الفصل الثانى : خرافة البدوي

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٢ - مايو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

تعاملنا في الفصل الأول مع " حقيقة البدوي " كداعية سري استغل التصوف ستاراً لهدف سياسى وحين فشل اضطر للاستمرار فى حمل راية التصوف للنهاية .. وموعدنا فى هذا الفصل مع " خرافة البدوي" ، فعن طريق التصوف ارتسمت للبدوي صورة أبعد ما تكون عن الواقع التاريخي أو حتى الواقع البشري . فالكتابات الصوفية عن البدوي تضاءلت فيها صفات البشر بقدر ما ظهرت فيها سمات التأليه ..

ومن نافلة القول أن نذكر أن حقيقة البدوي كداعية سري لم تظهر فى تلك الكتابات الصوفية إلا فى صورة منامات وإيحاءات ورموز ، وبمرور الزمن وكثرة الأتباع وانتشارهم  تسرب البدوي للعقل المصري  بالصورة التى رسمها أعوانه من الشيعة المتصوفة . وقد وجدت صورة البدوي تلك مكانة هامة فى الوجدان الشعبي الذى يحفل بالكرامات ويعشق الأساطير ويردد الأقاصيص , حتى إن الشعرانى فى ترجمته عن البدوي يقول "وشهرته فى جميع أقطار الأرض تغنى عن تعريفه[1]" أى أصبحت الأقاصيص الشعبية عن البدوى مصدرا يأخذ عنها الشعراني وغيره فى التأريخ للبدوي .

ولسنا فى مجال التمحيص لشخصية البدوي فى التراث الشعبي ولكننا نقرر أن الوجدان الصوفي حوّل شخصية البدوي التاريخية إلى " خرافة" فى اعتقاد الناس ، خرافة تحول بها البدوي من داعية مجهول إلى ولي معلوم ، ومن إنسان وبشر إلى إله، ومن تراب ورفات إلى ضريح ووثن.ويتحمل الصوفية الشيعة هذا الوزر أمام الله تعالى فقد ضلوا وأضلوا . ثم توالت الأيام وينشأ الجيل بعد الجيل فيجد تقديس البدوي فى أزدياد فلا يسعه إلا التسليم وإلا اتهم بالخروج على ما تعوده الآباء والأسلاف ، وتحولت " الخرافة " إلى " قداسة " لا يصح أن يقترب منها عقل أو علم إلا بحذر وتخوف .

ولكن هل يدوم الحال ؟.. طبعا لا ، فدوام الحال من المحال ،وقد كانت دولة البدوي فى أوج ازدهارها حين كان الناس فى حضيض التأخر والجهالة ، ثم تأثرت دولة البدوي تدريجيا بالصحوة العقلية والنهضة العلمية ، ومع كل ازدياد فى رصيد العلم والعقل يتضاءل حظ البدوي والصوفية من التقديس وتنقشع سحب من الخرافة ، ولا أدل على هذا الرأى من أننا لو قرأنا الآن ما كتبه السابقون فى القرون التاسع والعاشر وما يليها عن البدوي لما استطاع عقلنا أن يهضم كتاباتهم لأنهم يعبرون عن عقيدتهم فى البدوي وغيره من الصوفية. وهناك مثل آخر ، ففى عصرنا هذا نجد البيئات الشعبية حيث يعم الجهل وتقل حركة التطور – نجدها أكثر احتفالاً بالبدوى والصوفية من الأوساط الراقية والمثقفة ، فكلما ازداد العلم والثقافة كلما تضاءلت الخرافة وأصحابها.

