هنا القاهرة .. لكنني لا أُصَدِّق!

محمد عبد المجيد في الأحد ٢٤ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

بعضُ الأحلامِ تطاردك، فإذا حاولتَ لمسَها اكتشفتَ أنها بعيدةٌ بـُعْد المغربيّن! وبعضُ الأحلام تطاردها، لكنها في الواقع أقربُ إليك من حَبْل الوريد!

عند السفر أسألُ دائماً عن الترانزيت خشيةَ أنْ يكون مطارَ القاهرةِ أو تونس أو عـَمَّان أو دمشق، فضلا عن مطارات أخرى لو لمسَتها قدماي فقد أحكمتُ لنفسي العقدةَ التي لا حَلَّ لها، مثل طرابلس الغرب والخرطوم وبغداد، فالاقتراب منها اختفاءٌ، والابتعادُ عنها ولادةٌ جديدة!

الآن يمكنني السفر إلىَ تونس ومصافحة صاحب (فقد هَرِمْنا .. هرمنا)، أو ذاك الذي هَزَّ الوطنَ العربيَّ برُمَته وهو يصيح بمفرده، ويدور حول نفسِه في قلبِ شارعٍ خالٍ من المارة ( الشعب التونسي العظيم .. بن علي هرب!).

ويمكنني السفر إلىَ بلدي، والتجول في عاصمة العاصمة .. ميدان التحرير، فقد مضتْ إحدى عشرة سنة حَرَمتني خلالها أجهزةُ أمْن الطاغية البائد من زيارة مصر، لأن مبارك وكلابه كانوا يُحددون عشاقَ الوطن وكارهيه، ويضعون قائمةً بالمترقَب وصولهم، والتهمة جاهزة: مناهضة القائد الملهم، وبطل الضربة الجوية الأولى!

كلُّ أحبابي وأصدقائي وأهلي كانوا يُشفقون عليَّ من خسارة معركةٍ لا تبدو لها نهايةٌ، فمبارك كان أكبرَ من الدولة، وأقوىَ من مُعارضيه، ويستطيع أنْ يـُمسك مِصر بين إصبعين من أصابعه، ويحرّكها كبندول الساعة.

وأنا لم أكن أرى، طوال عشرين عاما، غيرَه يستحق دقيقةً من وقتي، ونقطةَ حبرٍ من قلمي، فمعركتي كانت مع الطاغيةِ فقط، فإذا سقط تهاوىَ خادموه، وعبيدُه، وكلابـُه، وحيتانُه، وكلُّ رؤوسِ الفسادِ واللصوصية والنهب.

طرحتُ مراتٍ كثيرةً سؤالاً كانت الإجابةُ عليه دائماً علامةَ استفهامٍ بطول النيلِ من مَنْبعه إلىَ مَصَبِّه: هل سيأتي اليوم الذي أقوم فيه بزيارة بلدي .. أمِّ الدنيا ولا أجد فيها مُباركاً أو أحدَ المقرَّبين منه؟

وعقدتُ (محاكمة الرئيس حسني مبارك)، وجلستُ في الصفِ الثالث في قاعة المحكمة بالقرب من قفصٍ يتكرمش فيه الرئيسُ الطاغية، والقاضي يقرأ علىَ مسامِعه قائمةً بجرائم تجعل إبليسَ يـُسَلِّمه زِمامَ الوسوسة!

ونشرتُ عن (الرجل الذي أحلم به رئيساً لمصر)، وبدا من كَثْرة كتاباتي الشديدة التي غرستها في عيّن المستبدِ أنه ثأرٌ شخصيٌّ، فكان ردّي علىَ السائلين: وهل هناك مصريٌّ شريفٌ ليس بينه وبين هذا المجرمِ ثأرٌ شخصيّ؟

وعندما كنتُ أُهدي كتاباً أو أكثر من مؤلَفاتي إلىَ إعلامي أو دبلوماسي أو مسؤول كان يتبرأ منها أمام الآخرين، إلا القليل، فكتابٌ يتهم مبارك باللصوصية والارهاب وأنه رجلُ إسرائيل في المنطقة هو كتابٌ نجس ينبغي التطهرُ بعد لمسِه، حتى كتبتُ بأنَّ اللهَ لا يقبل صلاةَ مسلمٍ أو قبطيٍّ يؤيد الديكتاتورَ مبارك، فتأكَدَ المنافقون والجبناءُ أنَّ هذا الكاتبَ مجنون.

