وهم الضربة الجوية

رائف الويشي في الخميس ٠٧ - أبريل - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

تناولنا فى الحلقة الأولى الموقف العام للقوات المصرية والإسرائيلية على جانبى القناة قبل الحرب .. وتناولنا فى الحلقة الثانية مجموعة القرارات الكارثية العسكرية التى اتخذها السادات فى مركز القيادة العامة أثناء الحرب وهو غير المؤهل لذلك ... تناولنا فى الحلقة الثالثة مجموعة القرارات الكارثية التى اتخذها السادات على طاولة المفاوضات مع اليهود بعد وقف المعارك وما أدت إليه من أضرار بالأمن القومى المصرى بأكثر مما اتخذه من قرارات أثناء المعارك ..

نتناول اليوم فى الحلقة الرابعة موضوعا هاما آخر أقبل عليه السادات ، شغل ومازال يشغل عقل الباحثين وهو اختيار الفريق حسنى مبارك قائد القوات الجوية فى حرب 73 كنائب له ؟! ..

ربما يكون من الأفضل أن نبدأ حلقتنا بمجموعة من الأسئلة التالية :

- هل كان السادات صادقا عندما قال أنه اختار مبارك كنائب له بسبب دور القوات الجوية الحاسم فى حرب أكتوبر ؟ ..
- هل نتجنى على السادات وندعى أنه لم يكن صادقا فى كلامه لأن الضربة الجوية كانت محدودة النتائج جدا ومغامرة كبيرة قياسا بنتائجها المتوقعة ؟ ..
- هل يتهمنا البعض بالجهل إذا قلنا أن الضربة الجوية المصرية كانت نفسية فقط لإرضاء الشارع وليست ميدانية ومن باب فعلنا بهم كما فعلوا بنا ؟ ..
- هل أنجزت الضربة الجوية المصرية فى 73 ما نسبته 1 % مما أنجزته مثيلتها الإسرائيلية فى 67 ؟..
- ألم تبين نتائج حرب الاستنزاف أنها كانت عبارة عن غارات من الطيران الإسرائيلي على مراكز القوة المؤثرة فى الجيش المصرى وهى ترتيبا قوات الدفاع الجوى أولا ومراكز الصاعقة ثانيا وقطع المدفعية ثالثا ؟ ..
- إذا كان الدفاع الجوى المصرى هو الأخ الأكبر لعملية العبور ، حيث احتضن كل إخوته فى صدره وتحت " مظلته " وتقدم بهم ونفذ ما هو مطلوب كما توقع المختصون وكما حدث فعلا ، ألم يكن سلاح المهندسين هو مفاجأة حرب 73 ؟..
- ألم يذكر ديفيد اليعازر – رئيس الأركان – فى مذكراته أنه سأل وزير دفاعه – ديان - قبل الحرب عن إمكانية عبور المصريين للمانع المائى ، فرد عليه باطمئنان بأنهم فى حاجة إلى سلاحى المهندسين الأمريكى والسوفيتى معا لإنجاز العبور ؟ ..
- ألم يكن سلاح المهندسين هو السلاح الوحيد الذى يتواجد قادته الكبار فى الخطوط الأمامية وأسماء الشهداء من قادته تثبت ذلك ؟ ..
- ذكر السادات أنه كان يريد نائبا له من أبطال العبور ، ألم يكن سلاح المهندسين بما يتوافر من أفراده من كفاءة علمية تحتاجها مصر وما قدم من عمل ومن شهداء يستطيع توفير ذلك ؟ ..
- هل أضاع السادات فرصة ذهبية لتقديم رجل عسكرى مهندس يفكر بطريقة علمية ويكون كمرحلة انتقالية لدخول الديمقراطية الحقيقية ؟
- من هم القادة الحقيقيون الذين بنوا الطيران المصرى بعد النكسة ؟ ..
- لماذا اختار السادات هذا الضابط ليكون نائبا له رغم ما عرف عنه من استخدامه " الوشاية " بزملائه منذ صباه من خلال التقارير الأمنية التى لم يطلبها أحد منه ، ورغم أنانيته الشديدة التى كانت شائعة ، وبلغت منه الآن مبلغا ؟ ..

