ف 1 : رابعا قبيل جهودالبدوي فى الدعوة السرية

آحمد صبحي منصور في السبت ١٦ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 نشأته وإعداده:

1 ـ نشأ البدوي بمكة مركز الدعوة "وكان حفظ شيئاً من القرآن وقرأ شيئا من الفقه على مذهب الإمام الشافعي " . ومعنى أنه حفظ "شيئا من القرآن" وقرأ "شيئاً من الفقه "إن الجانب الأكبر من نشأته انصب على ناحية أخرى يفسرها ما قاله عبدالصمد بعدها "واشتهر بالعطاب لكثرة ما كان يقع لمن يؤذية من الناس "[1].

والواقع إن البدوي اشتهر فى بدايته بالفروسية يقول عنه الشعراني "لم يكن فى فرسان مكة أشجع منه ،و،وكانوا يسمونه فى مكة العطاب "[2]وهذا اللقب أطلقه عليه  أخوه الحسن الذى تولى إعداده ونشأته ، يقول الحسن مفتخراً بصنيعه "ولم يكن فى مكة والمدينة من الفرسان أشجع ولا أفرس من أخي أحمد فسميته العطاب محرش الحرب "[3].

ويبدوأن فروسية البدوي أتت بعد مران عنيف بدأ منذ صغره ،فقد وصف فى رجولته بأنه  "كان بين عينيه جرح جرحه ولد أخيه الحسين بالأبطح حين كان بمكة "[4]. وتفوق البدوي في هذا المضمار فلم يكن فى مكة والمدينة من يدانيه فروسية وشجاعة ، وحق له أن يفخر بذلك على عادة الشعراء الفرسان فيقول[5] 

أنـا أحـمد البـــــــدوي فــــارس مــــــــــــــــــــــكة            وساكن طــــنت فى الملوك  لى العزل

أنا الأسد للقتــــال فى حومة الوغــــــــى           إذا جلـــــت فى الأعــــداء ينهزم الكــــــــــل

أنا صاحب الرمحين فى أرض مكة           لى البأس فى الهيجا إذا حصل الخبل

2 ـ وإلى جانب الفروسية تميز البدوي بالدهاء والنجابة فلفت له أنظار الكبار من أسرته المنهمكين فى التخطيط للدعوة.  وفى هذه الأثناء كان بمكة والمدينة عز الدين الصياد الرفاعي الذى غادر العراق سنة 622 ثم استقر بالمدينة تسع سنوات أحدث  فيها تغييراً هاماً حيث انتقل بالدعوة إلى المدينة وضم إليها حاكمها ابن نميلة وكوّن فيها مدرسة للدعاة تخرج فيها القزويني والسخاوي والأبيدري ،وأنشأ بها زاوية للرفاعية [6].

وعلى ذلك فالمرجح أن يكون عز الدين الصياد الرفاعي هو الذى أشار على الحسن باصطحاب أخيه البدوي ليتعلم أصول الدعوة فى (أم عبيدة ) فى واسط العراق، وكان ذلك سنة 633 أى أثناء وجود عز الدين فى مكة ، لأنه استقر بالمدينة تسع سنوات أى إلى سنة631 . ثم أقام بمكة إلى أن انتقل منها إلى مصر سنة 637 ، فلا شك أن البدوى جذب انتباهه فى مكة وربما بالمدينة قبل ذلك حيث تفوق البدوي فى الفروسية على شباب مكة والمدينة معا .

3 ـ وتغلف الأساطير رحلة البدوى للعراق وفيها ما يرمز للطموح السياسي ..من ذلك ما ورد فى الجواهر السنية "قال سيدي أحمد البدوي .بينما أنا نائم بجوار الكعبة وإذا أنا بهاتف يقول لى فى المنام : استيقظ من نومك يا همام ،ووحّد الملك العلام ..ولا تنم فمن طلب المعالي لا ينام ، فو حق أبائك سيكون لك حال ومقام :واطلب مطلع الشمس..لتحظى بزيارة الأبطال والرجال الكرام ..فاستيقظت من منامي وأنا فى هيامي ، وكانت ليلة الأحد عاشر شوال سنة ثلاث وثلاثين وستمائة،وأخبرت أخي الحسين بذلك ،وكان أخي الحسن أكبرنا سناً وأرفعنا قدراً ...وكان هو الخليفة علينا بعد والدنا ، فقال يا أخى أكتم سرك ولا تبح به ..واعلم يا أخى أحمد إن كل بلاد لها رجال ولكل رجال قطب يحكم عليهم بمشيئة الله تعالى ،وإذا دخل بلادهم أحد من الرجال من أرباب الأحوال أمرهم قطبهم بالرواح إليه فإن كانوا أقوى منه رجّعوه ، وإن لم يتأدب معهم قتلوه وسلبوه ،وإن كان أقوى منهم زجرهم وبددهم ومزق شملهم .ويقع بينهم الحرب والطعن والضرب "[7]فالأسطورة ترمز إلى ما آل إليه العراق فى هذه الآونة ..تلك الحال التى أخرجت عز الدين الصياد عنه ..وحين أرسل البدوي للعراق ليتعلم الدعوة فى أم عبيدة لم يفارقه الخوف الذى تعبر عنه بقية الأسطورة مع أن البدوي كان فارس وطنه ولم يذهب فى رحلته منفردا بل صحبه أخوه الأكبر مرشداً.

وفى الأسطورة كان الرفاعى يأتى للبدوى فى منامه مرشداً سياحياً فى مسالك العراق إلى أن وصلوا أم عبيدة : "وإذا بالخيام قد لاحت وأعلام أم عبيدة قد بانت، فقلت لأخى الشريف حسن : يا أخي كأن هذا ملك من بعض ملوك العرب نزل فى هذا المكان ونصب خيامه ونشر أعلامه. فقال لى : يا أخي هذه أم عبيدة ،وهذه الخيام خيام السيد أحمد بن الرفاعي وليس يكشف هذا السر إلا القليل من الناس ، وهذه الخيام والأعلام لرجال تحتها قيام قد سهروا الليل فى الظلام وجاهدوا أنفسهم بالصيام والقيام " . وتمضى الأسطورة  فتصور تكليف البدوي من قبل القائمين على الأمور فى ام عبيدة بأن يذهب للقاء بنت بري ,وتفصل صراعه معها [8].