وبعد.. فعلينا الآن أن نبحث "خرافة البدوي " من وجهة النظر الدينية ومصادرنا الأساسية تتمثل فى القرآن الكريم الذى نحتكم إليه ونعول عليه ثم فى كتابات الصوفية أنفسهم عن البدوي طبقاً لنظرتهم إليه واعتقادهم فيه ، وهو ما نعتبره خرافة تستحق وقفة للمناقشة ليظهر الحق مهما كان مؤلماً ويدحض الباطل مهما كان عالي الصوت ، والباطل مهما دامت دولته فهى قصيرة لا تصمد أمام أنوارالحق وآيات الله تعالى فى كتابه العزيز. وقد آن الأوان بعد قرون من التضليل والجهالة أن تزول الخرافة وأن تطهر منها عقول الناس رحمة بهم من أكاذيب وإفك مفترى يضل الناس عن طريق الله الواضح المبين ويحبط أعمالهم الصالحة ويقعد بهم عن التطور الخلاّق فى دنيا الحضارة ، كما يحرمهم رضا الله تعالى الذى ينهى عن تقديس غيره من بشر وحجر حتى لو كان ذلك البشر هو البدوي ولو كان ذلك الحجر هو ضريحه.

 لقد جعل الصوفية الشيعية من البدوي ولياً لله تعالى ، وهذه خرافة، وجعلوه إلها متصرفاً فى ملك الله تعالى وعالما للغيب وهذه خرافة أخرى ، ثم قصدوا البدوي بالعبادة من صلاة وحج وتوسل ونذور وموالد ، وكلها تجسيد لخرافة البدوي الإله فى نظرهم ، ثم بالغوا ففضلوا البدوي على الله تعالى فى التقديس والعبادة ..وهذا أفك مفترى وغلو ربما لم يقع فيه المشركون السابقون ، ثم اتبعوا خرافاتهم فى البدوى بتأويلات "خرافية" تسمح لهم بالانحلال الخلقى فى الموالد وغيرها. وقد يسأل سائل ، وما ذنب البدوي إذا انحرف أتباعه ؟ وقد أجبنا على هذا فى ختام الفصل .

 

أولا : هل يعتبر البدوي ولياً لله تعالى ؟  ومن هو ولي الله ؟

ولنبدأ بأجابة السؤال الثانى ( من هو ولي الله ؟) ففيه الأجابة على السؤال الأول ، يقول تعالى ﴿أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (يونس 62: 64). فولي الله تعالى موصوف بالإيمان والتقوى، وفى آيات أخرى يقول الله تعالى عن اتصاف الولى بالتقوى ﴿وَاللّهُ وَلِيّ الْمُتّقِينَ﴾ (الجاثية 19). ويقول ﴿إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاّ الْمُتّقُونَ﴾ (الأنفال 34) وفى الآية الأخيرة جرى الأسلوب بالقصر أى أن الله تعالى لا يوالى إلا من كان تقياً. ويقول تعالى عن اتصاف وليه بالإيمان ﴿وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (آل عمران 68) ويقول ﴿واللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ﴾ (البقرة 257).

ومعنى ذلك أن ولي الله تعالى لابد أن يتصف بصفتين أساسيتين هما الإيمان والتقوى، وإذا حللنا هاتين الصفتين فى القرآن الكريم لتعرفنا على سمات الولي فى المنظور القرآنى وهى:

1- العمومية: أى صفات عامة: ومعناها أن الإيمان والتقوى صفات عامة لا يختص بها شخص بعينه أو جنس محدد أو طائفة خاصة، وإنما هى صفات مطروحة أمام البشر جميعاً فى دنيا التعامل ومطلوب من بنى آدم كلهم أن يتحلوا بها عرباً كانوا أو عجماً، أغنياء أم فقراء، رجالاً أو نساءاً، صغاراً أو كباراً، من أتباع محمد أو عيسى أو موسى عليهم السلام أو غيرهم.

فعن الإيمان يقول تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالنّصَارَىَ وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (البقرة 62) أى أنه بغض النظر عن الأسماء والطوائف فكل من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فجزاؤه جزاء أولياء الله تعالى الذين ﴿َلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾. ونظير ذلك ما يقوله تعالى عن أتباع الرسل جميعاً ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأنعام 48)، أى أنه من آمن وأصلح من جميع أتباع الرسل فهو من أولياء الله تعالى الذين ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