حسنا .. إننى أناشد كل المختصين المحايدين أن يدلوا بدلوهم فى هذا الشأن .. أعرف أن أبواق دعاية مبارك ستتهم كل من يقترب من الإجابة على تلك الأسئلة بأنه خائن للوطن ، لأن القائد الذى يدفع لهم قد أصبح هو الوطن والوطن قد ذاب فى جسده .. سنحاول رغم تلك التهم الجاهزة أن نقدم الإجابة على تلك الأسئلة :

* إذا كان " القياس " يعتبر أحد مصادر القضاء الشرعى والفصل فى المنازعات ، فإننا لابد أن نذكر هنا الضربة الجوية الإسرائيلية فى 5 يونية 1967 كى نقيس عليها ، نستطيع على أية حال معرفة نتائجها سريعا ومن خلال حادثتين فقط ، وهما ما يلى :

الحادثة الأولى :
صدرت من الفريق عبد المنعم واصل فى كتابة " الصراع العربى الإسرائيلى ، مذكرات وذكريات " فى ص 129 حيث كان حينها برتبة عميد وقائدا للواء 14 المدرع المستقل وكان يقف مع 28 عميد ولواء من قادة الجيش فى التاسعة إلا الربع صباح 5 يونيه فى طابور التشريفات فى مطار تمادا انتظارا لوصول طائرة المشير عامر وشاهد الضربة الجوية على المطار .. أخرج العميد واصل ورقة من جيبه – بعد أن شاهد حجم الدمار وطريقة التنفيذ – وكتب فيها " قامت الحرب ، خسرنا الحرب " !! ..

الحادثة الثانية :
صدرت من الجنرال عزرا وايزمان رئيس عمليات الجيش الإسرائيلى فى 1967 والأب الروحى للطيران وابن شقيق حاييم وايزمان أول رئيس لإسرائيل ، فقد اتصل فى الثانية والنصف ظهر يوم 5 يونيه بزوجته " ريما أشفرس " التى كانت مع شقيقتها – زوجة ديان وزير الدفاع – فى روما وأخبرها أن الحرب " انتهت " وطلب منها العودة !! .. انتشرت القصة على نطاق واسع داخل إسرائيل وجرى فيها تحقيقات بزعم أن وزير والدفاع ورئيس العمليات قد أخرجا زوجتيْهما إلى أوربا وقت الحرب هربا من قصف الطائرات العربية المتوقع على تل أبيب ..
عزرا وايزمان - الطيار السابق فى الجيش البريطانى – كان قد أخذ فى 1958 نماذج الضربة الجوية الإنجليزية على مصر فى 1956 ودرب عليها الطيارين لمدة سنوات متواصلة وأجرى علها تطويرا كبيرا ناتج من ظهور ذخيرة جديدة ..

قام الطيران الإسرائيلى بتنفيذ الضربة الجوية فى 5 يونيه 1967 وعلى جميع المطارات المصرية فى تمام الساعة 8.45 صباحا وعلى أربع موجات استمرت لخمس ساعات وربع متواصلة دون انقطاع وشملت جميع مطارات مصر وطالت حتى تلك التى كانت بعيدة فى الصعيد ومطروح ..
كانت الموجة الأولى مكونة من 195 طائرة واستمرت حتى العاشرة – أى لمدة ساعة وربع - وشملت 7 مطارات وكانت مهمتها ضرب الممرات باستخدام قنابل خاصة شديدة الانفجار والانتشار تسمى " ديورن ديل " .. الموجة الثانية بدأت فى العاشرة واستمرت ساعتين وكانت مكونة من 165 طائرة وشملت 11 مطارا .. الموجة الثالثة والرابعة انتهتا فى الثانية ظهرا وأخرجتا الطيران المصرى من المواجهة ..

النتيجة على الأرض هى تدمير القاذفات المصرية بنسبة 100 % والمقاتلات بنسبة 90 % وبلغت فى تحديها أنها كانت تمر فوق الهدف المطلوب قصفه من ثلاث إلى خمس مرات لتتأكد من تدميره .. أما الأثر فى القيادة العسكرية المصرية فقد كان بمثابة " شاكوش " ثقيل الحجم على رأس القيادة المصرية جعلها " تطب ساكت " وتصدر قرارا كارثيا بالانسحاب من سيناء فى الخامسة من مساء اليوم التالى ..