4 ـ ويقيني أن أسطورة فاطمة بنت بري  ــــــــ التى لامحل لها من الأعراب ــــــ قد حيكت للتعمية على التعليم السري الذى يتلقاه البدوي فى أم عبيدة، التى كانت وقتها تحاول أن تبدو تصوفاً بحتاً لا شائبة فيه من تشيع أو دعوة سرية . وكان أنسب الأساليب هو التلهية بقصة فاطمة بنت بري التى تحاول إغراء البدوى (وسلب حاله )،ومع ما فى قصة البدوي وبنت بري من شكوك حول علاقة ما بينهما ،فإن هذه الشكوك مقصودة ليستغرق فيها الخصوم وينسوا الطابع السياسى للرحلة.  وقد مر بنا أن الرفاعي والملثم تطوعا بقبول الاتهام الخلقى لستر الدافع السياسى .

5 ـ وإلى ما قبل رحلة البدوى للعراق كان يبدو أبعد الناس عن أن يكون صوفياً، فقد بز أقرانه بفروسيته واشتهر بدهائه فرأى أولو الأمر أن يذهب إلى العراق ليكتسب مسحة تصوف يتخفى تحتها حين يكلف بأمر من أمور الدعوة.وفى العراق اكتمل إعداد البدوى على يدى الصوفى الشيعى ابن عرب تلميذ الرفاعي وشقيق أبى الفتح الواسطي [9]،

وعاد البدوى  لمكه شخصا مختلفا.وتصور الكتابة الصوفية ذلك بقولها : (ولما حدث له حادث الوله – الجذب – تغيرت سائر أحواله واعتزل الناس وكان لا يتكلم إلا بالإشارة لمن يحبه ، فامسكنا معه الأدب) [10].وبهذه الصورة الجديدة التى عاد بها من العراق توجه البدوي لمصر وقد اتخذ مظهر المجذوب .

6 ـ وبموت أبى الفتح الواسطي سنة 635 وقع الاختيار على البدوي ليخلفه فى مصر ،ورتب عز الدين الصياد الامور للداعية الجديد ،فاختار له المكان ،ووزع الأدوار المساندة للبدوي على بقية الدعاة من مصر والعراق والمغرب .

الاعداد لدعوة البدوي فى مصر :

وصلها سنة 637[11]. وقبل وصوله بعام كان عز الدين الصياد قد دخل القاهرة . يقول البكري عنه:( ثم أنه- أى عز الدين- دخل مصر سنة ست وثلاثين وستمائة وأقام بالمسجد الحسينى وأقبل عليه الناس وتلمذ له العلماء والشيوخ مثل جمال الدين بن الحاجب وغيره وأقام بمصر سنتين )[12]، وفى المدة التى قضاها عز الدين بمصر( 636-638) كان قد وصل للبدوى فوجد الأمور معدة له على النحو التالى :

  1. إختيار طنطا كمكان للدعوة السرية

1 ـ كان إختيار طنطا مركزا للبدوي فى هذه الفترة عملاً صائباً دل على معرفة بأهميتها وظروفها المواتية للهدف الذى اختيرت من أجله.وواضح إن عز الدين الصياد قد إستشار أولى الأمر من مدرسته التى كونها بالقاهرة ، وهم أدرى ببلادهم والأعرف بأصلح مكان للدعوة ، فطنطا تتوسط الطريق بين العاصمة (القاهرة ) و(الإسكندرية ) مركز اتباع الواسطي ، ويمكن  بتوسطها للدلتا أن تكون مركزاً هاماً للدعوة فى مصر يسهل اتصالهم بها ، ثم إن بعدها عن القاهرة مناسب يتيح لمن بها أن يكون يقظاً لما يحدث فى العاصمة من تطورات يأتيه بها أعوانه فيها . ومحاولة الابتعاد عن السلطة وأعوانها كان عاملاً هاماً فى اختيار طنطا فإن (سخا ) شاركت طنطا موقعها الاستراتيجي وكمركز للمواصلات والطرق البرية ، إلا أن سخا فى عهد البدوى كانت أكبر مدن الغربية وبها دار الوالي كما ذكر ياقوت الحموي[13]فابتعد عنها مخططو الدعوة وآثروا طنطا التى وصفها ياقوت بأنها (من كورة الغربية وبينها وبين المحلة ثمانية أميال[14]) أى كانت طنطا فى ذلك العهد مجرد قرية صغيرة تعرف بالمسافة بينها وبين المحلة التى كانت أكثر شهرة فكانت عاصمة للغربية ، ويكفى ذلك للابتعاد عنها .

وهناك عامل تاريخى خاص بالشيعة ، فقد اتخذ الفاطميون من (طنطا ) عاصمة لأحد أقاليم مصر السفلى فى عهد الخلفية المستنصر (427-487) وعرف إقاليمها باسم الطندتاوية ، وقد انحسرت أهميتها بانحسار الحكم الفاطمى عن  مصر ومجئ أعدائه ..إلا أن الشيعه كانوا لا يزالون يحتفظون لطنطا بالذكريات وعرفوا أهميه موقعها فأعادوها مكاناً لدعوتهم السرية. وحرص البدوي وهو فى طنطا على الخلوة بمسجد البوصه المعروف الأن بأسم مسجد البهي: ( وتدل حالته على أنه أقدم المساجد  بطنطا لأنه بنى بربوة عالية ولأن مئذنته ذات أضلاع وعليها برج مغلق على نظام مئذنة جامع الحاكم بأمر الله الفاطمي )[15]، فالبدوي اختار مسجداً فاطمياً للعزلة فيه ، وربما كان يفكر فى أسلافه الشيعة الفاطمية وهو يرتب لدعوته السرية لإعادة ملكهم الضائع .

2 ـ وفى داخل طنطا تم ترتيب آخر لإستقبال البدوي؛ فتعيّن المنزل الذى سيقيم فيه والرجل الذى سيساعده ،بحيث أن البدوي قدم من مكة على طنطا مباشرة فدخل المكان مباشرة ووجد صاحبه على استعداد وترقب وانتظار ،ـوذلك ما نلمحه من خلال السطور فيما يقوله عبد الصمد ( كان بطندتا رجل من أولياء الله تعالى يسمى الشيخ سالم ، وهو المبشر بقدوم سيدى أحمد البدوي ، وذكر أنه استدعى الشيخ ركين وقال له :اعلم أنه يقدم عليك رجل يسمى أحمد البدوي وينزل بطندتا فى بيتك يا ركين .وبعد مدة قدم سيدي أحمد البدوي ضارب اللثامين - وكان من عادة الشيخ ركين أنه يصنع طعاماً فى بيته فى كل أسبوع ويجتمع فيه أقاربه  من النساء والرجال فيطعمهم ويكرمهم ، فبينما هم مجتمعون فى مثل ذلك اليوم إذ دخل عليهم سيدي أحمد البدوي ، فلما تأملوه فإذا هو رجل أشعث أغبر ضارب اللثامين ، فصاحت النساء فى وجهه ، فلما علت أصواتهن دخل عليهن الشيخ ركين ، فإذا هو رجل مجذوب وإمارة الولاية لائحة فاقعة على وجهه ، ووقع فى قلبه أنه البدوي الذى بشّره به الشيخ سالم .فأقبل عليه بكليته وقبل يديه و رجليه وجثا على ركبته..الخ )[16]