والتقوى: أيضاً مطالب بها بنو آدم جميعاً منذ أنزل أبوهم آدم إلى الأرض، يقول تعالى ﴿يَابَنِيَ آدَمَ إِمّا يَأْتِيَنّكُمْ رُسُلٌ مّنكُمْ يَقُصّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتّقَىَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ (الأعراف 35). فلابد لبني آدم جميعاً من الاتصاف بالتقوى ليكونوا من أولياء الله الذين ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.ويقول تعالى للناس جميعاً ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مّن نّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء 1)، ويقول ﴿يَأَيّهَا النّاسُ اتّقُواْ رَبّكُمْ إِنّ زَلْزَلَةَ السّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ (الحج 1)، وفى سورة الشعراء كان كل نبى يدعو قومه فى كل عصر بكلمة واحدة هى ﴿فَاتّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ ويقول تعالى لأمة محمد ﴿وَلَقَدْ وَصّيْنَا الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيّاكُمْ أَنِ اتّقُواْ اللّهَ﴾ (النساء 131). فالمؤمنون المتقون هم أولياء الله فى كل عصر..

2- العرضية:أى أنها صفات تقبل الزيادة والنقص، أى ليست صفات لازمة للمرء طيلة حياته، بل تتغير زيادة ونقصاً حسب الصراع القائم فى داخل الإنسان بين الخير والشر، بين الهوى والخشية، بين الشيطان الذى يوسوس والفطرة السليمة التى فطر الله الناس عليها، والعصمة لله وحده وللرسل فيما يوحى الله إليهم به، وقد خلق الله تعالى النفس البشرية وسواها على أساس الفجور والتقوى وقدم الفجور فيها على التقوى فقال ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس 7: 8). وصراع الشيطان مع الفطرة السليمة فى المؤمن مستمر باستمرار الحياة، وبينما تكون السيطرة الكاملة للشيطان على الكافر فإن المؤمن يظل فى صراع مع الشيطان فى داخل نفسه، وهذا الصراع قد ينجم عنه بعض زلات ومعاص فيسارع المؤمن بالاستغفار والتوبة، وقد يخرج منه منتصراً على هواه وغرائزه وحينئذ يكون تقياً.

يقول تعالى عن سيطرة الشيطان على المشركين دون المؤمنين ﴿إِنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَىَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَىَ رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ. إِنّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىَ الّذِينَ يَتَوَلّوْنَهُ وَالّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ﴾ (النحل 99،100)، ويقول ﴿إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاّ مَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ (الحجر 42). ويزيد من حدة الصراع فى داخل المؤمن أنه متفاعل مع البيئة، مطالب ـ ليس فقط بمراعاة التقوى فى نفسه أثناء تعامله مع خضم الحياة- ولكن مطالب أيضاً بأن يؤثر فى مجتمعه بالخير، ومن الطبيعى وهو بشر غير معصوم أن تؤثر فيه بعض المحن وأن يستسلم حيناً للهوى وحظ النفس وحيل الشيطان. وحين يقع فى حبائل الشيطان فلن يكون تقياً، وحين يسارع بالتوبة والندم يكون تائباً، وحين ينجح فى السيطرة على نفسه وغرائزه وينجو من الوقوع فى الإثم يكون تقياً نقياً، وتلك مجرد حالة من حالاته. وهكذا، فإيمانه وتقواه فى حالة تغير مستمر وارتفاع وانخفاض طالما بقى حياً.

يقول تعالى عن الإيمان كصفة قابلة للزيادة والنقص ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً﴾ (الأنفال 2) ﴿فَأَمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (التوبة 124)، وما يقبل الزيادة يقبل النقص، فيقول تعالى عن المعاصى وكيف أنها تذهب الإيمان ﴿كَلاّ بَلْ رَانَ عَلَىَ قُلُوبِهِمْ مّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (المطففين 14). والمؤمن إذا وقع فى المعصية - ولابد أن يحدث هذا- فسارع بالتوبة وعزم على ألا يعود  فيكون حينئذ ضمن المتقين طالما بر بوعده وأقلع، يقول تعالى ﴿وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوَاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلاّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرّواْ عَلَىَ مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْملُونَ﴾ (آل عمران 135). فجعل من صفات المتقين المسارعة بذكر الله إذا وقع فعلاً فى معصية والعزم الصادق على ألا يصر على فعل المعصية.