* الضربة الجوية المصرية : بدأت فى الثانية من ظهر 6 أكتوبر 1973 وكانت بقوة 220 طائرة ومكونة من موجة واحدة وانتهت بعد ربع ساعة وكانت على أهداف محددة فى سيناء فقط وعددها سبعة ، وكما ما يلى :

ـ مطارات المليز وتمادا ورأس نصرانى ..
ـ عشرة مواقع صواريخ أرض جو طراز هوك .. -مواقع مدفعية بعيدة المدى..
ـ ثلاثة مواقع رادار ومراكز توجيه وإنذار .. -محطتا أم خشيب وأم مرجم للإعاقة والشوشرة فى سيناء .. -ثلاثة مناطق شئون إدارية ..
ـ النقطة القوية شرق بور فؤاد ..

لم توفر المصادر المستقلة أرقاما دقيقة عن حجم الخسائر التى تكبدتها إسرائيل من جراء تلك الضربة الجوية ، وهذا معناه فى الأبجديات المصرية أن الأمر لم يكن أكثر من انتقام نفسى ولا أثر له ميدانيا .. كما أن إسرائيل التى ذكرت خسائرها فى أكثر من منطقة لم تتوقف كثيرا أمام الضربة الجوية المصرية ويعنى ذلك أنها كانت محدودة التأثير ، رغم أنها ذكرت الضربات التى تلقتها من أسلحة مصرية أخرى ..

قيل بعض الكلام عن تدمير ممرات المطارات الثلاثة فى سيناء ، لكن هل كان الإسرائيليون فى حاجة إليها مع توافر الطائرة المقاتلة طويلة المدى لديهم والتى تنطلق من داخل إسرائيل ؟! .. من ناحية أخرى فإن إسرائيل أصلحت فى اليوم التالى تلك الأماكن التى قصفت باستثناء محطتى أم خشيب وأم مرجم فقد نقلتا إلى أماكن بديلة ..

ما هى الأهداف العسكرية المرجوة من قصف عشرة مواقع صواريخ أرض جو إذا كانت الضربة المصرية مكونة من موجة واحدة ولن تدخل سيناء مرة ثانية ، خاصة بعد استيقاظ الطيران الإسرائيلى وتواضع الطيران المصرى أمامه ؟! ..

هل كانت الضربة الجوية المحدودة النتائج بمثابة إيقاظ لديناصور من نومه ولا تعدو عن كونها فرقعه إعلامية ؟! .. ألم يكن الوادى والدلتا والصعيد فى حاجة ماسة لتلك الطائرات لصد الاختراقات الجوية التى لابد وأنها قادمة بدلا من الزج بها فى مغامرة ليس لها الأثر الميدانى على الأرض ؟! ...

* إذا عدنا مرة أخرى إلى السادات ، فإن المراقب المجرد من التحيز يستطيع القول أنه قد مر بمراحل ثلاث خلال فترة حكمه ولم يكن كسابقه فى كل مرحلة ، وذلك كما يلى :

المرحلة الأولى : استمرت لمدة ثمانية أشهر وانتهت فى 15 مايو 71 وكان السادات خلالها صورة فقط كرئيس ولكنه لم يكن مسيطرا على الأحداث وكانت لهجته عند الحديث هى " نحن " إلى أن تخلص من منافسيه باعتقالهم فى السجن الحربى ..

لقد أوشك السادات على الوقوع فى قبضة وزير الحربية الفريق أول فوزى – وهو مع رياض والجمسى والشاذلى يعتبرون مفخرة ونجوم العسكرية المصرية الحديثة – بسبب توافر الأدلة على عمالته لأمريكا لدى بعض الأجهزة الأمنية المصرية ، لولا مساعدة ثلاثة من مناصريه ، وهم ما يلى :
* أولا : الفريق الليثى ناصف قائد الحرس الجمهورى آنذاك والذى تولى بقواته الحماية الشخصية للسادات وعائلته ..
* ثانيا : الفريق محمد أحمد صادق رئيس الأركان والذى كان على خلاف فكرى مع الفريق أول فوزى وقد تمكن من السيطرة على الجيش .. * ثالثا : اللواء ممدوح سالم محافظ الإسكندرية وأشهر ضابط أمن دولة والذى وفر العناوين التى يتواجد بها معارضوا السادات مما سهل القبض عليهم ..