ولم يكن عسيراً أن يستقطب الشيعة أعواناً لهم داخل قرية طنطا بحكم أنها كانت مركزاً هاما فى الدولة الفاطمية قبل قرنين من الزمان .ومن المعقول أن يحتفظ بعض الأثرياء فيها بذكريات عن ثراء أسلافهم وبلدهم فى ظل الفاطميين الشيعه ويأملون أن تستعيد هذا المجد بالتعاون مع الدعوة الشيعية الجديدة ،والمنتظر أن تظل فى طنطا جذوة من التشيع  تحت الرماد .

ونتوقف مع الشيخ سالم ذلك الذى بشر بقدوم البدوي .ويبدو من حديث عبد الصمد عنه أنه كان ذا مكانة فى البلدة بحيث أنه استدعى ثريا كالشيخ ركين وأخبره بمجئ البدوي وألزمه بضيافته . ويتبادر للذهن أن ذلك المبشر بقدوم البدوي كان ضالعا فى التخطيط الشيعي ، وهذا ما حدث فعلا فسالم ينتمى للمغرب موطن المدرسة المغربية المساندة لمدرسة العراق ،يقول عبد الصمد عن موقف البدوي من أولياء طنطا حين استقر بها (وأما سيدي سالم المغربي فأنه أقام بطنتدا ودخل تحت حكم الأستاذ وسلم الأمر إليه إلى أن مات[17]). وبسبب الدور السياسي الذى قام به سالم المغربي فى تأييد البدوي ضد خصومه من الصوفية الآخرين  ،وما سبق ذلك فى تمهيد الأمور له قبل قدومه ، بسبب هذا الدور فإن هناك اضطراباً – أظنه مقصوداً – فى سيرة ذلك الرجل وتاريخه ،فبينما يقول عبد الصمد أنه (دخل تحت حكم الأستاذ وسلم الأمر إليه إلى أن مات ) يقول فى موضع آخر أنه مات قبل دخول البدوى طنطا [18].

وسالم المغربى يذكرنا بصوفى آخر أكثر شهرة أتى من المغرب ليساند الدعوة السرية ،إنه أبو الحسن الشاذلى ت 656. 

(ب) أبو الحسن الشاذلي يحتل مكانة الواسطي فى الاسكندرية :

بعد موت الواسطي فى الاسكندرية بادرت مدرسة المغرب بزعامة ابن بشيش بإيفاد الشاذلي ليحل محل الواسطي ويرث دعوته. وتم ذلك بتخطيط وتنسيق مع المدرسة العراقية وشيخها الذى أقام بالقاهرة عامين يرتب فيها أمور الدعوة للبدوي الوافد الجديد الذى سيحتل مكاناً آخر سرياً بعيداً عن الأنظار هو طنطا بينما ينفرد  الشاذلى بالإسكندرية .

 ويقول المناوى فى ترجمة أبى الفتح الواسطى مبعوث الرفاعى فى الإسكندرية (ولم يزل مقيماً بالإسكندرية والناس يقبلون عليه حتى مات ، وأذن للشاذلى بالدخول قبل موته فصلى عليه )[19]والمناوى يوحى بأن الشاذلى لم يدخل الإسكندرية – بلد الواسطي – إلا بإذن ورضى من أولى الأمر ، وقد قام بالصلاة عليه حين دفن ، فمعنى ذلك أنه خليفته القائم بالأمر من بعده . وظهر أن مهام أبى الفتح الواسطى قد توزعت بعد موته بين الشاذلي فى الإسكندرية والبدوى فى طنطا ، فتلاميذ الواسطي عملوا فى خدمة البدوي وحلقات اتصال بينه وبين أعوان الدعوة فى الدلتا والقاهرة ، أما الشاذلي فى الإسكندرية  فقد كان واجهة صوفية تطمئن اولي الأمر على خلو المدرسة الواسطية فى الإسكندرية من طموحها السياسي ولتشغلهم بالتصوف عن البدوي القابع فى طنطا .ثم إن الإسكندرية نقطة الاتصال البحري بين الشام والعراق والحجاز من جهة و( شمال )أفريقيا والمغرب من جهة ..وفى نفس الوقت فاتصالها ميسر بطنطا والقاهرة ،ووجود طريقة صوفية بالإسكندرية يجعل منها حلقة اتصال أساسية بين المدرستين العراقية والمغربية وتكون غطاء مناسباً للبدوى فى طنطا . ثم إن الفراغ الذى حل بالإسكندرية بوفاة الواسطي لابد أن يتداركه أساطين الدعوة بملئه بتصوف شيعي من داخل الدعوة حتى لا يحتل الإسكندرية من لا تؤمن بوائقه من المتصوفة المتعاونين مع السلطة وما أكثرهم .

وانتماء الشاذلي للمدرسة المغربية وشيخها وشيخه ابن بشيش أمر معروف غير منكور ، ولكن الذى نحققه هنا هو انتماؤه للمدرسة العراقية الذى يربطه بالدعوة السرية وأصحابها ويجعله من ضمن العاملين فى إطارها مهما تضاءل الدور المسنود إليه. والواقع أن الشاذلي كغيره من أساطين المدرسة المغربية لهم انتماء سري بالمدرسة العراقية اتخذ صورة العهد والخرقة وهو نفس الطريق الذى اتخذه الشيعة المتسترون بالتصوف غطاء للتقابل وجمع الأنصار ووضع الخطط . وهناك أكثر من حلقة تربط الشاذلي المغربي بالمدرسة العراقية ، فالشاذلي ينتمى لشيخه ابن بشيش ت 626 ،وابن بشيش أخذ الخرقة عن الشيخ بري العراقي تلميذ الرفاعي وداعيته السري ،وهو نفسه – أى الشيخ بري – هو الأستاذ الذى أخذ عنه البدوي ،وليس غريبا أن يتطامن شيخ كبير فى موطنه كإبن بشيش ليأخذ العهد على تلميذ سري للرفاعي ،وذلك أن أخذ العهد كان طريقة سرية للتلاقى وترتيب الخطط.فالشاذلي ينتمي للمدرسة العراقية بطريقة غير مباشرة بالتبع لشيخه ابن بشيش الآخذ عن المدرسة العراقية . يقول صاحب الطبقات الرفاعيه أن الشاذلي أخذ الخرقة عن ابن بشيش عن الشيخ بري العراقي عن الشيخ أحمد الرفاعي [20].