فالتقوى حركة مستمرة باستمرار الحياة يقويها فى نفس المؤمن الاستمرار فى ذكر الله تعالى، ومعنى أن يداوم على ذكر الله أن يخشاه ﴿إِنّ الّذِينَ اتّقَواْ إِذَا مَسّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشّيْطَانِ تَذَكّرُواْ فَإِذَا هُم مّبْصِرُونَ﴾ (الأعراف 201)، وليس معنى ذلك أن المؤمن ملتزم تماماً بذكر الله تعالى، فليس معصوماً وإنما بيّن الله تعالى لأتباعه الوسائل الكفيلة بمحاربة الشيطان الذى يجرى فى نفوسهم مجرى الدم  فى الجسد ، والنفس قد خلقت على الفجور والتقوى، وتتركز هذه الوسائل فى ذكر الله تعالى واستغفاره، حتى يضمن لنفسه أن يخفف بقدر الإمكان من ذنوبه ومعاصيه حتى إذا انتهت حياته كانت النتيجة النهائية فى صالحه.

3- صفات غيبية:أى لا يعلم حقيقتها إلا الله وحده، فالإيمان والتقوى صفات قلبية وسبحان من ﴿يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصّدُورُ﴾ والمظهر خداع، بل ربما يكون أكثر الناس تظاهراً بالإيمان هو أكثرهم رياءاً ونفاقاً، فالإيمان تعامل خاص بين العبد وربه المطلع وحده على السرائر، والتقوى أكثر من الإيمان خفاء وسرية، لأنها تشمل حديث النفس، ومحاربة الهوى الكامن فى الغرائز وتلك أمور بالغة الخصوصية لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.

والنبى عليه السلام كان لا يعلم الغيب ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسّنِيَ السّوَءُ﴾ (الأعراف 188). ولذلك فإنه لم يعلم بحقيقة النفاق لدى بعض الناس فى المدينة ﴿وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مّنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ﴾ (التوبة 101).وإذا كان هذا هو الحال فنحن أولى بالجهل بحقيقة اتصاف البعض منها بالإيمان والتقوى، وفى ذلك يقول تعالى ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مّن بَعْضٍ﴾ (النساء 25)، ويقول للرسول والصحابة فيمن أسلم من المؤمنات المهاجرات ﴿فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ﴾ (الممتحنة 10). ويقول فى الهداية والتقوى ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (القصص 56) ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ﴾ (النجم 32)، ويقول ﴿رّبّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ﴾ (الإسراء 25).

وهكذا فالإيمان والتقوى صفات قلبية اختص تعالى نفسه بمعرفتها ولم يطلع عليها أحداً من البشر حتى الرسل المكرمين ، فنحن لا نستطيع أن نحكم على إيمان شخص ولا نستطيع تبين درجة تقواه، فكل ذلك غيب عنا، وسبحان من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور.

4- ثم إن المؤمن الحق يتهم نفسه ولا يزكيها ولسان حاله يقول: ﴿وَمَآ أُبَرّىءُ نَفْسِيَ إِنّ النّفْسَ لأمّارَةٌ بِالسّوَءِ إِلاّ مَا رَحِمَ رَبّيَ إِنّ رَبّي غَفُورٌ رّحِيمٌ﴾ (يوسف 53). والمؤمن الحق ملتزم بطاعة الله تعالى القائل ﴿فَلاَ تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ﴾ (النجم 32). والمؤمن الحق يأبى على نفسه أن يتابع بعض اليهود الذين زكوا أنفسهم فاستحقوا نقمة الله حين قال فيهم ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يُزَكّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللّهُ يُزَكّي مَن يَشَآءُ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً. انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ وَكَفَىَ بِهِ إِثْماً مّبِيناً﴾ (النساء 49،50). فمن زكّى نفسه ووصفها بالإيمان الكامل والتقوى الخاشعة فقد تشبه بالعصاة من اليهود وصار أبعد عما يدعيه، ناهيك بمن يدعى الولاية ليضل الناس فى دينهم ويجعل من نفسه واسطة بين الله وخلقه.. وذلك موضوع آخر .