المرحلة الثانية : بدأت 16 مايو 1971 وفيها اشتد عود السادات فيها بعض الشيء ، لكنه كان ما يزال يعطى وزير الحربية الفريق صادق الشعور بأنه صاحب الفضل ووعده أكثر من مرة بأن يكون خليفته فى الحكم إذا حدث وغادر الدنيا ( مذكرات الفريق صادق ).. الواقع كما رواه الفريق صادق عدة مرات هو أن السادات وهو فى أفضل أوقات التفاهم معه كان يخفى مسدسا تحت أوراق الجرائد أثناء الاجتماع به ..
فى منتصف تلك المرحلة – 26 أكتوبر 1972 - تم عزل الفريق صادق ومنعه من الخروج من منزله وتولى الفريق أحمد إسماعيل مكانه وألقى فى آخرها - 24 أغسطس 1973 - بالفريق الليثى ناصف من عمارة ستيورت تاور فى لندن ( نفس العمارة التى واجهت سعاد حسنى فيها نفس المصير فى يونيه 2001 !! ) ..

المرحلة الثالثة : بدأت مع حرب أكتوبر وفيها أظهر السادات عن شخصيته الحقيقية .. فرعون لا يتقبل وجهة النظر أو المناقشة ولا يريد إلا موظفين بجواره يأمرهم فيتسارعوا وهم فى حالة هلع لتنفيذ أوامره ( زاد الوضع سوءا فى حكم مبارك ولعل القارئ يتذكر قول يوسف والى فى 2005 عندما قال بأن وزراء الحكومة المصرية عبارة عن سكرتارية عند مبارك ) ..

يقول د. محمود جامع الطبيب الخاص للسادات وصديقه منذ طفولته فى كتابه " عرفت السادات " ما يلى :
" من الطريف أن السادات كان يفكر فى آخر أيامه أن يلبس لباسا فرعونيا ويركب مركبة فرعونية ويسير بها فى شارع الهرم حتى منطقة الأهرامات وأبو الهول فى مهرجان شعبى كبير ، كانت الفكرة فى ذهنه تماما ولكنها لم تتم نظرا لاغتياله" .

بدأت تلك المرحلة بإخراج عدوه اللدود فى الجيش وهو الفريق سعد الشاذلى فى 12 ديسمبر 73 وهو الذى يعرف تفاصيل قرارت السادات الكارثية فى غرفة العمليات ، وقد أخذ الشاذلى احتياطاته لعدم تكرار سيناريو الفريق الليثى .. واصل السادات طريقه فى السيطرة على الحكم بقبضة حديدية بإخراج عدوه اللدود فى السياسة وهو نائبه حسين الشافعى فى 4 أبريل 75..

أصبح الملعب خاليا أمام السادات ، النصر فى جيبه بعد أن أخرج الشاذلى خارج البلاد والشعب الذى لا يدرى - وفى أحيان كثيرة لا يريد وبإصرار أن يدرى - يصفق له والأموال العربي أخذت فى التدفق على مصر ( وقد نسى منها مليون جنيه فى حسابه الخاص فى عام 75 !! ) ..

يقول السادات نفسه عن تلك المرحلة الثالثة فى كتابه الذى أصدره بعد الحرب – البحث عن الذات – ما يلى :
" حكمتك يارب .. كل الناس فى العالم العربى بيأخذوا دلوقتى أوامر منى ، أقول أى شيء فيقولون حاضر يافندم " ..

توافر فى حسنى مبارك شرطان كانا دائما فى عقل السادات عند اختياره للنائب الجديد له .. الأول هو أن يكون النائب من محافظته ( وهو ما أكده أيضا طبيبه الخاص وصديق طفولته د. محمود جامع ) .. الثانى هو الطاعة العمياء وكلمة حاضر يافندم مهما صدر له من أوامر ومهما ارتفع صوت السادات وصراخه فى وجهه ، كان السادات مازال حتى تلك الفترة يعانى فعلا من حجم نائبه حسين الشافعى أمام المواطنين ( صرح د. جامع لإحدى الصحف الحزبية فى مصر بأن السادات قال له فى تلك الفترة وبأسلوبه القروى الذى عرف عنه " يا محمود أنا عاوز واحد يركب الحمارة وما ينزلش من عليها إلا بالأمر " !! ) ..

