نصف قرن عربى من الطُغاة.. والغُلاة.. والغُزاة

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٠ - سبتمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

حينما يؤرّخ عربياً، لنصف القرن الأخير، بموضوعية وتجرد، ستكون أهم ملامح تلك الحقبة، هى أنظمة حاكمة من الطُغاة، طفح كيل استبدادها، وخلّفت نقيضها من الغاضبين العرب الغُلاة، باسم «الدين» حيناً، وباسم «الطائفية» حيناً، وباسم «الطبقة» حيناً ثالثاً، وباسم «القبيلة» حيناً رابعاً، وأدى الصراع غير المتوازن بين الطُغاة والغُلاة، دون حسم فى الأجل المنظور، إلى تدخل أطراف أجنبية لها مصالح مشروعة أو أطماع غير مشروعة.

فبعد رُبع القرن الوسيط من القرن العشرين (١٩٢٥/١٩٥٠)، الذى شهد انتفاضات عربية شعبية ضد الاحتلال الغربى لبُلدانهم، والحصول على الاستقلال، وتبنى أنظمة حُكم ديمقراطية، جاء زرع إسرائيل، وهزيمة عدة جيوش عربية فى حربها الأولى مع الكيان الصهيونى الجديد (١٩٤٨/١٩٤٩)، ليكون أول ردود الفعل لتلك الجيوش المهزومة هو القيام بانقلابات عسكرية، ضد الحكومات المدنية المُنتخبة ديمقراطياً، بدأت فى سوريا (١٩٤٩)، ثم فى مصر (١٩٥٢)، والعراق والسودان (١٩٥٨)، واليمن (١٩٦٢)، وليبيا (١٩٦٩). وكان ذلك فى حقيقة الأمر بحثاً عن كباش فداء لتبرير الهزيمة فى حرب ضد خصم، استهانوا به، وظنّوه حفنة من «العصابات». وحتى بعد تلك الهزيمة الأولى، وقيام دولة إسرائيل، وقبولها عضواً فى الأمم المُتحدة، ظلّوا لسنوات يُطلقون عليها تعبير «إسرائيل المزعومة»، أو «الكيان الصهيونى»، حتى كانت الهزيمة الثانية، التى جاءت كاسحة شاملة لجيوش ثلاثة بُلدان عربية، واحتلال أجزاء شاسعة من أراضيها، عام ١٩٦٧.

ورغم أنه لم تكن فى السُلطة حكومات «مدنية»، يمكن لومها على تلك الهزيمة الشنعاء، فإن الانقلابات العسكرية استمرت، واستمرأ أولئك الانقلابيون السُلطة.. ولم يعودوا يتحدثون عن تحرير فلسطين، أو استعادة القُدس.. وحينما قرر كبيرهم، أنور السادات عام ١٩٧٧، أن يُنهى صراع بلده مصر مع إسرائيل، تشبث الآخرون برفضهم الصُلح أو الاعتراف بها. ورغم أنهم لم يُحاربوا إسرائيل، ولم يُحرروا شبراً واحداً من فلسطين، أو حتى من أراضى بلادهم المُحتلة، فقد ظّلوا مُتشبثين بالسُلطة. وغيّروا اسم سياستهم إلى «دول الرفض»، ثم إلى «دول الصمود والتصدى»، ثم أخيراً إلى «دول المُمانعة».

إن هؤلاء العسكر، الذين غيّروا أسماء أنظمتهم، دون أن يتغيروا هم، أو يُغيّروا من مُمارساتهم الطُغيانية ضد شعوبهم، أو يتخلوا عن استبدادهم بالسُلطة فى بُلدانهم، هم الذين يُدافعون عن بقائهم فى السُلطة إلى آخر رمق لآخر مواطن فى بُلدانهم. ورغم أن اثنين منهم قد سقطا خلال أسابيع قليلة فى كل من تونس ومصر، فى أوائل عام ٢٠١١، وهما بن على وحسنى مُبارك، إلا أن آخرين فى ليبيا واليمن وسوريا، قد تشبّثوا بالسُلطة بشراسة، واستخدموا فى ذلك كل ما توفّر لهم من السلاح والمال والخداع.

وبسبب تلك الشراسة، فى التشبث بالسُلطة، لم يأبهوا بالدمار الذى أحدثوه فى بُلدانهم، ولا بالأرواح التى حصدوها من أبناء شعوبهم، فبينما لم يصل عدد الضحايا إلى ألفين فى كل من تونس ومصر، إذ بهذا العدد يتجاوز العشرة آلاف فى ليبيا واليمن وسوريا، رغم أن سُكانها معاً أصغر من نصف سُكان مصر وحدها.

