الإخوان والحماعة الوطنية

كمال غبريال في الثلاثاء ١٩ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

تفرض المرحلة المصيرية التي تمر بها مصر وثورتها الآن العديد من التساؤلات، تقابلها إجابات قد يبدو بعضها بديهياً، ولكنها وبنظرة متأملة يفتضح زيفها، وأنها تزيد الإشكاليات استعصاء وغموضاً. . متى يكون الاختلاف بين أبناء الوطن الوطن الواحد نقمة نهرب منها، ومتى يكون إثراء بدونه تتجمد الحياة ويصيبها العقم؟. . كيف تقوم الائتلافات بين القوى وعلى أي أساس ينبغي أن تقوم؟. . هل تحتاج الثورة المصرية الآن إلى ائتلاف جميع تياراتها السياسية، أم تحتاج إلى الفرز والتصنيف؟. . متى يكون الاستبعاد أو الاستئصال من الحياة السياسية فاشية، ومتى يكون ضرورة حتمية لاستقامة التوجه والحركة؟
حالة من الاختلاط والضبابية تسود الساحة حول تلك التساؤلات، وفي خضمها يندس السم في عسل الثورة، وتتسلل العقارب والثعابين والذئاب إلى ميدان التحرير وثورته، وتعتلي المنابر منادية بوحدة وطنية هم ألد أعدائها، وأول من سينقلب عليها، سويعات بعد تمكنهم من أرض البلاد ورقاب العباد، وفق نص ما يعلن زعماؤهم في لحظات تجل وشفافية ليست بنادرة.
نبدأ بما نسميه "الحد الأدني الضروري للتوافق"، ونقصد به قدر التوافق الذي بدونه لا يمكن أن تتحول "جماعة" من الناس إلى "مجتمع" يجمع بين أفراده الاعتماد المتبادل لتوفير مختلف الاحتياجات الإنسانية للفرد داخل تلك المنظومة. . فهناك فرق بين مجموعة من الناس تشكل مجتمعاً، وبين مجموعة لا يجمعها إلا مكان وزمان ما لظرف طارئ مثلاً، دون أن تتبادل فيما بينها علاقات من أي نوع، مثل الجماهير المحتشدة لمشاهدة ساحر يقدم ألعابه في أحد الميادين أو مشاهدة مباراة رياضية، فحتى ما تقوم به هذه المجموعة الأخيرة من هتافات جماعية لمناصرة فريق، لا يؤثر كثيراً في الهدف الذي أتى بالفرد لساحة المباراة وهو مشاهدتها.
المجتمع إذن باختلاف أحجامه لكي يتشكل وتنتظم العلاقات بين مكوناته يلزمه الانتظام في منظومة تتشكل من علاقات محددة طبيعتها وتوصيفها ومعلومة للجميع، ويكون الخارج عليها مجرماً في نظر المجتمع، كما تحتاج لفكر يعتنقه الجميع، يوجه الفرد ويحكم سلوكياته وفق تلك العلاقات المتفق عليها. . هذا الاتفاق والفكر المشترك نصفه بأنه "حد أدنى من التوافق"، ولهذا التحديد وجهان، أولهما أن من لا يقر ويتوافق مع هذا "الحد الأدنى" يعد خارجاً على المجتمع، ويكون هو الذي يستأصل نفسه بنفسه، ومن يضع دائرة حمراء حول سلوكيات مثل هذا الشخص وفكره، ويرفضها رفضاً قاطعاً وحاسماً، يعد هذا حامياً للمجتمع مما يمكن أن يسببه هذا النهج من تخريب. . فالمجتمعات والأوطان التي لا تتفق على "حد أدني كاف" تتصدع وتتمزق، وتشهد منطقة الشرق الأوسط أكثر من حالة، بل وأمامنا النموذج اللبناني، الذي كان الأروع في التنوع والتوافق، وماذا آل إليه حاله فور تسلل فيرس التأسلم الديني على يد حزب الشيطان، وكيف صار الآن كياناً مهلهلاً.