نشطت شعبة الرأى العام فى أمن الدولة على إثر ذلك فى القيام بحملة إعلامية مكثفة لتسويق " المنتج الجديد " الذى ظل لمدة أسبوع يظهر بجوار السادات غير مبتسم كصورة من صور الصرامة والحزم ، كما كان يظن ..
لاحظ السادات ذلك وقام بتنبيهه بأنه الآن فى العمل المدنى ويحتاج إلى إظهار بعض الكياسة بابتسامة خفيفة أمام الكاميرات .. " حاضر يافندم " ، قالها مبارك برضى وسعادة لكنه نفذها بطريقته .. عاد السادات إليه مرة أخرى بعد أيام " إيه ده يا حسنى ، أنا قلت لك ابتسامة خفيفة ، خير الأمور الوسط يا أخى !! " .. فقد السادات الأمل فى نهاية المطاف فى دفع نائبه الجديد إلى كيفية مواجهة الكاميرات ، أما نتيجة ذلك فكانت كما يعرف الناس وكما أطلقوا عليه ، ولم ينسها مبارك أبدا لشعب مصر ..

فى آخر تلك المرحلة تنبه السادات أن مبارك لم يكن الشخص الذى كان يظنه فقد تمسكن ويحاول أن يتمكن .. هو نفسه فعلها مع عبد الناصر حتى تمكن من الحكم ، لكنها كانت ثقيلة على نفسه أن يفعلها مبارك معه لأنه كان قد وصل إلى درجة " المعلم الكبير " ، لم تغادر عقله حقيقة أنه هو من كان يسمى عبد الناصر بـ " المعلم " ، والحق أن عبد الناصر كان يستحقها بجدارة ..
وضع السادات خيارات سريعة أمامه لأن الأمر لم يكن يحتمل التأخير وقد لعبت زوجته جيهان السادات دورا نشطا فى ذلك .. كان هناك ثلاثة بدائل لشغل منصب النائب : عبد القادر حاتم ، كمال حسن على ، منصور حسن ..

كان القرار جاهزا فى مكتب السادات قبل أيام من موته مباشرة .. " يا فوزى ( يقصد سكرتيره الخاص فوزى عبد الحافظ ) ، سيبه يحضر العرض وبعد كده خليه يروح ، خلاص مفيش شغل له عندى ، أنا كنت فكره موسى طلع فرعون " ..

وجاء يوم العرض وما أدرى الفراعنة بيوم العرض !.. طبقا لرواية اللواء أحمد سرحان – مدير أمن رئاسة الجمهورية فى زمن السادات وأحد أشهر ضباطها – فإن السادات كان يجلس وسط حماية العشرات من أفراد ثلاث شركات أمنية أجنبية متخصصة ، أمريكية وكورية جنوبية وتايوانية ..
أخبر السادات – والراوى مازال سرحان – القناص الذى كان يقف أمامه بأن يقف وراء المنصة قائلا " روح قف ورا .. عبود سيأتى من الخلف ".. ربما كان السادات تحت تأثير المكالمة التليفونية التى كانت مع وزير داخليته – النبوى إسماعيل – فى اليوم السابق والتى تنبأ فيها النبوى بأن مقدم المخابرات الهارب عبود الزمر – والذى حاول اغتيال السادات فى مدينة المنصورة فى الأسبوع الذى سبق – قد يأتى من الخلف وسيكون جميع من فى المنصة " تحت رحمته " ، كما قال النبوى للسادات نصا ..

فى عشرين ثانية ينتهى كل شيء .. أكثر من ثلاثين رصاصة من درجة قناص ممتاز ( بمعنى أن الواحدة منها تكفى للقتل ) تستقر فى جسد السادات .. يقفز أحدهم ( عبد الحميد عبد العال ) إلى داخل المنصة كى يتأكد بنفسه ويضرب المقاعد بيديه ليصل إلي السادات .. يجد مبارك مختبئا تحت أحدها .. مبارك يستجدى ويصرخ " أنا فى عرضك ، أنا ماليش دعوه والله ، أنا عبد المأمور ، أنا فى عرضك ، أنا فى عرضك ..." ، يخبره قائد المجموعة من خارج المنصة " إحنا مش جايين لك ..إحنا عايزيين الـ....." ..