كنت أبثّ الاثنين معاً: الأملَ في التغيير لأنَّ نظامَ مبارك كان أكثرَ ضعفاً من خُيوط العنكبوت، واليأس من الغضب المصري فيتحول بعد القراءة إلىَ غضبٍ حقيقي علىَ مبارك أو على كاتب السطور.

لكن أحبابي وقرائي كانوا ينسخون كتاباتي في قلوبِهم، ويستعيدونها بين الفيّنة والأخرى، فكتبَ أحدُهم يقول بأنه خرج إلىَ ميدان التحرير بعدما دفعه قلمي دَفْعاً، وعندما ظهر مبارك في خطابه الأخير كأنه لن يرفع يديه من علىَ رقابِ شعبِنا، شحنه التفكير في مقالاتي فرفع الحذاءَ إلىَ أعلىَ فإذا بالأحذيةِ ترتفع كُلُّها في الهواء، وهنا فقط .. سقط مبارك.

كنت أسْعَدَ خَلْق الله كلِّهم، فأحلامي، التي كانت أضغاثاً وهلوساتٍ وكراهيةً غيرَ مُبرَرَةٍ للطاغيةِ، كما زعم كثيرون، يعود إليها شبابُها علىَ أيدي شبابِ الثورة العظيمة، وترسم مصرُ خريطةَ العالم من جديد انطلاقاً من ميدان التحرير، ويرفع الثوارُ الصغارُ رؤوسَ الكبارِ عالياً، وتتجدد دماءُ مصر، وتنصهر الوحدةُ الوطنيةُ في قالبٍ واحدٍ، وينضج المصريون ثلاثين عاماً في أقل من ثلاثة أسابيع، وتصبح الحكمةُ شبابيةً، وتسبق الكرامةُ كلَّ المـَطالب فلا ينجو من الاستدعاءِ للتحقيقِ كبيرٌ أو ملياردير أو صَنَمٌ كان معبوداً، أو وَثـَنٌ كان أكبرَ من الأهرام وأبو الهول و .. النهر الخالد!

قبل أنْ أختار في صفحةِ شركة الطيران على النتّ وِجْهَتي، فرَكْتُ عينيَّ مثنىَ وثلاثَ ورباعَ لأتأكد أنه ليس حُلمَ يقظةٍ في قيلولةِ بعد الظـُهر، فزيارتي الأخيرة عام 2000 تثَبَتَت علىَ أنها فعلا الأخيرة، والخطاب الأول للرئيس الشاب جمال مبارك وعن يمينه أحمد عز وعن يساره صفوت الشريف لم يبق فيه إلا رتوش ليكتمل نقلُ التاج من رأس الأب إلى رأس الابن!

وأخيرا شهقتُ شهقةً حَمَلَت طيفي إلىَ مطار القاهرة الدولي قبل الوصول بوقت طويل، عادت مصرُ إلى خريطةِ الدنيا، والنائبُ العام لا ينتهي من قراءة بلاغ عن لصٍ إلا ويجد أمامه عشرةَ بياناتٍ عن لصوص أخفاهم في مغارتِه كبيرُهم الذي عـَلَّمَهم السِحْرَ والنَصْبَ والاحتيال والدهاء والكذب وكراهيةَ المصريين.

كأن مصر َكافأتني قُبَيّل العودة، بإذن الله، برفع اسم مبارك وزوجته من كلِّ واجهات المؤسسات والمدارس والمستشفيات والمعاهد وغيرها، فاسمٌ تنبذه قلوبُ المصريين لا ينبغي له أنْ يرتفع أمام أعينهم في أيِّ مكان من أرض ثورة 25 يناير.

طبعتُ تذكرة السفر، وقرأتها مرات و .. مرات، وتخيلت قائدَ الطائرة يُعلن هبوطـَها، ويؤكد للركابِ أنَّ مبارك لم يعُد يحكُم مصر، وأنَّ عُتاة الاجرام من مُساعديه ومُستشاريه ومُنافقيه ينامون في العاشرةِ مساءً بعدما يغلق الشاويشُ عليهم أبواباً قد تكون من حديد أحمد عز!