والمهم أن الولاية صفات عامة للناس جميعا ولا يعلم حقيقة الأتصاف بها إلا المطلع على ما تخفيه الصدور ثم هى صفات عرضية غير لازمة تزيد وتنقص حسب العمل الصالح والنية والصراع المستمر بين الخير والشر فى كل أنسان .

وعلى ذلك فلن يوجد- بعد الأنبياء- شخص بعينه على أنه ولى لله.. لأن هذا الشخص لابد أن يقع فى معصية، وحين يعصى تنتفى عنه صفة التقوى فتنتفى عنه صفة الولاية، ثم إن الإنسان طالما بقى حياً يرزق يسعى ويكافح، يناضل فى الحياة بيده ولسانه وجوارحه فسجل أعماله مفتوح،وأعماله تترواح بين الطاعة والمعصية ، ولن يكون حسابه الختامي إلا بنهاية حياته، شأنه فى ذلك شأن الطالب فى الدراسة فهو بين مذاكرة أو لعب، لا يمكن أن يحكم عليه حكماً قاطعاً إلا حين تظهر نتيجة الامتحان. وإذا صح أن يوصف إنسان فى موقف معين بالتقوى- على فرض أننا تيقنا من سريرته- فمن يدرينا بمستقبل حياته، وهو مجال مفتوح لا ندرى بما سيحدث منه فيه.

بيد أن هناك لحظة على مفترق الطرق فى حياة الإنسان قبل أن يدخل إلى عالم الموت حين تقبض نفسه، لحظة تعدل الحياة بأسرها، لحظة يتذكر الإنسان فيها ما سعى، يتوقف لسانه وتتعطل جوارحه ويرى قبيل موته نتيجة سعيه فى الدنيا، حينئذ يعرف مكانه بين الجنة والنار. فالمؤمن يبشر بالجنة وأنه لا خوف عليه ولا حزن، والكافر يرى سوء عمله ماثلاً فى مكانه فى النار.فالملائكة تنزل على المحتضر فى لحظة انطوى فيها سجل أعماله فلم يعد بمقدوره أن يزيد من عمله أو ينقص منه باليد أو باللسان، يحيط به أهله لا يستطيعون له شيئاً ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ. وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ. وَنَحْنُ أَقْربُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَـَكِن لاّ تُبْصِرُونَ﴾ (الواقعة 83: 85).

يقول الله تعالى ﴿إِنّ الّذِينَ قَالُواْ رَبّنَا اللّهُ ثُمّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ﴾ (فصلت 30،31)، فالملائكة تنزل على من أمضى حياته كلها مؤمناً مستقيماً فتبشره ساعة النزع وتقول ﴿وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنّةِ الّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ﴾ أى التى كنتم توعدون بها فى سابق العهد من الدنيا، وفى هذا الموقف بين الدنيا والآخرة بين الحياة والموت تقول لهم ﴿نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي الاَخِرَةِ﴾. وفى آية أخرى يقول تعالى ﴿الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (النحل 32) وقبلها يقول عن الكفرة ﴿الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ.. فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ..﴾ (النحل 28،29) أى الملائكة تعرض على المؤمن مقعده من الجنة ويكون حينئذ ولياً لله تعالى ﴿اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مّنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ..﴾ وتعرض على الكافر مقعده من النار ويكون حينئذ من أولياء الشيطان ﴿وَالّذِينَ كَفَرُوَاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ..﴾ (البقرة 257).

تلكم هى البشرى التى يتلقاها المؤمن حين النزع وهذا هو المقصود بقوله تعالى ﴿أَلآ إِنّ أَوْلِيَآءَ اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. الّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَىَ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾.

