السيرة النبوية - الفترة المدنية - الفصل الثالث
من اجتمع إلى اليهود من منافقي الأنصار

محمود علي مراد في الثلاثاء ١٩ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

النص

يورد النص أسماء ثلاثة وخمسين شخصاً ينتمون إلى عشرة بطون مدنية، انضموا إلى اليهود ونـزلت في شأن بعضهم آيات سنعقِّب فيما بعد على ملحوظات المؤلف في خصوصها.(1) ومن بين هؤلاء الأشخاص خمسة اشتركوا في بناء مسجد الضرار في السنة التاسعة من الهجرة، وهو مسجد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهدمه وحرقه. ومنهم مربع بن قيظي(2)، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه (أي في بستانه) ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامد إلى أُحُد: لا أحلَّ لك يا محمد، إن كنت نبياً، أن تمر في حائطي، وأخذ في يده حفنة من تراب، ثم قال: والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به، فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، فهذا الأعمى، أعمى القلب، أعمى البصيرة. فضربه سعد بن زيد، أخو بني عبد الأشهل بالقوس فشجَّه (أي جرحه)؛ ومنهم حاطب بن أمية بن رافع، وكان شيخاً جسيماً قد عسا (أي أسن وولى) في جاهليته وكان له ابن من خيار المسلمين، يقال له يزيد بن حاطب، أصيب يوم أُحد حتى أثبتته الجراحات، فحُمل إلى دار بني ظفر، فاجتمع إليه مَن بها من رجال المسلمين ونسائهم وهو بالموت فجعلوا يقولون أبشر يا بن حاطب بالجنة، فنَجم (أي ظهر) نفاقه حينئذ، فجعل يقول أبوه أجل جنَّة والله من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه(3)؛ ومنهم قزمان(4) الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنه لمن أهل النار. وكان قزمان يوم أُحد قاتَل قتالاً شديداً حتى قتل بضعة نفر من المشركين، فأثبتته الجراحات، فحُمل إلى دار بني ظفر، فقال له رجال من المسلمين: أبشر يا قُزْمان، فقد أبليت اليوم، وقد أصابك ما ترى في الله. قال: بماذا أبشر، فوالله ما قاتلت إلا حمية عن قومي، فلما اشتدت به جراحاته وآذته أخذ سهماً من كنانته، فقطع به رواهن (الرواهن عصب ظاهر اليد وعروق في بطن الذراع "التاج") يده، فقتل نفسه.

—كان منافقون يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين، ويسخرون ويستهزئون بدينهم، فاجتمع يوماً في المسجد منهم ناس، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم، خافضي أصواتهم، قد لصق بعضهم ببعض، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخرجوا من المسجد إخراجاً عنيفاً، فقام أبو أيوب .. إلى عمرو بن قيس، أحد بني غنم بن مالك بن النجار - كان صاحب آلهتهم في الجاهلية - فأخذ برجله فسحبه، حتى أخرجه من المسجد، .. ثم أقبل أبو أيوب أيضاً إلى رافع بن وديعة، أحد بني النجار فلببَّه بردائه ثم نتره (أي جذبه) نتراً شديداً، ولطم وجهه، ثم أخرجه من المسجد، وأبو أيوب يقول له: أفّ لك منافقاً خبيثاً: أدراجك (أي ارجع من الطريق التي جئت منها) يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام عمارة بن حزْم إلى زيد بن عمرو، وكان رجلاً طويل اللحية، فأخذ بلحيته فقاده بها قَوْداً عنيفاً حتى أخرجه من المسجد، ثم جمع عُمارة يديه فَلَدَمه بهما في صدره لَدْمة خرَّ منها. قال: خدشتني يا عمارة؛ قال: أبعدك الله يا منافق، فما أعدَّ الله لك من العذاب أشد من ذلك، فلا تقربنَّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقام أبو محمد، رجل من بني النجار، كان بدريّاً، وأبو محمد مسعود بن أوس .. إلى قيس بن عمرو بن سهل، وكان قيس غلاماً شاباً، وكان لا يعلم في المنافقين شاب غيره، فجعل يدفعه في قفاه حتى أخرجه من المسجد. وقام رجل من بَلْخُدره بن الخزرج، يقال له: عبد الله بن الحارث، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج المنافقين من المسجد إلى رجل يقال له: الحارث بن عمرو، وكان ذا جُمَّة، فأخذ بجُمَّته فسحبه بها سحباً عنيفاً، على ما مرَّ به من الأرض، حتى أخرجه من المسجد. قال المنافق: لقد أغلظت يا بن الحارث، فقال له: إنك أهلٌ لذلك، أي عدو الله لما أنـزل الله فيك، فلا تقربنَّ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنك نجس. وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زُوَيّ بن الحارث، فأخرجه من المسجد إخراجاً عنيفاً، وأفَّف منه (أي قال له: أف)، وقال: غلب عليك الشيطان وأمْره. فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم.(5)

—وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وسيد أهلها عبد الله بن أُبَيّ بن سلول العوفي، لا يختلف عليه في شرفه اثنان، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين، حتى جاء الإسلام، وكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوِّجوه ثم يملكِّوه عليهم، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك. فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن (أي اعتقد العداوة)، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه مُلكاً، فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارهاً مُصراً على نفاق وضغن.(6)

—ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكوٍٍ أصابه على حمار عليه إكاف (أي: البرذعة بأداتها)، فوقه قطيفة فَدَكية (منسوبة إلى فدك، وهي قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان) مخْتَطمة (الاختطام: أن يجعل على رأس الدابة وأنفها حبل تمسك به) بحبل من ليف، فمر بعبد الله بن أُبَيّ، وهو في ظل مزاحم (اسم) أُطُمه، وحوله رجال من قومه. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم تذمم (أي: استنكف واستحيا) من أن يجاوزه حتى ينـزل فنـزل فسلم ثم جلس قليلاً فتلا القرآن، ودعا إلى الله عزَّ وجلَّ، وذكَّر بالله وحذَّر، وبشر وأنذر، وهو زامّ (أي: ساكت) لا يتكلم، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته، قال: يا هذا، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقاً فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدِّثه إياه، ومن لم يأتك فلا تَفُتّه (أي: لا تثقل عليه ولا تكدّه)، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه. فقال عبد الله بن رَواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين: بل، فاغشَنا به، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا، فهو والله مما نحب، ومما أكرمنا الله به وهدانا له. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على سعد بن عُبادة، وفي وجهه ما قال عدوُّ الله ابن أُبَيّ، فقال: والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئاً، لكأنك سمعت شيئاً تكرهه؛ قال: أجل، ثم أخبره بما قال ابن أُبَيّ، فقال سعد: يا رسول الله، ارفُق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإنا لننظم له الخرز، فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكاً.(7)

التحليل

من الممكن إبداء الملحوظات التالية بشأن الأشخاص الذين تضمهم هذه الفئة، بما في ذلك أولئك الذين يقول النص إن تنـزيلاً قرآنياً نـزل في شأنهم:

1- يتضح من تحليل نص الفترة المكية أن المؤلف، رغبة منه في تمجيد أهل المدينة، أسماهم جميعاً، بلا تفريق، بالأنصار، وذلك منذ أول لقاء للرسول صلى الله عليه وسلم بستة من حجاج المدينة قبل الهجرة بعامين، وهي تسمية غير سليمة وفيها تجاوز، فإن تحليل التنـزيل القرآني الذي يُعرِّف الأنصار يشترط شرطين لاستحقاق هذا اللقب: أن يكون الشخص قد أَوى المهاجرين وأن يكون قد اتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة العسرة. لذلك لا يتفق أن يكون الشخص في وقت واحد منافقاً ومن الأنصار، كما هو الحال في العنوان الوارد في "السيرة" عن موضوع المنافقين.