وبعد ابن بشيش كان اتصال الشاذلي المباشر بالمدرسة العراقية ,واتخذ نفس الصورة ، صورة إعطاء العهد ،مع أن الشاذلي بعد موت ابن بشيش لم يعد مريداً صغيراً فى بداية الطريق ،ولكنه الأسلوب الذى يتستر به أساطين الدعوة السرية ،وبه اتخذ الشاذلي لنفسه خرقة رفاعية بالطريق المباشر ، فأخذ العهد على تلميذ لابن سيدبونه الخزاعى هو عبد الرحمن العطار ،وقد مر بنا أن ابن سيدبونه الخزاعي كان داعية سرياً للمدرسة العراقية ومع أنه مجهول منكور إلا أن علماً كبيراً من المدرسة المغربية – هو ابن عربى   - أخذ على يديه العهد ،ثم جاء عبد الرحمن العطار يجدد مسيرة شيخه ابن سيدبونه كما جاء الشاذلى يأخذ العهد على العطار أسوة بابن عربي مع ابن سيدبونه . والشاذلي على هذا أخذ الخرقة الرفاعية عن عبدالرحمن العطار عن ابن سيدبونه عن الرفاعي ..

ولم تنقطع صلة الشاذلي بالمدرسة العراقية فاتخذ لنفسه صاحباً منهم هو نجم الدين الأصفهاني [21]مستشاره فى الدعوة ،وقد كان الاصفهاني فيما بعد شيخاً للدسوقي الذى تابع مسيرة الشاذلي بعد موته .

وقد تجلت وحدة التخطيط بين المدرستين العراقية و المغربية  فى ارتحال الشاذلي للأسكندرية ليخلف أبا الفتح الواسطي العراقي فيها . وصدر الأمر للشاذلي من شيخه ابن بشيش بالسفر للأسكندريه [22]فى نفس الوقت الذى يمرض فيه أبو الفتح الواسطى ويموت ، وابن بشيش ومدرسته المغربية أقرب للإسكندرية وأدرى بظروفها وأكثر اطلاعا على مجريات الأمور والدعوة فيها .

  وقد كان ابن بشيش يعانى من عنت السلطات المحلية فى دولة الموحدين التى تتعقب مدرسة ابن مدين وتلميذه ابن بشيش ، ودفع ابن بشيش حياته ثمنا لهذا الا ضطهاد .

وبعد مقتله كان على الشاذلي تلميذه الأول أن يتحمل نصيبه من العنت والاضطهاد قبيل رحيله الإسكندرية ،وقد أوردت الكتابات الصوفية فى  ترجمة الشاذلي بعض الأخبار عن الاضطهاد الذى قاساه الشاذلي قبيل سفره للإسكندرية ، وإن أضفت عليه – كالعادة – أساطير الكرامات لتستر السبب السياسي فى الاضطهاد والمحاكمات ، ومع ذلك فإن رائحة السياسة تظهر من خلال الحوار وبين السطور، كأن يقال أن خصم الشاذلي وشى به عند السلطان فى تونس وقال عن الشاذلي (أن هاهنا رجل من أهل شاذلة سواق الحمير يدعي الشرف وقد اجتمع عليه خلق كثير ويدعى أنه الفاطمي ويشوش عليك فى بلادك [23]) ويلاحظ أن دعوة الفاطمي المنتظر قد روجتها مدرسة أبى مدين وتلميذه ابن عربي فى كتبه وابن بشيش فى دعوته ،وقد استمرت هذه الدعوة إلى القرن الثامن حتى أن ابن خلدون فيما بعد هاجم هذه الفكرة فى مقدمته ،وابن خلدون كما نعرف فقيه مغربي خدم سلاطين الموحدين وهو أعرف بجذور النشاط الشيعي وقد أرجع هذه الفكرة إلى ابن عربي ومدرسته كما أوضحنا سابقاً .

والمهم أن الشاذلي اتهم عند السلطان المغربي بأنه (يدعى الشرف ) و(يدعي أنه الفاطمي ) أى الفاطمي المنتظر ، وإن كثيرين أجمعوا عليه (وقد اجتمع عليه خلق كثير ) وأنه أحدث هزة سياسية أخافت أولي الأمر ، أو أنه (يشوش ) على السلطان فى بلاده ، وكان منتظرا أن يهرب الشاذلى من صميم الاضطهاد وخصوصا وأن أبا الفتح الواسطي فى الإسكندرية يعيش أيامه الأخيرة.

وتحاول أساطير الكرامات أن تموه على الدوافع السياسية وأن ترفع من شأن الشاذلي وهو يقاسي الاضطهاد من السلطان فتروي أن السلطان عقد مجلسا لمحاكمة الشاذلي ( وتحدثوا فى العلوم المكتسبة والعلوم الوهبية )أى اللدنية ، ولا بد أن ينتصر الشاذلى فى الأسطورة على خصومه أمام  السلطان كنوع من التعويض عما يلاقيه من اضطهاد ،ثم تقول الرواية

أن ابن عبد البر قاضى القضاة للسلطان والخصم الأكبر للشاذلي يقول عنه للسلطان (والله لئن خرج فى هذه الساعة ليدخلن عليك أهل تونس ويخرج من بين أظهرهم فإنهم مجتمعون على بابك ..وكان ابن عبد البر ما أراد بذلك إلا حبس الشاذلي )[24]. فالرواية تفصح هنا على أن شيعة الشاذلي قوية إلى درجة أن خصمه اتخذ منها دليلا أمام السلطان على خطورة الشاذلي وحاول أن يخيف السلطان إذا تهاون معه ..وكان الشاذلي حسبما تذكر الأسطورة قد انتصر على خصومه فى العلوم المكتسبة واللدنية أمام السلطان فكان يميل لإطلاق سراحه. ثم تلجأ الأسطورة إلى إسناد الكرامات للشاذلي وأنه استعرض أمام السلطان بعضا منها فأخافه وأرعبه فاضطر لإطلاق سراحه .ولا ندرى لماذا حرم الصوفية أستاذ الشاذلي ومعلمه وشيخه – ابن بشيش – من هذه الكرامات حين اغتاله أعوان السلطان ، ولو كان للشيخ الشاذلي بعض منها لكان محفوظا من كيد الأعداء .وربما يكون الشاذلي قد أفلت من قبضة السلطان فى مجلس محاكمته بالتقية وهى الأسلوب الشيعىي المعروف حين الأزمة ،ثم أحس الشاذلي بأنه إذا أفلت مرة فلن يفلت الأخرى ،فكان هربه للإسكندرية . 