نخلص مما سبق إلى أنه لا يوجد فى الحياة الدنيا ولي الله تعالى كشخص، وإنما الولاية لله صفات عامة تزيد وتنقص ولا يعلم حقيقتها إلا علام الغيوب.. وإذا طبقنا ذلك على البدوي لاستحال أن نحكم عليه لأننا لا نعلم سريرته وحقيقة تقواه أو إيمانه، ثم أننا إذا كنا لا نستطيع أن نحكم حكما صادقاً على شخص بيننا نعامله ونحتك به فكيف لنا أن نحكم على سريرة شخص هو أقرب للأسطورة منه إلى الواقع التاريخى . بل إن ما وصل إلينا من سيرته وأقواله يخرجه عن الإسلام .والواقع أن التصميم على أن البدوي ولي لله تعالى ، وأنه حاز الكمال فى الصفات والأفعال ، وأنه واسطة بين الله وخلقه ، والواقع أن هذه الأدعاءات كلها تدخل ضمن موضوع آخر هو (ولي الشرك) فالبدوي تنطبق عليه سمات الولى فى عقيدة الشرك كما وضحها القرآن الكريم .

البدوي كولي للشرك

اهتم القرآن الكريم بقضايا العقيدة فأوضح العقيدة الإسلامية أيما إيضاح وفصل القول فى عقائد المشركين أيما تفصيل ، وفى هذا التفصيل كان يتحدث بصيغة العموم ، وبالصفات التى تنطبق على كل مجتمع فى أى زمان وأى مكان ، فلم يقل مثلا " يا مشركي مكة" أو " يا كفار العرب" وإنما قال " الذين أشركوا " " الذين كفروا".فالإسلام هو الدين الالهى ، والقرآن الكريم هو رسالته الخاتمة ، وهو الآية أو المعجزة الباقية للإسلام إلى قيام الساعة، وفى القرآن توضيح لكل عقائد المشركين مهما تخفت خلف أسماء وصفات وألقاب ، فكلهم فى كل زمان ومكان " الذين أشركوا" و" الذين كفروا" . والإسلام والشرك فى صراع مستمر طالما بقيت الحياة. وطالما ظل الشيطان يسرى فى دم الإنسان يزين له سوء عمله فيحسبه حسناً ويعتقد أنه على شىء أو أنه على الحق . ومع أنه لو رجع إلى القرآن الكريم مخلصاً فى طلب الهداية لوجد القول الفصل.

فالقرآن الكريم أبان الحديث عن( ولي الله ) وأنه صفات لا يمكن أن تنطبق على شخص بعينه أو أن تلزمه لزوماً دائماً حتى يعرف به، وأن الولاية لله صفات عامة لمن شاء أن يؤمن ويتقي وهى صفات عارضة حسب مجاهدة الشيطان والنفس التى ألهمت الفجور والتقوى ، وأنه لا يمكن لبشر أن يحكم على إيمان إنسان ما أو تقواه ، فمرجع ذلك لله وحده علام الغيوب ، كما لا يمكن لأى شخص أن يزكي نفسه أو غيره بالتقوى فذلك اجتراء على علم الله تعالى وكفى به إثماً مبينا .

ويجرنا ذلك إلى حديث القرآن الكريم عن النوع الآخر من الأولياء ، ألا وهو (ولي الشيطان) . وطالما يصر الصوفية على جعل البدوي وليا لله فليس أمامنا خيار فى التحقق من هذه القضية إلا بالرجوع لكتاب الله تعالى ، فالله تعالى وحده هو صاحب الشأن فى الفصل فى هذه القضية – وقد أوضح فى كتابه العزيز ملامح الولي فى الإسلام ، وقد عرضنا لها ، وظهر لنا أنها لا تنطبق على البدوي أو أى شخص بعينه ، فلم يبقى لنا إلا النوع الآخر وهو حديث القرآن الكريم عن ولي الشرك أو الولي الذى يتخذه الناس من دون الله لنرى كيف ينطبق النوع الآخر على البدوي .

ونقطة البداية الفاصلة بين (ولي الله) و( ولي الشرك) تتمثل فى أن المسلم الحق كما لا يزكي نفسه فلا يزكي غيره أو لا يزكي على الله أحداً ، وقال تعالى لنبيه ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) الأحقاف :9 ، فالرسول الخاتم عليه السلام لا يفضل نفسه على من سبقه من الأنبياء وتزكية النفس أو الغير ممنوعة يقول الله نعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلْ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50))النساء  ، فالصوفية أشبهوا اليهود حين ادعوا أنهم أولياء الله من دون البشر جميعا فكان جزاؤهم أن قال تعالى لهم متحديا " قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ "الجمعة : 6 ، واشبهوا مشركي قريش وقد ادعوا أنهم أولياء الله لقيامهم على بيته الحرام فقال تعالى فيهم " وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ" . الأنفال : 34.