إن الثوار الليبيين قد تعرّضوا للقذف بطائرات القذافى لعدة أسابيع، قبل أن يقبلوا غطاء جوياً أوروبياً، وها هم ثوار سوريا يتعرضون فى عشر مُدن سورية لنفس القذف الجوى، الذى تعرضت له مدينة حماة قبل ثلاثين عاماً، حتى دُمّرت عن بكرة أبيها فى عهد حافظ الأسد (١٩٨٠)، ومات من سُكّانها عشرون ألفاً، ولذلك لم أندهش كثيراً، حين استغاث أخيراً ثوار سوريا بالمجتمع الدولى، لكى ينقذهم من آلة الفتك والدمار التى تصبّ جامّ وحشيتها عليهم منذ ستة شهور، وهذا هو نفس النظام الذى لم يصمد أمام إسرائيل ستة أيام عام ١٩٦٧، ولم يُطلق فى اتجاهها طلقة واحدة، رغم استمرار احتلالها أراضيه لأكثر من أربعين عاماً.

وهكذا، ففى سوريا، كما من قبلها ليبيا، ومن بعدها اليمن، فإن الطُغاة العرب هم الذين يضطرّون شعوبهم للاستنجاد بالغُرباء من الخارج!

ومع ذلك ربما سترتفع أصوات تستنكر هذه الاستغاثات بالخارج، كما لو كان لسان حال هؤلاء هو أن «الذبح على يد أى مُستبد من أهل البلاد هو ذبح حلال، وهو خير من الإنقاذ على يد أى طرف خارجى»، فهذا الأخير لن يأتى لإنقاذ أى شعب عربى من أيدى المُستبدين العرب، إلا وله أطماع أو أجندته الخاصة، التى لا يعلم أصولها وتفاصيلها إلا الله سُبحانه وتعالى!

ولنأخذ نماذج لمقولة «ثلاثية» الطُغاة والغُلاة والغُزاة: حدث ذلك فى الصومال، ثم فى الكويت، ثم فى العراق، خلال العقدين السابقين. وها هو يحدث فى ليبيا، وربما سيحدث فى سوريا واليمن، وما دامت لا توجد قوة ردع عربية تقف إلى نجدة الشعوب الشقيقة، حينما يستأسد عليها حُكامها الطُغاة، فليس من حق أى فريق عربى آخر، يقف على الشاطئ، إعطاء دروس لأبناء شعب يتعرضون للغرق، إن هم استغاثوا بمن يمكن أن ينقذهم!

فكما يذهب القول الشعبى المأثور «إن من يده فى الماء، ليس كمن يده فى النار»، فلنحترم نداءات ضحايا الطُغيان، حتى إذا لم نتعاطف معها بقلوبنا، فأهل مكة أدرى بشعابها.

إن للفيلسوف الألمانى إيمانويل كانط (E.Kant) مقولة مشهورة فى مؤلفه عن «السلام العالمى». وفحواها أن البُلدان الديمقراطية لا تُحارب بعضها البعض، فالديمقراطية تستوجب على الحاكم أن يعود إلى مُمثلى شعبه قبل أن يُعلن حرباً، وليس لأى شعب مصلحة فى شن حرب على شعب آخر، والعكس صحيح، وقد حاول كثيرون أن يجدوا استثناءً لهذه القاعدة، فلم يجدوا إلى تاريخه.

وبنفس المنطق فإن الشعوب التى تختار حُكامها بإرادتها الحُرة، دورياً، أى كل بضع سنوات، فإنها لا تجد مُبرراً للانتفاض أو الثورة. بل إنها تُجدد دماء نُخبتها الحاكمة دورياً، وهو ما يُساعد على استقرارها، وتقدمها، ورخائها.

ولعل الربيع العربى للحُرية يتم استكماله، لكى تلحق شعوب الأمة بالموجة العالمية للديمقراطية، والتى تجتاح العالم منذ ثورة البرتغال، عام ١٩٧٤. ولعل هذا أيضاً يضع نهاية لستة عقود من الطُغيان، ويضع نهاية لمقولة إن العرب والمسلمين ليسوا أهلاً للديمقراطية. صحيح لقد تأخرت تلك الموجة، ولكن كما يقولون عن «الحُب»، خير للمرء أن يأتيه الحُب مُتأخراً، من ألا يأتى على الإطلاق.

والله أعلم

اجمالي القراءات 10145