الوجه الثاني من مفهوم "الحد الأدنى من التوافق" يأتي للتحرز من وضع معاكس للسابق، وهو محاولة فرد أو مجموعة تضخيم حجم التوافق بأكثر مما يحتاج المجتمع لحفظ تماسكه، ويأتي هذا التضخم للتوافق على حساب الحرية الشخصية للفرد، لصالح جهة مهيمنة، قد تكون فرداً طاغية أو جهة سيادية سياسية كانت أو دينية. . نرى هذا في المجتمعات التقليدية الأبوية، وفي الدول الشمولية التي تسحق الإنسان الفرد، من أجل ما تسميه مصلحة المجموع، ولقد أثبتت الأيام لجيلنا من واقع التجارب العملية، أنه حيث يتم سحق الفرد وميوله وخياراته الخاصة، يتحول المجموع إلى كتلة عقيمة عاجزة من العبيد. . هنا يكون هذا التوافق المتضخم المعادي للفردية نقمة، ويكون الاختلاف بين الناس إثراء للمجتمع وتحقيقاً لإنسانية الإنسان.
جماعة الإخوان المسلمين –كممثل ومدرسة أولية لكافة التيارات الدينية في مصر والعالم- تعد نموذجاً جيداً لتمثيل ما سبق، إذ يتجسد في ممارساتها وفكرها العصف بكل من وجهي مفهوم "الحد الأدنى للتوافق" الجوهري لقيام مجتمع سليم ومتوافق، بما يجعلها خارجة تماماً عن المنظومة المجتمعية أو الوطنية، وبالتالي يكون استبعادها أو استئصالها عملاً أبعد ما يكون عن الفاشية أو الاستبداد، وإنما هو مطابق للحكم بالسجن أو ما هو أقسى على الخارجين على القانون، حماية للمجتمع مما يمكن أن يسببونه من إيذاء.
تنظيرات هذه الجماعة ومرجعياتها الدينية تصدر حكماً معنوياً بالإعدام، إن لم يكن جسدياً أيضاً على الآخر داخل نطاق الوطن، وذلك بإلصاق توصيف بغيض به هو توصيف "كافر"، ويدخل في نطاق هذا التصنيف بالطبع المسلم الذي لا يعتنق فكر الجماعة ورموزها دونما نقاش أو جدال، وما التدرج في شدة الخطاب وتعصبه بين مختلف درجات طيف تلك الجماعات، إلا مجرد نغمات ضمن ذات اللحن الاستئصالي والمهيمن، والذي يتصور أصحابه أو يدعون امتلاكهم للحقيقة المطلقة، التي يعد غير المسلم بها تسليماً كاملاً شيطاناً مريداً. . هذا بالطبع بالإضافة إلى إنكار جوانب هي الأخطر في حقوق الإنسان الطبيعية، ومثلها الحقوق المستقرة في المواثيق العالمية لحقوق الإنسان. . الآخر في شرع هؤلاء على أحسن الفروض، ووفقاً لخطاب التقية الذي يقال في المناسبات وسط بحر من الآراء الفاشية التي تنهال علينا باستمرار، هو "أهل ذمة" يحيا في المجتمع بناء على أريحية الجماعة وتسامحاً منها، وليس على أساس شراكة وطنية تقوم على مساواة حقيقية بين أفراده، وليست مساواة مدعاة سرعان ما يتم تفريغها من مضمونها.
إذا كان ذلك كذلك ونحسبه يقيناً هكذا، فإن أي تحالف أو ائتلاف أو حتى قبول لهذه الجماعة (وليس كأفراد لهم ذات حقوق الجميع) يعد حماقة أو تهريجاً تخريبياً لأي محاولات لتوافق حقيقي للمجتمع. . كما يعد الأمل في قبول هذه الجماعات الدينية "للحد الأدنى للتوافق المجتمعي" وفقاً لمعايير المجتمعات والدول الحديثة، هو بمثابة أمل في أن تتخلى تلك الجماعات عن هويتها وأفكارها وكل ما تمثله، وهذا إن حدث سيكون أمراً مفرحاً وباعثاً على الاطمئنان على مستقبل شعوب المنطقة. . لكن هذا الاقتناع أو التوافق المرجو لا يكون بتصريحات صحفية في مناسبات احتفالية، أو ببرنامج حزب يخفي كل المقصود، ويظهر غير المقصود أو المعني به، لكنه لابد وأن يتم بمراجعة وفرز وتنقية مرجعيات هذه الجماعة، والتراث الفكري الذي ترتكن إليه في بنائها الفكري، مثل التراث التكفيري لسيد قطب وغيره.