إن للصوفية عادة سيئة تتمثل فى بدء كتبهم بتزكية أوليائهم وإضفاء شتى المناقب والمحامد إليهم ونسبتهم لله تعالى جرأة على الله تعالى واستخفافا بشرعه وتهاونا بأوامره وتدخلا فى إرادته ، فسبحانه وتعالى وهو الفعال لما يريد لا يسمح لأحد من خلقه أن يتدخل فى إرادته فيدعى أنه يحب هذا من دون خلقه ، وهو تعالى لم يعطنا علمه ولم يصرح لنا أنه اختار فلاناً هذا وحده دون الناس جميعاً .. وهنا مكمن الخطورة .

  • فإتخاذ أولياء لله من دون أمر الله أو اختياره أو تعيين منه فيه افتراء على الله وظلم عظيم لله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
  • فهو اجتراء على علم الله تعالى،فالصوفية يدعون أن الله قد أطلعهم على علمه وعلى من يختاره من بين عباده وأنه اختارهم دون غيرهم ، واختار البدوي من دون أقرانه، مع أن الله لم يطلع أحداً على علمه فهنا اجتراء وافتراء.

(ب )وهو تدخل بشع فى اختيار الله تعالى وادعاء بالتسلط على إرادته وفرض لأهوائهم على مشيئته حيث يختارون بأنفسهم ما يشاءون من أولياء ،ويجعلون أنفسهم الأوصياء على الله يختارون له الأولياء الذين يريدون زاعمين أن تلك إرادته فيسلبون منه الاختيار فى شىء يتعلق بذاته وجلاله. والمؤسف أن أحداً من البشر لا يرضى لأحد أن يتدخل فى حريته فيعين له من يحبه ومن يختاره صديقاً أو حليفاً ، ومن عجب أن الله تعالى وهو الخالق المسيطر ترك الحرية للإنسان فى أن يحب من يشاء ولم يتدخل فى أعمال القلوب، ولكن الصوفية والمشركين تدخلوا فى إرادة الله تعالى واختياره ففرضوا عليه ما يشاءون من أولياءهم وزعموا أن ذلك اختيار الله وإنهم المتحدثون باسمه.

2ـ واتخاذ أولياء من دون الله- والإدعاء بأنهم أولياء الله الذين اختارهم – فيه وصف لله تعالى بالعجز والجهل والظلم – تعالى عن ذلك علواً كبيراً. فكأنهم وصفوه بالعجز حيث أوكل للصوفية اختيار أولياء له يتحكمون فى ملكه من دونه ، فلم يجعلوا له شأناً لا فى الاختيار ولا فى التصريف.وكأنهم وصفوه تعالى – بالجهل- حيث لم يستطيع أن يميز من يستحق الولاية فى مخلوقاته فلجأ إليهم وإلى علمهم ليختاروا له ثم رضى باختيارهم.وكأنهم وصفوه تعالى – بالظلم- حيث فضل نفرا من خلقه وجعل لهم اختصاصات ومميزات فى الدنيا والآخرة وحرم منها الآخرين بدون وجه حق، وبدون معيار ثابت فى الاختيار أو حرية أو فى تكافؤ الفرص أمام البشر جميعاً ، وتلك صفات لا يرضى  مخلوق أن يوصف بها . فكيف بالله تعالى ، لذا فإن الله تعالى كثيرا ما يقول " سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ " " فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ" " وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ .." النحل :62 وصدق الله العظيم حقاً وهو القائل:"إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ " وحقاً أنهم ما قدروا الله حق قدره ، وحقاً أنهم أساءوا الظن بالله تعالى " وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً" الفتح :6.