أريد أن أتجول في القاهرة، وأدخل مكتباتها ومقاهيها وألمس شوارعها وتدور عيناي في محجريهما لتلتقط كل شيء تقع عليه، ثم تُخَزّنه في ذاكرةٍ سِعَتُها ما بقي لي من عُمر.

أريد أن أقابل ائتلافَ شباب التحرير، وأشدّ على أيديهم، وأبلغهم أنني كنت مع أكثرهِم قبل أنْ يسقطوا من بطون أمهاتهم، وأنهم كانوا الطاقةَ التي حرَّكت قلمي لأكثر من عقدين، وأنهم الشرعيةُ التي تحـْكُم، وتطالب، وتَقْبَل، وترفض، وتستطيع أنْ تجعل كلَّ يومِ جُمعة مليونيةً تـُفزع الثورةَ المضادة، وتعيد فلولَ مبارك إلىَ جحورها كلما أطلّوا منها ظنّاً منهم أنَّ شبابَ الثورة نام، واستكان، وعاد إلىَ الحياة الطبيعية السابقة.

أريد أن أقابل أحبابي وأصدقائي الذين لم أعرفهم من قبل إلا على النتّ والفيسبوك والمراسلات، ومعظمُهم في عمر أولادي، لكنهم حجزوا أماكنَهم في قلبي ولم ولن يخرجوا منه، فهو مستقرُهم ومستودعهم.

أريد أن أقوم بزيارةِ قبر والدي ووالدتي، رحمهما الله، الذي حُرمت من قراءة الفاتحة أمامه لسنواتٍ طويلة، وأزور الأهلَ والأصدقاء، وأتمشّىَ علىَ الشاطيء في أماكن طفولتي من السيّالة إلى رأس التين، وأُصَلّي الجمعة في أحد مساجد الأنفوشي، ثم أتناول وجبة سمكٍ تـُنعش الذكريات، وتحمل لي معها نسماتٍ تهبّ من المينا الشرقية، فالروح تأتي دائما من ناحية البحر!

أريد أنْ أقضي سهرةً مع من بقي من أصدقاء الطفولة، نتحدث، ونتناقش، ونستعيد ذكرياتنا مع خير جليس في الزمانِ فقد قرأنا في شبابنا لمالك بن نبي ومحمد أسد والغزالي والرافعي وكارليل وماركوز وكولن ويلسون وويل ديورانت وفيكتور هوجو , .. وتحدثنا مئات المرّات عن تلك الكتابات، وكانت السهرةُ الثقافية تنتهي غالباً بمشاهدة فيلم في سينما بلازا أو الهمبرا فهي الأرخص دائما!

ومع ذلك فزيارتي هذه المرّة قصيرة وبمفردي، والقادمة، إنْ شاء الله، أصطحب فيها ابني الأصغرَ ناصر(12عاما) الذي سافر إلى مصر مع والدته عشر مرات بدوني، وفي المرة الأخيرة قرر أن لا يزور بلدَ والديه إلا معهما، وجلس أمام شاشة التلفزيون في أوسلو في حيرةٍ شديدةٍ، طارحاً عليَّ سؤاله الطفولي الغرير وأيضا المنطقي: كيف يموت مبارك وابنه في نفس الوقت حتى يتمكن من السفر معي؟

الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الأحد 8 مايو تهبط في مطار القاهرة الدولي طائرةُ الخطوط الجوية الألمانية، لوفتهانزا. نبضات قلبي تزاد، فرحاً وليس خوفاً. لا أستطيع أنْ أشرح ما يجيش به فؤادي، وما يعتمل في نفسي. الأفكارُ تتضارب، والبهجةُ تختلط بعشرات التوقعات. لا أعرف من سينتظرني فالوجوه الحقيقية غير الوجوه الالكترونية، والواقع غير النتّ.

أقَبّل جبينَ الوطن فغيلانُه وساديوه في مُعتقل (طرة)، وشبابُ الثورة يتولوّن حمايتـَها، وكل جُمعة للتذكير بأنهم حاضرون.

أخرجُ من المطار وأبحث عن وجوهٍ لمْ أرها من قبل، لكنها مألوفة لديَّ كأنني لم أغادرها قط.

هنا القاهرة .. لكنني لا أصدق!

 

 

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو النرويج

Taeralshmal@gmail.com

 

اجمالي القراءات 9792