وقد أحس السلطان وأتباعه بخطورة الشاذلي حين هرب للإسكندرية ،ولأنه أفلت من قبضتهم فلم يسعهم إلا الكيد له عند أولي الأمر فى الإسكندرية ليشفوا غليلهم .تقول كتابات المناقب إن ابن عبدالبر أرسل خلف الشاذلي رسالة لوالى الإسكندرية الأيوبي على صورة(عقد فيه شهادة ) بأن (الواصل إليكم شوّش علينا بلادنا وكذلك يفعل فى بلادكم )[25].

إلا أن تحذير المغاربة لم تؤثر على الشاذلي فى الإسكندرية ، فوظيفة الشاذلي أن يبدو أمام أولي الأمر تصوفاً محضاً لطمأنة الأيوبيين وحتى لا تتكرر قصة اضطهاده المغربية أو يكون لدسائس المغاربة أثر فى موضعه الجديد ،وساعده على نجاحه فى سياسته  الجديدة المختلفة انتقال الثقل السياسي للدعوة إلى طنطا وانشغال الأيوبيين بمنازعاتهم الأسرية بين مصر والشام عما يجرى تحت ذقونهم فى الأسكندرية وطنطا وغيرهما.

 ويتضح فى الروايات الصوفية عن اضطهاد الشاذلي فى المغرب اتجاه لتبرئة السلطان الموحدي وتحميل السخط كله على قاضى القضاة ابن عبد البر كزعيم للحاقدين على الشاذلي وأن السلطان كان سرعان ما يقتنع بولاية الشاذلي وأنه برئ من الاتهامات السياسية التى يكيلها له ابن عبد البر . ثم تمضي الأساطير فتصور ما حاق بابن عبد البر من نكبات كجزاء على تطاوله على الشاذلى ،وذلك جميعه خطاب غير مباشر لأولى الأمر بالإسكندرية والقاهرة لتغطية السبب الحقيقى فى هروب الشاذلي للإسكندرية وأن الأمر لا يتعدى تنافساً حاقداً من قاضي القضاة ابن عبدالبر موجها للشاذلي الذى يفوقه فى (العلوم الوهبية والمكتسبة ).

وقد آتت هذه السياسة أكلها فاطمأن أولو الأمر من ناحية الشاذلي  فلم يرد فى المصادر التاريخية أى نبأ عن اضطهاده وقد كان علماً معروفاً فى القرن السابع ،ولا يتصور مثلاً أن تعقد له محاكمة بالأسكندرية دون أن يدونها المؤرخون المعاصرون للشاذلي وهو معروف لديهم .

إلا أن بعض الكتاب الصوفية استمرأ الكذب ومارس هوايته فى إسناد الكرامات للشاذلي فى الأسكندرية والقاهرة ضد السلطان الأيوبي استمرار لما نسجوه عن بطولات الشاذلي ضد السلطان المغربى فى تونس . وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا حين يظهرون شيخهم طويل الباع فى ميدان الكرامات والتصريف ، فقد قالو إن السلطان المصري – ولم يعينوا له اسماً أو وصفاً – حين جاءته رسالة ابن عبدالبر التى تحذر من الشاذلي قد بادر باعتقال الشاذلي فما كان منه إلا أن مارس مع السلطان المسكين بعض كراماته ( فحركوه فلم يتحرك ولم ينطق ) على حد تعبيرهم إلا حين عفا عنه الشاذلي وحينئذ اعتذر للشاذلي وأقر له بالولاية [26].

 ونقطة الضعف لدى كتاب المناقب الصوفية تتمثل فى غرامهم بتأليف الأساطير وتأليف الكرامات وإسنادها لأشياخهم حتى لو ناقضت الواقع التاريخي أو الديني أو سببت ضرراً للشيخ الذى تؤلف فيه كما هو الحال فى صاحبنا الشاذلي  .فكراماته المزعومة تنافى كتابات المؤرخين المعاصرين له والتى لم يرد فيها إشارة اضطهاد فى تاريخه ، كما أنها – أى الكرامات ـ عموما تناقص الواقع الإسلامي وذلك ما سنتعرف عليه فى الفصل الثانى . ولكن المهم أن كاتب المناقب نفسه يناقض أساطيره حين يقول عن الشاذلي (لما قدم من المغرب الأقصى إلى مصر صار يدعو الخلق إلى الله فتصاغروا وخضع لدعوته أهل المشرق والمغرب )[27]فأين كان ذلك المضطهد المعتقل فى الرواية السابقة ؟ وهو هنا بمجرد قدومه يدعو الخلق فيتصاغرون أمامه على حد قوله . ثم إن الشاذلي يعبر عن وضعه الجديد حين استقر بالإسكندرية وأمن فيها بعد خوف وعز فيها بعد ذل واستراح فيها بعد اضطهاد ...فيقول عن نفسه (لما قدمت إلى مصر قيل لى : يا على ذهبت أيام المحن وأقبلت أياما المنن[28]) ، ومن الأسكندرية كتب لبعض أتباعه فى المغرب يقول (الكتاب إليك من الثغر حرسه الله ونحن فى سوابغ نعم الله نتقلب)[29]ولو حدث اضطهاد للشاذلي فى مصر لما وصف قدومه لها بهذه الصورة الوردية .

وبعد .. فلقد كان للشاذلي الفضل فى اجتذاب عز الدين بن عبد السلام إلى طريقته الصوفية ، وفى هذا نصر كبير للدعوة .وقّدر لعز الدين بن عبد السلام أن يدفع ثمنه غاليا فيما بعد ، وسنعرض لذلك فى أوانه ،إلا أن الشاذلي توفى سنة 656 ، فكان لابد لمخططي الدعوة السرية أن يبحثوا له عن خليفة يقوم بوظيفته .