2- عدد "منافقي الأنصار" المذكور في النص أقل من العدد الفعلي. ولابد أنهم كانوا أكثر بكثير من الخمسة والثلاثين الذين ذكرهم المؤلف، لاسيما إذا راعينا أن الأمر لا يتعلق فحسب بمنافقي الفترة المدنية الأولى وإنما بمنافقي الفترة كلها. وقد نسي المؤلف أن يضيف عدد المنافقين الذين انسحبوا من غزوة أُحد تحت قيادة عبد الله بن أُبي بن سلول، والذين كانوا يمثلون ثلث جيش المسلمين كما جاء في حديث الغزوة المذكورة. كذلك نسي فئات أخرى من المنافقين سيأتي ذكرها في هذا البحث. ويستفاد من النص أن عدد البطون التي ينتمي إليها المنافقون الذين ذكر أسماءهم عشرة والدلائل تدل على أنه كان أكبر من ذلك بكثير.

3- على الرغم من ذكر اليهود في عنوان هذه الفئة من الأشخاص وفي الجملة الأولى من الحديث المتعلق بهم، فليست هناك علاقة بين أقوال وأفعال هؤلاء الأشخاص وبين اليهود إلا في حالتين:

- حالة الضحاك بن ثابت من بني عبد الأشهل الذي يقول النص إنه كان يتهم بالنفاق وحب اليهود.

- حالة عبد الله بن أُبي بن سلول، رأس المنافقين، الذي نـزلت في حقه، وفقاً للنص، سورة المنافقين بأسرها، والذي كان وبعض رهطه يدسون إلى بني النضير حين حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن اثبتوا، فوالله لئن أُخرجتم لنخرجنَّ معكم ولا نطيع فيكم أحداً أبداً، ولئن قوتلتم لننصرنَّكم. وهكذا فإن النص، بنفس الروح التي جعلته يصور اليهود على أنهم أعداء الرسول الرئيسيين، لإخفاء وجود فئة من المشركين في المدينة، يحاول هنا أن يوحي بأن اليهود كانوا أيضاً، بصورةٍ ما، قطب العداء للرسول صلى الله عليه وسلم، وأنه ما من عدو آخر للرسول يمكن تصوره خارجهم.

4- الحالات المدرجة تحت العنوان المذكور مزيج غير متجانس وغير متناسب ولا يخضع لقاعدة، والمنافقون فيها يمكن تقسيمهم إلى خمس فئات: 

- ست حالات لأشخاص ذكروا بصدد اقتباسات قرآنية؛ 

- سبع حالات ذكر أصحابها، كما في الفئة السابقة، بصدد اقتباسات قرآنية، ولكن مع حكاية؛

- سبع حالات عن حكايات فقط يتضح فيها النفاق من كلام قيل أو من عمل فردي؛

- ست حالات يتمثل النفاق فيها في اشتراك الشخص المعين في حادثة مسجد الضرار؛

- تسع حالات، أي رُبع المجموع، ذكرت فيها أسماء المنافقين دون أي شرح.

- وفي ثلاث حالات صوَّب ابن هشام ما ذكره ابن إسحاق: بشأن الشخص الذي قتل أبا أحد المنافقين، وبشأن عدد الأشخاص الذين قتلهم، وبشأن حقيقة أن أشخاصاً ثلاثة قال ابن إسحاق إنهم منافقون لم يكونوا كذلك.  

5- النص يحكي حالة في غاية الغرابة، هي حالة نبتل بن الحارث بن لوذان(8)، ويقول فيها ابن إسحاق إن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له إنه يجلس إليك رجل أذلم (أي الأسود الطويل، ويقال: هو المسترخي الشفتين)، ثائر شعر الرأس، أسفع الخدين (والسفعة: حمرة تضرب إلى السواد)، أحمر العينين، كأنهما قدران من صُفر، كبده أغلظ من كبد الحمار، ينقل حديثك إلى المنافقين، فاحذره، وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن ينظر إلى الشيطان، فلينظر إلى نبتل بن الحارث. ولكن النص لا يذكر أي إجراء اتخُذ ضده.