تنتهى حقبة السادات فى حادث المنصة وغادر العرض الأرضى إلى عرض آخر لا تخفى فيه خافية .. إلا أنه ورغم رحيله فما زال الشارع العربى عامة والمصرى خاصة يطرح ملفات أربعة تحتوى داخلها على أسئلة عديدة :

1- ما هى حقيقة ما نشرته صحيفة الواشنطن بوست فى 25 نوفمبر 1977 على لسان بوب ودوارد – أشهر صحفى فى العالم وتعتبر مقالاته مصدر ثقة فى كل الدوائر السياسية العالمية - ومفاده أن السادات كان يعمل لصالح وكالة المخابرات الأمريكية منذ الستينات ؟! ..
وما هى حقيقة ما أخبر به الفريق أول محمد فوزى بأن المخابرات العامة - أثناء عمله مع السادات كوزير للحربية - رصدت اتصالات وطرفاها كانا منزل السادات وإسرائيل ؟! ..
وما هى حقيقة ما أشيع ومفاده أن الشخصية الخليجية المعروفة فى عالم المخابرات ( ك أ ) هو من كان يقف وراء تجنيد السادات لصالح الـ C.I.A فى ستينات القرن الماضى نظير 5 آلاف دولار فى الشهر ؟..

2- ما هو سر رحيل الرئيس عبد الناصر ولماذا رفضوا تشريح جثته للوقوف على حقيقة ما جرى ؟! ..شهد عام 1970 قمة التعاون العسكرى بين مصر والإتحاد السوفيتى حيث حضرت إلى مصر فرقة سوفيتية كاملة للدفاع الجوى ( الفرقة 28 من طراز سام 3 ) وطائرات بطياريها السوفييت ومحطات إنذار رادارية حديثة بأطقمها ، فهل كان هناك علاقة بين هذا وبين رحيل عبد الناصر ؟!..
من المعروف أن إسرائيل دفعت ثمنا باهظا فى أعداد القتلى فى سنوات الاستنزاف الثلاث ، فهل هناك علاقة بين وقف إطلاق النار فى 8 أغسطس 1970 وبين رحيل عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970 ؟

3- من يقف وراء طرد الخبراء السوفييت فى عام 1972 وفى فترة كنا أشد الحاجة فيها إليهم سياسيا وعسكريا ؟! .. هل ما حدث كان يمثل طلبا أمريكيا لإثبات جدية الدور الذى يلعبه السادات منذ أن تم تجنيده فى أواسط الستينات لصالح المخابرات المركزية ؟ ..

4- إذا كان ما ذكره بوب وودرد صحيحا ، فهل حرب أكتوبر لا تخرج عن كونها مباراة مصارعة على الطريقة الأمريكية والمخرج كان فى واشنطن ؟! ..
تبدأ المباراة بـ 1/ صفر وتنتهى بـ 1/ 1 ، وتتخللها قصة الثغرة التى تعمد السادات صناعتها بقراراته كشوكة فى ظهر الجيش كى يجد مبررا أمام الشعب والجيش لمفاوضات مباشرة مع اليهود بحجة إنقاذ حياة عشرات الآلاف المحاصرين فى الجيش الثالث ، ثم يتم تطوير تلك المفاوضات باتفاقية تمثل خنجرا على رقبة الأمن القومى المصرى مع بنودها السرية التى تظهر بين حين وحين ، وهنا تنتهى قضية فلسطين والمقدسات بإخراج أقوى جيش عربى من الساحة ..

أليس هذا هو سيناريو تجنيد العملاء دائما : أموال ، منصب ، التوريط والحصول على أدلة بالصوت والصورة ، تقديم التنازلات اللامعقولة وإلا التهديد بكشف السر والقتل إذا رفض العميل تقديم التنازلات ؟ ..
أليس هذا هو السيناريو الذى حدث لاحقا مع رئيس بنما مانويل نورييجا وعميلهم الذى خرج عن طوعهم فقبضوا عليه فى 21 ديسمبر 1989 فى غزو عسكرى أمريكى وما زال قابعا حتى الآن فى السجون ؟ ..
أليس هذا هو نفس السيناريو الذى يحدث الآن مع محمود عباس ، والذى يحيط نفسه بمجموعة من الخونة الذين باعوا أنفسهم للصهاينة فة مقابل مصالح شخصية ؟..

* فى لحظات كان مبارك ( ضابط الوشاية السابق ) قد قفز على سدة الحكم ، ودخلت مصر بقدومه فى سنوات عجاف فى عمق نفق مظلم لم يتنبأ به أسوأ المتشائمين .. لقد استفاد من خبرته الطويلة فى اللعب على الحبل وأخذ قرارا منذ اليوم الأول له بأن يكون الملعب خاليا إلا منه .. أصبحت مصر فى عهده غنيمة شخصية له وتوعد من تؤيده الجماهير بدفع الثمن ..