(جـ)مشاركة الدسوقي :

 عاش عز الدين الصياد طويلا (574-670 ) ولا ريب أنه علم بأن فاطمة بنت الشيخ أبى الفتح الواسطي قد أنجبت شابا يافعا هو إبراهيم الدسوقي (633-676) فكان لابد لإبراهيم أن يأخذ دورا فى الدعوة الجديدة .وقد سبق أن وضحنا أن الشيعة استخدموا (النسب السياسي ) وسيلة لتدعيم الروابط بين الأطراف المشتركين فى الدعوة السرية ، وقد كان والد الدسوقي وهو (عبد العزيز ) من الصوفية المشهورين فى دسوق ممن ينتحلون النسب العلوي ، وإصهاره إلى أبى الفتح الواسطي صاحب الدعوة السرية الشيعية يعنى أنه كان ذا شأن خفى فى الدعوة وإلا ما استحق أن ينال شرف المصاهرة من زعيمها فى الأسكندرية .

 ومع غموض سيرة عبد العزيز الدسوقي – والد إبراهيم -  إلا أن الشاذلي كان يزوره فى نواحي دسوق ،وكان الصلة بينها صوفي شهير يقال له ابن هارون وثيق الصلة بعبد العزيز الدسوقي [30].والشاذلي كان خليفة الواسطي فى الإسكندرية ،والواسطي صهر عبد العزيز الدسوقي.  وقد توفى الشاذلي سنة 656 فتأهب الدسوقى ليحل محله . وغدت بذلك  دسوق – التى لا يعلم بها أحد – حينئذ – مركزا  للاتصالات داخل وخارج مصر مشاركة للبدوي فى طنطا ..ودسوق قريبة من طنطا .

وكان الدسوقي طفلا صغيراً حين مات جده أبو الفتح الواسطى ،وما كان للمدرسة الرفاعية أن تترك  حفيد الواسطي دون رعاية فكان أن تعلم أصول الدعوة على يد شيخين كبيرين من الرفاعيه هما (نجم الدين الأصفهاني الرفاعي) وكان وثيق الصلة بالشاذلي ،(وعز الدين الفاروئي [31]) ،ومن الطبيعى أن تناله رعاية أبيه صهر الواسطى وتلميذه ، يقول عبد القادر الطبري عن الدسوقي (وكان أبوه السيد أبو المجد من أعيان خلفاء الشيخ أبى الفتح الواسطي الأحمدى وقد ألبس خرقته الأحمدية – الرفاعية – لولديه الجليلين : السيد موسى والسيد إبراهيم) [32].

 

ثم كانت للدسوقي صلات بالمدرسة المغربية تمثلت فى علاقته بالشاذلية ، ولأن الدسوقي احتل مكانة الشاذلي فى الدعوة بعد موته – فإن البعض اعتبره امتداد للشاذلي أو شاذلياً ، يقول مرتضى الزبيدي عن الطريقة البرهانية الدسوقية ( البرهانية شعبة كبيرة من الشاذليه ) [33].ويقول الكوهن عن الدسوقي وقد جعله ضمن أعيان الشاذلية فى كتابه ( طبقات الشاذلية الكبرى )(سيدى إبراهيم الدسوقي القرشي الحسيني الهاشمي الشاذلي [34]) ويقول النشابي (..فالشاذلي بشيشي – أى نسبة لإبن بشيش – والدسوقي شاذلي) [35].

بل إن بعضهم وصل بين الدسوقى وابن بشيش رغم أن الأخير قتل قبل مولد الدسوقي بأكثر من عشر سنوات ، يقول عن ابن بشيش (ويكفيك فى فضله وجلالة قدره أنه أستاذ الأقطاب الثلاثة سيدى إبراهيم الدسوقي وسيدى أحمد البدوي وسيدي أبي الحسن الشاذلي )[36]وبعضهم بالغ فاعتبر الدسوقي تلميذا للشيخ عبد الرزاق مبعوث أبى مدين فى الإسكندرية والذى أخذ عليه أبو الحجاج الأقصري [37].

والرابط بين الدسوقي وأساطين الدعوة المغربية يعنى أن الدسوقي احتل مكانة الشاذلي فى الدعوة بينما احتل أبو العباس المرسي حلقة الشاذلي فى التصوف فى الإسكندرية.

وقد كانت بين الدسوقي والبدوي مراسلات ولقاءات يقول البدوى فى بعضها للدسوقى (أما سمعت وعلمت أننا أخذنا العهود والمواثيق على بعضنا [38])؟.

وأبرز ما ينم عن التلاقي بينهما هو التشابه فى الأحزاب لدى الشيخين ، فحزب البدوي يقول (لووا عما نووا فعملوا وصموا عما طووا ،ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ..السورة ..اللهم اكفنيهم مما شئت ..)وحزب الدسوقي الكبير يقول (نووا فلووا عما نووا ثم لو واعما نووا فعموا وصموا فوقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ..) . وواضح أن كلاهما يواجه غريما عاتيا . وهذه نبرة غريبة فى الأحزاب الصوفية ..فالأوراد والأحزاب عند الصوفية العاديين تفيض رقة وضعفا . أما أولئك فأصحاب دعوة سرية تواجه خصما حاربوه حتى بالأحزاب ..

ثم إن الطموح السياسي يتنفس شعراً لدى البدوي والدسوقي :فالبدوي يقول : سائر الأرض كلها تحت حكمي              وهى عندى خردل فى فلاء

 ويقول : أنا أحمد البدوي غوث لا خفا                أنا كل شبان البلاد رعيتى [39]) والدسوقى يقول :

وحكمتي فى سائر الأرض كلها          وفى الجن والأشباح والمـــــــــرديه

أنا الحرف لا أٌقــــــــرأ لكل مناظــر          وكل الورى من أمر ربي رعيتي [40]

واللثام الذى اشتهر به الرفاعية والبدوي بحكم نزوحهم من أفريقيا – نسب أيضا للدسوقي مع أنه مصري المولد النشأة .وما كان ذلك إلا متابعة للدعوة وأصحابها . فيقال أن أحد الأمراء دخل على الدسوقى (فوجده ملثما على عادته )[41]،واللثام كان يرمز به للأسرار التى يحتفظ بها صاحب الدعوة كما سنرى فى قصة البدوي ولثامه مع عبد المجيد ..

والدسوقي كانت له أسراره التى يعرف كيف يحافظ عليها ويوصى مريديه بذلك يقول (يا ولد قلبي كن على حذر من الدخلاء والدخيل السوء ، وما للمرأ يا ولدى إلا أن يكون على حذر من جميع البشر ) [42]والشيعة أصحاب التقية والدعوات السرية على حذر دائم من جميع البشر ..والدسوقي أحدهم ولقد وصف بأنه (القطب الكبير المرشد للصواب المنقطع عن الخلق فى السرداب)[43]والانقطاع فى السرادب من صفات الفاطمي المنتظر وصاحبنا (ابن فاطمة بنت أبى الفتح الواسطى [44]وأساس الدعوة للفاطمي المنتظر .