فالله سبحانه وتعالى له مطلق الإرادة فى الاختيار" إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ "المائدة:1 "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ" هود :107 "إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " الحج :14. والله تعالى بإرادته المطلقة يمنّ على من يشاء من عباده بفضله وفقا لعدله وتكافؤ الفرص امام البشر وحريتهم فى مشيئة الايمان والعمل الصالح ، فمن يريد الهداية يمنّ الله جل وعلا عليه بالهداية ، ومن يشاء الضلال يتركه للشيطان يزده ضلالا. وفى كل الأحوال يستحيل عقلاً ونقلاً أن تملي عليه طائفة من خلقه أهواءها " قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)" آل عمران  " وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ " إبراهيم :11 " نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ " يوسف: 76 ، فالمشيئة راجعة إليه وحده فى الاختيار والتخصيص فهو الخالق المسيطر على خلقه " وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ  " القصص :68.

وبعد الأنبياء الذين يختارهم بالاصطفاء فإن الله تعالى راعى العدالة وتكافؤ الفرص فى اختيار أوليائه وترك المجال مفتوحاً لخلقه جميعاً فجعل أكرمهم عنده أتقاهم " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ " الحجرات : 13 . وفى نفس الوقت جعل المشركين فى الدرك الأسفل بين مخلوقاته مهما ارتفعت لهم القباب وزينت لهم الأضرحة ، يقول تعالى : " إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ" الأنفال " 22، 55، وتأمل قوله " الدواب" أى كل ما يدب على الأرض ، شرهم جميعاً المشركون الذين يتدخلون – بزعمهم- فى إرادة الله ويفرضون أهواءهم عليه ويقولون مثلاً – أن البدوي هو ولي الله أو اللات والعزى أولياء الله .. كمجرد مثال.

لقد أصدر الصوفية – وأتباعهم من العامة- فرماناً بتعيين البدوي ولياً لله تعالى ، دون استشارة صاحب الشأن – وهو الله تعالى – ودون أن ينتظروا تفويضاً منه بأن يختاروا  له وليا أو أولياء . واتبعوا الفرمان السابق بفرمان آخر جعلوا فيه البدوي واسطة بين الناس والله ، وتأسيساً على ذلك الفرمان فإن الصوفية وقطيع العامة يولون وجوههم شطر البدوي متوسلين متبركين من دون الله ، وتوجهوا  له بالتقديس والعبادة التى ينبغى ألا يتوجهوا بهما إلا لله وحده .واتخاذ البدوي وليا لله جل وعلا - وهو عبد من عبيد الله بدون تفويض من الله هو نفس ما يفعله المشركون في كل عصر وأوان وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعآ، يقول تعالى : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104)). الكهف.

ونسى أولئك أن الولي المقصود بالتقديس والعبادة لا يكون إلا الله.. فالله هو الولي المعبود ولا ينبغي للمؤمن أن يتخذ ولياً غيره. يقول تعالى(أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)الشورى :9، فالله هو الولى المستحق وحده للعبادة والتقديس ، أما هذه الأولياء فلا تنفع ولا تضر ولا تسمن ولا تغنى من جوع.

والمؤمن يكتقى بالله ولياً : "وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيراً " النساء 45 " أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا" الأعراف : 155، والمؤمن يعتقد أن الله الولي يكفيه فهو مالك السموات والأرض فلا يخشى ادعاءات المشركين حول تصريف أوليائهم المزعومة" أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ؟ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ " الزمر :36.

لقد جعل الصوفية وأتباعهم من البدوي ولياً كامل الألوهية ولا سند لهم إلا الافتراء والكذب والزيف ، وهم لا يدرون أنهم بذلك يحققون إعجازاً للقرآن الكريم الذى فصل عقائد الشرك قبل التصوف بقرون ، فجاء أولئك يكررون مقالة السابقين ويحكمون على أنفسهم بالشرك وآيات القرآن الكريم تثبت ذلك . أليس الذكر الحكيم حجة على  كل منحرف مهما توارى خلف أسماء وشعارات؟؟


[1]) الطبقات الكبرى ، 1158.

 

اجمالي القراءات 12545