دفع الثمن غاليا المشير أبو غزالة فقد منع من مغادرة مصر حتى فى مراحل مرضه الأخيرة رغم مناشدة أصدقاء مبارك له من الرؤساء والملوك بالسماح بخروجه للعلاج ..
كان مبارك يخشى من انتقام المشير له بإفشاء الأسرار التى يعلم تفاصيلها عنه ، خاصة الشخصية ومنها مقتل ممثلة مصرية معروفة فى لندن حيث نفذ الحادث كى يبدو وكأنه انتحار ، بعد أن أقدمت على كتابة مذكراتها التى تقص فيها إجبارها على معاشرة سيد القصر – صاحب الرغبات الشاذة – وإلا حرقها بماء النار ..
كان – رحمه الله – فى حاجة شديدة إلى تلك الضربة للرد بها على الأباطيل التى روجها مبارك باطلا عن حياة المشير الشخصية فى شتاء 1992 عقب إقالته من وزارة الدفاع لتشويه سمعته أمام الشعب ، لكن الدكتاتور الفاسد كان يقرأ عقل المشير جيدا ، لهذا السبب فقط كان خروجه للعلاج يعد ضمن الممنوعات ..
( صرح المهندس حسب الله الكفراوى أكثر من مرة بأن المشير أبو غزالة – رحمه الله - حلف له على مصحف بأنه لم تربطه علاقة مع لوسى آرتين أو غيرها طوال حياته إلا زوجته السيدة أشجان ) ..

دفع الثمن غاليا د. كمال الجنزورى رئيس الوزراء الأسبق بعد أن كثر حديث الناس عن كفاءته وبعد أن تعددت وقفاته فى التدقيق على عمليات بيع القطاع العام وضرورة إشراف الجهاز المركزى للمحاسبات عليها وإعطائه كافة الصلاحيات ، فقام إعلام مبارك بالتشكيك فى كفاءته وأودع قيد الحجز المنزلى ، ثم خفف عنه بصورة محدودة ..

دفع الثمن غاليا د. أيمن نور لأنه تجرأ ووقف يواجه مبارك فى الترشيح الرئاسي فى 2005 ، فقد أعتقل وضرب من بلطجية النظام وأجبر على تناول أدوية الأمراض العقلية فى السجن الذى دخله مظلوما ..

يدفع الثمن الآن د. أحمد زويل بالتلميح فى فساد ذمته المالية لتشويه سمعته أمام الشعب ، بعد انتشار الأنباء عن ترشحه للرئاسة وتقف مكانته الدولية حائلا أمام مبارك فى التحرك بحرية ضده كما فعل بمن سبق ..

أما الشعب المصرى فإنه يدفع الثمن الأغلى عقابا له على عدم الولاء الذى لم يعطه أبدا لمبارك ، هذا الولاء الذى يعتبر أساس الشرعية عند القائد النزيه والمحترم :
ثروات مصر تنهب أو تبدد ، الشعب يهان فى أقسام الشرطة ويعذب فى المعتقلات ، أرضه الزراعية ومياهه تسمم ، الفقر والبطالة والجوع أصبحت من أبجديات حياته للسيطرة عليه عملا بقول الفراعنة " التجويع من أجل التركيع " .. الفول الذى كان طعام الطبقتين المعدمة والفقيرة أصبح طعام الطبقتين المتوسطة والغنية .. أصوله وشركاته التى بناها من عرقه تباع بثمن بخس لمجموعة من الواجهات ، أرضه - ومنها تلك التى دفع الأبطال الدماء الغزيرة لاستردادها فى سيناء وخليج السويس - تباع بثمن بخس إلى فئران السفينة .. شبابه يائسون وهم إما فى الداخل يطحنون بين فكى التطرف والدعارة ، أو فى الخارج يموتون غرقا فى المتوسط أو يذهبون إلى إسرائيل التى تحسن التعامل معهم إلى أقصى حد لأن الجيل القادم منهم سيكون هم قوات النسق الأول والثانى والثالث فى الجولة القادمة مع مصر .. الهدف القومى الذى تلتف حوله الجماهير قد سرق والقيم الاجتماعية التى كانت أهم مكوناته تنهار وتحل مكانهما الدعارة والاحتيال والمخدرات والعنف وثقافة التسطيح وكرة القدم ...

إلى اللقاء فى الحلقة القادمة ..

رائف الويشى
سانت لويس – ميزورى – أمريكا
elwisheer@yahoo.com
 

اجمالي القراءات 12055