 و(أسرار ) الدسوقى هى أسرار الدعوة ..وقد وقع عليه عبء التراسل بالشفرة مع الأعوان السريين الموزعين داخل وخارج مصر ،وبعض هذه الرسائل كانت تذهب إلى مكة المركز العصبي للدعوة ، ولقد تسترت هذه الرسائل الشفرية تحت ادعاء الدسوقي بأنه يعلم السريانية ، ويتكلم بسائر اللغات ، يقول الشعرانى عنه (وكان رضي الله عنه يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الوحوش والطير ،وكتب رضى الله عنه إلى بعض مريديه بعد السلام :وإننى أحب الولد وباطني خلى من الحقد والحسد ولا بباطنى شظا ولا حريق لظا ولا جوى من مضى ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا قطب غطا ولا عطل عظا ولا شنب سرى ولا سلب سبا ولا عتب فجا ولا سمد إذ صدا ولا بدع رضا ولا شطب جدا ولا حتف حرا ولا حمش خيش ولا حفص عفص ولا خفص خنت ولا كولد كنس ولا عنس كنس ) ..إلخ .إلى أن يقول (ولا قمداد إنكاد ولا بهداد ولا شهداء ولابد من العيون وما لنا فعل إلا فى الخير والنوال )وغريب أن ينتهى هذا الخطاب الرمزي بقوله (ولا بد من العيون وما لنا فعل إلا فى الخير والنوال )،ويقول الشعراني (وكتب إلى بعض مريديه أيضا :سلام على العرائس المحشورة فى ظل وابل الرحمة وبعد فإن شجرة القلوب إذا هزت فاح منها شذا يغذى الروح فيستنشق من لا عنده زكم فتبدو له أنوار وعلوم مختلفة مانعة محجوبة معلومة لا معلومة معروفة لا معروفة غريبة سهلة شطة فائقة طعم ورائحة وشم ميم محل جميل جهد راب علوب نغط نبوط هوبط سهيط حرموا غميطا غلب عمن عسب غلب عرماد علمود على عروس علماس مسرود قدقد فرسم صباع صبع صبوغ بنوب جهمل جمايد حربوعس ..إلخ ) إلى أن يقول ( تزيط ولا تتكوكع زند حدام هدام سكهول وقد سطرنا لك يا ولدي تحفة سنية ودرة مضية ربانية وإنما تصفح المبهم المغلق المغرب الذى سره مغطى بالرموز ).

ويقول الشعرانى (وكتب رضى الله عنه إلى بعض مريديه أيضا : سلام إن هب الجنوب المفتق أو الصبا المعتق أو الضحى المرونق أو الشمس المتحفة أو الأضحية المعترفة فى الأبرجة المعومقة والمحبرة المحومقة ) ثم يستمر فى هذا المنحى إلى أن يقول (والمربايور والشوشان والشريو ساسع والبرقواشاند تفهم يا ولدى فإن كلام المغرب لا يشاكل المعرب وما ليس من لغة العرب لا يفهمه إلا من له قلب ) ..ويقول الشعرانى (وكتب رضى الله عنه سلاماً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرسله مع الحجاج : سلام على أمير حى المحيا جميل المعنى سخى المراشف أرخى المعاطف كريم الخلق سنى الصدق عرفوط الوقت وردساني الفهم ثاقب المرحب محبول الرحب قطابه النقل قيدوح النماطة ليدوح البناطة سر سامع الواجب بهديان الوعب بهيسانى  الحداقة سهيرى اللساقة موزالرموز عموز الهوز ..إلخ)[45] 

 ويبدو هناك نوع من الترتيب الحرفى بين الألفاظ المترادفة كقوله:(ولا مضض غضا ولا نكص نصا ولا سقط نطا ولا شطب غطا ) فقد ترادفت الصاد والضاد والطاء .. وأمثال ذلك كثير ،ومن المستحيل أن يفهم المراد من هذه التركيبات فسرها عند المرسل إليه وهو يعلم كيف يفك طلاسمها ويفهم التعليمات والأخبار الواردة  فيها تحت هذه المعميات.وقد احتار الكثيرون فى تفسير هذه الرسائل يقول حسن شمه فى العصر العثمانى (وكنت قد توقفت كثيراً فى هذه الأسماء وطالعت من أجلها كتبا كثيرة من كتب الحرف فلم أعثر عليها [46]). وابن تيمية اعتبرها من كلام الجن [47]..وإذا أدركنا أنها مراسلات سياسية سرية لأرحنا أنفسنا من محاولة فك طلاسمها ، وكم للشيعة من أسرار وألغاز ..

(د) الاستفادة بأتباع الواسطي :

ترك أتباع الواسطي مدينة الإسكندرية للشاذلي بعد موت أستاذهم ، وتوزعوا فى الريف فى المنطقة ما بين الإسكندرية وطنطا ، وتم ذلك بتخطيط محكم وإن أثار بعض الشك للسلطات الأيوبية .

يقول الشعراني فى ترجمة على المليجي (أحد أصحاب سيدى أبى الفتح المذكور آنفا ، كان رضى الله عنه معاصراً لسيدى أحمد البدوى وكان سيدى أحمد رضى الله عنه إذا أرسل سيدى  عبد العال له فى حاجة يقول له :إذا وصلت إلى جمروز فاخلع نعلك فإن هناك خيام المليجي[48])، وواضح فى الترجمة أن هناك تراسلاً مستمراً بين البدوي وعلى المليجي ، وأن البدوي كان يعول كثيرا على هذه الاتصالات بدليل أنه كان يرسل قائد أتباعه (عبد العال ) إليه ، ويوصيه بتعظيم المليجي وخلع نعاله عند خيامه .

 وفى نفس الوقت تحرك البلتاجي تلميذ الواسطي من  الإسكندرية إلى (بلتاج )وقد كان البلتاجي تلميذاً  سابقاً للرفاعى وفد إلى مصر وانضم إلى أبى الفتح الواسطى وبعد موته تحرك إلى بلتاج ثم صار شرطياً عند والى المحلة عاصمة الغربية [49]ليكون عينا للبدوى على أقرب ممثل للسلطة المحلية.

ويذكر عبد الصمد إن البلتاجى قدم للبدوى حين استقر بطنطا ومعه الشيخ القيلبى زميله فى مدرسة أبى الفتح الواسطى وقد أكرمهم فى نفس الوقت الذى عادى فيه الصوفية الآخرين من طنطا [50].