6- من الغريب أن الشيء الوحيد الذي رأى المؤلف أنه جدير بالذكر في معرض الأفعال المنكرة والضارة بالإسلام التي ارتكبها المنافقون أثناء الفترة المدنية هو كون ستة أو سبعة من الأشخاص بنوا مسجداً أدان القرآن الكريم بناءه وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بحرقه. علماً بأنه لم توقَّع أي عقوبة على هؤلاء الأشخاص، بل إن عمراً في زمانه سمح لأحدهم أن يصلي بقومه بعد أن شرح له أنه كان غلاماً قارئاً للقرآن وكانوا لا قرآن معهم ولذلك كان يصلي بهم في مسجد الضرار.(9)

ابن أُبي وابن الصيفي

يتحدث النص بمعرض الحديث عن المنافقين عن شريفين من أشراف المدينة (10) هما عبد الله بن أُبي بن سلول، سيد الخزرج، وأبو عامر عبد عمرو الصيفي، سيد الأوس (الذي أوردنا حواره مع الرسول صلى الله عليه وسلم تحت عنوان "إسلام أهل المدينة") والمعلومات التي يقدمها بشأنهما تثير الملحوظات التالية:

1- إذا كان المنافق، في السياق الذي يعنينا، هو بحكم تعريفه، الشخص الذي أسلم والذي تدل أقواله أو أفعاله على الرغم من ذلك أنه لم يكن صادقاً في إسلامه، فلا يمكن اعتبار أبي عامر الصيفي منافقاً لأنه لم يدخل في الإسلام. وفضلاً عن ذلك فإن اسمه لم يرد في قائمة المنافقين التي جاءت في النص.

2- النص لا يصف طبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين هذين الشخصين وبين اليهود، والتي كانت متعددة الوجوه. ونظراً إلى أنهما، كليهما، كانا، فيما يقول النص، سيدين شريفين في قبيلتيهما، فلابد أنه كانت لهما علاقات مختلفة مع اليهود، سواءً على المستوى الشخصي أو بصفتهما الرئاسية. من ذلك أن النص يخبرنا، بصدد أحد الاقتباسات القرآنية، أن بني قينقاع كانوا حلفاء الخزرج، وأن بني النضير وبني قريظة كانوا حلفاء الأوس، وأن القبائل اليهودية كانت، إذا نشبت الحرب بين الأوس والخزرج، تشترك فيها اشتراكاً كاملاً مع حلفائها وتتقاتل فيما بينها نتيجة لذلك. والاحتمالات كلها تشير إلى أن هذه الأحلاف العسكرية لم تكن الشكل الوحيد للعلاقات بين اليهود وأهل المدينة وأن مصالح الجماعتين، سواء في المجال التجاري أو في المجال الاجتماعي، كانت متشابكة بدرجة كبيرة. وإذا صح أن بعض بطون المدينة كان فيها أعضاء من اليهود، فمن المرجح أن هذه الظاهرة جاءت نتيجة للزواج المختلط عبر الأجيال. ومن الصعب، في مثل هذا المناخ، تصور أن شريفين مثل ابن سلول وابن الصيفي لم تكن لهما علاقات عديدة ومستمرة مع اليهود.

3- نستطيع أن نذَكِّر هنا بما سبق أن قلناه عن الفراغ الكبير في النص فيما يتعلق بحالة العلاقات بين القبيلتين اللتين كان ابن أُبي وابن الصيفي شريفيهما. ويزيد من غرابة هذا الفراغ أن ابن إسحاق كان هو وأبوه وجده من أهل المدينة، وأنه عاش في هذه البلدة حتى سن الثلاثين وأن أساتذته كانوا بدورهم من أهلها، وكانوا أبناء أو أحفاد أنصار أو مهاجري تلك الحقبة.