على النقيض من هذا التقصير أو فشل الجماعات الدينية المتأسلمة في الإقرار "بالحد الأدنى الحتمي" نجدها تتوسع في محاولة فرض توافق قسري على أفراد المجتمع، تدخلاً في الحياة الشخصية لأفراده، دونما حاجة لتدعيم انسجام العلاقات المجتمعية، لتسلب هكذا الفرد حريته في الاختيار في أمور تمس صميم حياته الشخصية، ومنها المأكل والمشرب والملبس، بل وأيضاً تقيم من نفسها وصياً على علاقة الإنسان بربه، وهو الأمر غير الموجود من الأساس في الدين الإسلامي. . هي تمارس هيمنة تتضاءل بجانبها كل ما شهدته البشرية من نظم شمولية، وتقدم نفسها وأفكارها لا على أنها اجتهادات بشرية قابلة للخطأ والصواب، ولكن على أنها الدين ذاته، ليكون المعارض لها خارجاً على صحيح الدين، أو منكراً للمعلوم من الدين بالضرورة.
لا يشمل التوافق المجتمعي المرجو لمصر الثورة إذن تلك الجماعات بمنظومتها الفكرية، وإن كان لابد لحزمة المواطنين المصريين المتوافقين أن تضم أعضاء تلك الجماعة ومناصريها، وذلك بصفتهم الشخصية كمصريين لهم ذات الحقوق وعليهم ذات الواجبات التي لكل أفراد المجتمع، ولهم أن يحتفظوا بمرجعيات دينية أو أيديولوجية، تأتي في الدرجة التالية للتوافق على ذلك الحد الأدني اللازم لتماسك المجتمع، ولا تتعارض معه في أي من تفصيلاته، وإلا عد هذا التعارض خروجاً على المجتمع والدستور والقانون.
نحن إن كنا نبحث الآن استبعاد أعضاء الحزب الوطني المنحل من المشاركة السياسية، وهم ليسوا أهل فكر أو أيديولوجية موحدة، وإنما فقط يجمع بينهم الفساد والإفساد المنسوب إليهم، يكون من الأولى والأجدر بنا تجريم فكر جماعة الإخوان المسلمين وكل الجماعات السائرة بركابها بمختلف درجات تشددهم. . فإذا كان العالم الغربي يجرم النازية ومعاداة السامية، فإن فكر تلك الجماعات لا يعادي السامية فقط، وإنما يعادي القبيلة الإنسانية بمختلف أصولها وأطيافها، وكما رأيناه قبلاً في أفغانستان يعادي ذاته، حين انخرطت الجماعات المتسمية إسلامية في القتل والاقتتال بين بعضها البعض.
لو ذهبنا بعد ذلك إلى ما هو أبعد من "الحد الأدنى للتوافق المجتمعي"، فإنه من المفيد أن نختلف ونتفق، كما يمكن عقد الائتلافات المؤقتة، والتحالفات طويلة الأمد، فترحيبنا بالتنوع لا يعني السعي للتشرذم، كما لا يجب أن نذهب باتجاه التوحيد إلى حد فرض صورة عامة ونمطية على الجماعة الوطنية، كتلك التي سبق فرضها بعد انقلاب يوليو، باسم مصالح الجماهير، وفق ثنائية الشعب وأعداء الشعب.
نأمل أن تكون السطور السابقة قد أزالت بعض الضبابية أو الغموض حول تساؤلاتنا التي بدأنا بها المقال، وأن لا تكون قد فاقمت تعقيدها أو زادتنا اختلافاً حولها.

 

اجمالي القراءات 8216