أما  عبد العزيز الدرينى فقد كان مصرياً تتلمذ لأبى الفتح الواسطى , وبعد موت الواسطى انتقل إلى بلدته درين وتجول لصالح الدعوة فى القرى ،يقول عنه الشعراني (وكان مقامه ببلاد الريف من أرض مصر )[51]وكان الدريني على صلة مستمرة بالبلتاجي سالف الذكر فيقول المناوي ) [52]إن (الدريني ) دخل المحلة – وفيها (البلتاجي ) ، كما يقول الشعراني فى ترجمة ( الدريني )  (وكان يزور سيدي علياً المليجي كثيرا ) [53]. وهذه الاتصالات كان الدريني يبذلها عن رضى خاطر فى سبيل البدوي وهو يقول فيه [54]:

   يقولون يا عبد العزيز بن أحمد             بمن فى طريق القوم مادمت تقتدي

   فقلت بأستاذي وشيخ مشايــخي             وشيــــــــــــــخ الطــــــــــــريق والحقيقة أحــــمد

وهذه الصلات المستمرة بين أتباع الواسطى أثارت بعض الشكوك، فيروي المناوي أن بعضهم شك فى البلتاجي فى بداية وجوده فى بلتاج فعرض أمره على السلطات ، وأن الدريني – مع استحواذه على بعض الشهرة – قد اعتقل فى المحلة أثناء سيره إلى البلتاجي ، وطبيعى أن تنتهي هذه الأخبار بكرامات للتمويه[55]....

 وهكذا تتجلى لنا بعض ملامح التخطيط السري للدعوة ، فتلامذة أبى الفتح الواسطي تركوا الإسكندرية للشاذلي ، وتوزعوا على مقربة من البدوي وعلى صلة مستمرة فيما بينهم وبينه ، والشاذلي احتل الإسكندرية زعيماً للصوفية فيها  وحارساً للدعوة فى الثغر ونقطة اتصال بين مدرستي المغرب والعراق ..حتى إذا دنت منيته اختير الدسوقي ليحل محله فقام بالاتصالات الشفرية داخل وخارج مصر بين الأتباع والأنصار .

ثم يكون اختيار البدوى بعد تدريب عسكرى فى الحجاز وإعداد شيعي صوفي فى أم عبيدة ، وتختار له طنطا مركزا جديدا بل ويختار له بيت الإقامة بحيث إذا قدم طنطا يجد الأمور ممهدة له . وتم ذلك كله بتخطيط  شارك فيه عز الدين الصياد الرفاعي الذى أقام بمصر سنتين وتركها وترك بها وليداً ، وربما كان يأمل أن يحصل ذلك الوليد على ثمار الدعوة فى المستقبل .                        

 بقى بعد ذلك أن نتابع جهود البدوي فى طنطا وسنقسمها إلى مرحلتين : المرحلة الأولى منذ وصوله طنطا عام 637 إلى تولي الظاهر بيبرس عام 658 والمرحلة الثانية منذ تولى بيبرس إلى موت البدوي عام 675 ولكل من المرحلتين ظروفها الخاصة ..

 


 1]عبد الصمد :الجواهر السنية7

[2]الطبقات الكبرى1-159

[3]عبد الصمد : الجواهر19

[4]عبدالصمد نفس المرجع123

[5]عبدالصمد نفس المرجع123

[6]طبقات الرفاعية،47

[7]نفس المرجع  47 : 48                                                         

[8]نفس المرجع 49: 60

 

[9]وأسمه في طبقات الرفاعية :الشيخ برى، يقال عنه(وللشيخ برى خرقة من سيدنا أحمد بلا واسطة – طبقات الرفاعية 26)وهي إشارة لتميزة بشئ معين عن أقرانه من الرفاعية ،أنظر أيضا النصيحة العلوية للحلبي 25 مخطوط بمكتبة الآزهر

 

[10]نفس المرجع 19 و الطبقات الكبرى للشعرانى 1/159

[11]محلة السياسة ص 11 : عبد الصمد الجواهر 6

[12]تراجم صوفية مخطوط ورقة 32

،[13]معجم البلدان 1906ط 61/6

[14]معجم البلدان 6/ 61 ط 1906 .

[15] نور الدين .البدوى 1369  57 ط

[16]عبد الصمد 40

[17]نفس المرجع 23

[18]نفس المرجع 33،40

[19]الطبقات الصغرى مخطوط 081

[20]طبقات الرفاعية 27

[21] الطبقات الكبرى للشعرانى 2/4

[22] تعطير الأنفاس ورقة 29

[23]نفس المرجع 38 ، 44

[24]نفس المرجع ، تعطير الأنفاس 44:38 النويرى الالمام مخطوط2/ 88:77

[25]تعطير الأنفاس 44:38 النويرى : الالمام مخطوط 2/ 77 : 78

[26] نفس المرجع السابق والصفحة

[27]تعطير الأنفاس مخطوط 63

[28]عن كتاب الشاذلى لعبد الحكيم محمود : 45.

[29]  عن كتاب الشاذلى لعبد الحكيم محمود : 45.

[30] مناقب الوقائية : مخطوط ورقه 16،15                      

[31]طبقات الرفاعية 27

[32]كشف النقاب عن أنساب الاربعة الاقطاب ط1309ص14

[33] طرق الإلباس والتلقين : مخطوط ص32 . المكتبة التيمورية

[34]طبعة 1347 ص79

[35] أسرار الحقيقة لمن يسلك الطريقة ط1921ص28

[36]معاهد التحقيق لابن عفيف الدين .ظ1960ص166

[37] البكرى : تراجم صوفية 87 .مخطوط

[38]طبقات البقاعى . مخطوط ورقه 126ب

[39]اعبد الصمد .الجواهر 95 ، 99

[40]الطبقات الكبرى للشعرانى 1157 :158

[41]الكركى . لسان التعريف مخطوط 43 

[42]الطبقات الكبرى 156

[43]اعقد الجواهر الثمين مخطوط فى المكتبة التيمورية ص 32

 

[44]) حسن شمة : مسرة العينين مخطوط ورقة ب .

[45]) الطبقات الكبرى 1145 ، 146                             

[46]مسرة العينين 73  

[47] مجموعة الرسائل والمسائل 173

[48]الطبقات الكبرى 1176   

[49]المناوى الطبقات الكبرى مخطوط 283 ، 284

[50]عبد الصمد : الجواهر 35 : 36   

[51]الطبقات الكبرى 1176   

[52]المناوى نفس المرجع والصفحة  

[53]الطبقات الكبرى نفس المرجع والصفحة  

[54]عبد الصمد الجواهر 107، 108

[55]المناوى نفس المرجع والصفحة

اجمالي القراءات 16656