4- لو أن ابن أُبي كان حقاً سيد الخزرج وشريفهم، فما كان من الممكن ألاَّ يكون له دور في حرب بعاث التي انتصر فيها الأوس. ومن الصعب علينا أن نفهم كيف حدث، وقد خرج مهزوماً من الحرب، أن انتُخِب بعدها بعامين ممن هزموه ليكون ملكاً عليهم. والنص لا يفسر كذلك ما الذي جعل الأوس والخزرج مجتمَعين، يقرران، للمرة الأولى في تاريخهما، أن يكون لهما ملك، في الوقت الذي لقي الإسلام فيه، خلال الفترة ذاتها، نجاحاً باهراً، دون أن يلقى، وفقاً للنص، أي معارضة، والذي كانت الأنظار تتجه فيه كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

5- كان الطبيعي أن تكون لأبي عامر الصيفي، باعتباره سيد الأوس علاقات متصلة بابن أُبي، سيد الخزرج: علاقات عداء حين كانت تنشب بين قبيلتيهما الحرب، واشتراك في حكم المدينة، وقت السلم. وإذا كان صحيحاً أن الأوس، في عدول عن تقاليدهم التي استقرت منذ القدم، قد قرروا، مع الخزرج، أولاً، اتخاذ ملك للقبيلتين، وثانياً، استبعاد رئيسهم من هذا المنصب وتنصيب سيد الخزرج، فماذا كان باعثهم على ذلك، وماذا كان مصير سيدهم أبي عامر؟ ألهذا السبب اختار أن يترهب أم أن حافزه على هذا الاختيار كان عقائدياً، أم أنه كان يقلد النصارى؟ هل عدل عن منصبه كرئيس أم قبِل أن يبقى كمرءوس لابن سلول؟ النص لا يذكر شيئاً عن هذا الموضوع ولا يعطي أي فكرة عن علاقاته برئيس الخزرج.

6- النص لا يتحدث عن علاقات أبي عامر الصيفي بالقبائل اليهودية التي كانت متحالفة مع الأوس، أي بقبيلتي بني النضير وبني قريظة.

7- من الغريب أن سؤالاً واحداً هو الذي طُرح على بساط البحث في اللقاء القصير الذي تم بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي عامر هو أي الاثنين كان على حنيفية إبراهيم؟ ماذا كانت هذه الحنيفية، ولماذا وجد أبو عامر، بعد مناقشته مع الرسول، أن الإسلام أدخل فيها ما ليس منها؟ لا جواب عند ابن إسحاق.(11)

8- الاختبار الذي اقترحه أبو عامر، والذي يجعل معيار الصحة بين الحنيفية التي هو عليها والحنيفية التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، هو أن يموت الكاذب طريداً غريباً وحيداً، اختبار في منتهى الغرابة، خاصة من جانب شخص كان ينوي الخروج من بلده. وأغرب منه أن يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان هو نفسه منفياً من بلده، أن تقاس صحة الرسالة التي بعثه الله بها للناس لا على أساس مبادئها وكتابها، وإنما على أساس المكان الذي يكون فيه والحالة التي يكون عليها حين يوافيه أجل الموت.

9- من المستغرب ألاَّ يقول النص شيئاً عن نتائج هجرة هذا العدو من أعداء محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى مكة، على الرغم من أن هذه الهجرة كانت ولابد حدثاً ضخماً سواءً بالنسبة لقبيلته في المدينة أو بالنسبة لمكة؛ والنص لا يقول شيئاً كذلك عن ظروف إقامته في مكة والدور الذي لعبه هو وأنصاره في صراع قريش ضد الرسول خلال السنوات الثماني التي انقضت بين رحيله من المدينة وفتح مكة.

10- من الغريب أخيراً أن يرفع الخلاف الذي نشأ بصدد تركة هذا الناسك إلى قيصر الروم شخصياً. 



(1)
"السيرة"، ص ص 519 – 527.

(4) ص ص 524 و 525.

(5) ص ص 528 و 529.

(6) ص ص 584 و 585.

(7) صص 586 – 588.

  (8) ص 521.

  (9) ص ص 522 و 523.

(10) ص ص 584 و 585.

(11) أنظر ص 50 أعلاه.

اجمالي القراءات 17302