أولاد تسعة

محمد حسين في الأحد ٢٨ - أغسطس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كانت أوائل السبعينات تطرق ابواب الزمن عندما خرجت تلك الأغنية الى الوجود. الميدان ميدان التحرير ، تتوسط دائرته الخضراء نافورة تتحرر منها المياه فينساب منها منظر يحلو للعين مغازلته. الورود المحيطة المتعاشقة ، وساعة أتقنها مصممها بعناية فائقة تكاد تجعل للوقت معنا ذا مذاق خمرى. النسيم يداعب الخيال ، وبائعو الفل يناشدون العشاق تقربا. أخذت الراديو الصغير براحتى اضعه على أذنى واذوب فى الكلمات. لم يجل بخاطرى ولو للحظة أنى سأستمع لنفس الكلمات وقد أعلن الحداد على الفا ثانية من الزمن ، والميدان أمامى الآن وقد اخترق المشهد المختلف صوت الأغنية نفسها يقول (سأل الزمان وقال ، إيه غير الأحوال).
***********************************************

قال الراوى يا سادة ، أنه كان الكتاب بضاعة عزيزة ثمينة على الفقراء فى الزمان البائد. كانت المجاعات تعلن حروبا قاسية قاصمة على ظهور العامة ، وحتى فى حالات الهدنة كان الجوع زائرا دائما لا رحبت به قلوب الناس. وللمعرفة رونقها الخاص ، فعز الكتاب وكان الراوى. تلتف الناس حول الراوى فترتحل بخيالها بين الأقاصيص والحكاوى التى تدغدغ الاحاسيس. اليد تعانق الخد فيميل عليها ، تسرح الأنظار فتسافر تارة الى الخضراء حيث الهلالى يجوب ويحيك جلباب العزيمة ، وتعود على شارب الزير سالم على صفحات صفراء رثة مهلهلة تحمل من حكايات النصر والصراع ما يكفى لشد همم تنشئ أهراما أخرى. او حكايات الفتوات فى الحارات ، ويجلس الراوى الكتاب البسيط المتنقل صاحب الربابة احيانا ، مرافقا بذاته احيانا اخرى ، يهيم بالعامة ويهيمون فى عذب الحكايات تنساب من فمه الأسطورى. كان الناس يهربون ويلوذون لديه يلتمسون الأمل والمستقبل. جلست بجانب الراوى وقد تناثرت الكتب وأمست أرخص من حبات الفول المدمس وافتح التلفاز فتأتى أصواتا ناعقة تلدغ الآمال ، تنافق وتنفق من الكلمات تحت أيدى السلطان تنفر منها العامة. لا أحد غيرها ولا شئ للناس ، غرب الكتاب ، ذهب الراوى الى حيث رجعة ، بقى التلفاز الذى يشد اوزاره على بقايا الآمال يحطمها كذبا ورياءا. وإنفض المولد.
******************************************

يأخذنا ألبير كامو الى عالم التمرد ، هذا العالم الغير مرغوب فيه الى حين ممن هم يخشون التمرد تجاههم ، وممن هم متمردوا المستقبل. هذا العالم ما أن توضع قدم فيه حتى تنقلب القيم ، مغلوطة كانت ام صحيحة ، الى ما هو عكسها تماما. توضع فيه تعريفات جديدة لقيم معلومة الإسم مجهولة الآليات. ويقبع فى أوسط هذا العالم سلة من القيم المهيمنة أطلق عليها القدماء "العدل والمساواة". تختل تلك القيم فتنتج عادات يصح ، وانما لا تخلق قيما مختلة.
ان مشاعر المتمرد تتحول من العادة الى الثورية ، تعلن الرفض التام والشامل ، وتضع حدودا فاصلة تكاد فواصلها تخط فروقا بين اسباب الحياة والاستعداد للموت...من اجل الحرية كيفما يرتأيها المتمرد. وفى ترقب لا يتجاوز كونه هدوء المفترس للفريسة قبل الانقضاض. مرحلة بين الثورة والإجهاز.
يحدثنا كامو عن الـ "لأ" المتمردة التى تنبعث دخانا يسبق بركان الغضب. وأفرد كامو لها المعانى الخاصة بأنها "الى هنا كل شئ كان مقبولا ، ولكن بعد هذه اللحظة لا تسامح". اذا فهى حد فاصل قاطع يعلن قيما جديدة وحياة لها معانى لا يتراجع المتمرد عن ان يشد اوزارها لتكون قاعدة الى ما هو آت. تلك الـ "لأ" تقول صراحة انه "اما ان أحيا وحدى او نذهب نحن الاثنين بلا عودة" ، فحياة الطرف الاخر لم تعد اختيارا من ضمن الاختيارات المفتوحة. فى دنيا التمرد ترتعد فرائس النتائج. فأنا اتمرد ضد ان يستغلنى الاخرون بما لا أرتضيه ، ولكنها تعلن فى الوقت ذاته انحراف الة الفعل لتكن فى يد المتمرد. فما كان يعتقده المتمرد جريمة فى حقه لا تصبح جريمة عندما يقترفها ضد الآخرين إبان تمرده ، أى اننا امام تعريف آخر للعدل ، ولكنه ليس العدل فى ذاته.
لا يتراجع المتمرد عن موقفه فما تمرد من أجله دونه حياته. مهما حاول الجانب الاخر من كسب للوقت فما هى الا محاولة يائسة تؤجل الحتمية ولكنها لا تقوضها.

