الكفر ، وذلك شيء طبيعي لأن الحرية يترتب عليها المسؤولية ، فالحر مسؤول ، والمسؤول محاسب .

[ وقفوهم إنهم مسؤولون ]

العلم والأخلاق أساس للنهضة والعمران

تعايش ،تماسك ، نهضة

اجمالي القراءات 14378