وتستمر الثورة.
***************************************
كان البيت عتيقا ، ولشد ماكان يجذب نظرى اليه شئ لم يكن بالغامض. والحق اننى كنت أقل الضحايا جنونا. فعلى جانبيه مصطبة يتوقف عندها الشوارب والصبيان ، الكل يتمنى كلمة منهن ، او من أى منهن. وكلهم أسرى الخيال الجامح. باب البيت كالجب المسحور تخطو فيه القدم فتأخذ صاحبها الى قلب اعصار من النيران التى تلهب الوجدان. كنت انظر من حيث اكون الى هناك وانا اراهم داخلون ملتاعون ، خارجون مترنحون. ماذا لو خضت تلك التجربة. هل يزداد الأفق انطباقا على الأرض؟ لعل قدماى تنقصهما شجاعة هؤلاء فلا أجرب حظى.
وفى يوم كنت واقفا بالشرفة ادخن سيجارة اتحدى بها لفحة نار هذا الصيف الحارق. أجول بنظرى فى آفاق الحارة يمينا ويسارا واذا بإحداهن تخرج لتقف مائلة على احد جوانب مدخل البيت ، كجنية ساحرة بعينيها الحمراوتين وشعرها الغجرى المبلل ، مبللة الرداء ، فى مشهد ينفجر له جسد الملتاع بركانا ولا يقلل بأى حال العناء من هذا القيظ. ورغم المسافة بيننا الا ان نظرى بدا حادا فى أدق التفاصيل كعقاب ينظر فريسته الأرضية.
وفجأة ، وإذ انا مأسور ، التقت عينانا. عانيت الإرتباك وتمنيت لو ابتلعتنى الشرفة. ها أنا اثبت لنفسى ان الشجاعة والاقدام على خوض المعركة غرباء عنى يجهلون موطنى. وقد هزمت فى أول المعارك بيننا فى سرعة مخجلة. روحت انفث الدخان بشراهة يرتسم على انفاسى الحرج المقيت. دخلت. تنفست الصعداء. قررت ان انتهى من تلك السيجارة وأدخل. لم يبتعد المنظر عن عيناى وظل يطاردنى ويزيد فى أسرى وتلتهب جوارحى التهابا. كل شئ يثور بداخلى الا قدماى ، فما زالت تنقصهما الشجاعة. ولعل الفوارق بينى انا من رواد العلم والمعرفة ، وبينها حيث تغترب الحروف ، وصيتهن وهى منهن واسع الثراء بالتهام العشاق ، وفوارق اخرى تقف حائلا أشبه بخط بارليف يلزمه عبور من نوع خاص.
التجأت للشرفة ليلا ، فى خلسة حتى لا اواجه معركة اخرى ، وحتى لا تلتقى عينانا مرة اخرى فتسوق الى ذكرى معركة خاسرة لم يطويها يوم واحد بعد. لا احد. حمدا لله. ولكن ما أفظع الضجر. رغم كل الاقصوصات التى تحيط مغامراتى الا اننى فى تلك اللحظات اعاصر عهد الحرمان ، أمارس بين جوانبه العواطف المتضاربة. وبرغم انى لم اوجه نظرى ناحية السحر الهائل فى الاتجاه الاخر حيث تظهر الجنية ملهبة المشاعر حتى الآن ، اجدنى استسلم دون مقاومة للنظر مرة اخرى. عاهدت نفسى ان استرق النظر فى سرعة ثم اعود حيث الساتر من الضربات الغير رحيمة. واستدرت. فكانت واقفة متربصة ترمقنى. هاهى امواج من الانفعالات تركض بجنون نحو شاطئ المقاومة ، فتغمرنى بزبدها الفائر. أشارت الى بيديها. لا حجة لقدماى الآن والا قطعتهما. اخذت سلالم المنزل فى خفة الغزال وسرعة الفهد ، تتسارع الخطوات وتحمل كل منهن لهيب شوق ليزيد شوقى نارا. لحظات وكنت أقترب. وما ان اقتربت بشدة حتى اختفت. انه لخيال ماسخ ان كنت اعيشه؟ الهذه الدرجة اغتالنى السحر والهوس؟ نظرت حوالى استفهم الموقف المشين المحبط وانا اشعر داخلى ببناء هائل يتحطم. بعض الوقت ذهب وانا راشق فى الأرض كمسمار صدئ فشلت كل المحاولات لإخراجه. واذ انا احاول ان الملم اشلاء الحلم الملعون لاحت لى برأسها مستنكرة وقوفى واشارات وجهها ترجونى بالاسراع ناحيتها وهى تنظر الى الشرفات حولنا معاتبة اياى مستفسرة سر تلكؤى. وفى لحظة عاد البناء الشامخ واقتربت بقدماى ناظرا الى العمق ثم دخلت تاركا غيابة مدخل البيت تبتلعنى حيث إعلان اهم مبادئ الشيوعية...اننا كلنا اولاد تسعة.


 

اجمالي القراءات 10694