سيرة ابن هشام هل أنصفت الحقيقة ؟!
السيرة النبوية

محمود علي مراد في الخميس ٢٤ - مارس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

أردت أن أستغل شيخوختي وغربتي وفراغي في شيء مفيد فقررت منذ سنوات أن أعد رسالة دكتوراه في إحدى الجامعات الفرنسية في موضوع "السيرة النبوية في كتابات المحْدَثين" . وكان موضوع السيرة النبوية يشغلني منذ عشرات السنين , وقد تجمع في مكتبتي ما يزيد عن مائة كتاب بالعربية وبلغات أخرى , عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن عصره .
ولقد لفتت نظري لدى قراءة هذه الكتب عدة أمور أهمها :
- صغر الحيز المخصص للفترة المكية بالنسبة لذلك الذي تشغله الفترة المدنية , علما بأن الفترة الأولى أطول من الفترة الثانية بثلاث سنوات .
- كون الرسول صلى الله عليه وسلم لا يظهر في الفترة المكية إلا بمظهر "المحمي" أو طالب الحماية .
- قلة ما ورد في حديث الفترتين عن دخول الناس في الإسلام , واقتصار قصص تعذيب المسلمين في مكة على حالتي بلال بن رباح وأسرة ياسر .
- خلو الفترة المكية من أي إشارة عن انتشار الإسلام خارج مكة والمدينة (إلا في حالة واحدة) .
- التركيز في حديث الفترة المدنية على حديث السير والغزوات .
وقد بدت لي هذه الأمور غريبة , وكان من الواضح أن المعلومات التي وردت بشأنها في كتب السيرة الحديثة مستقاة من مصادر واحدة تبين لي أن أهمها هي سيرة ابن هشام , وبالرجوع إلى هذه السيرة اتضح لي فعلا :
أولا : أن الجزء المخصص فيها للفترة المكية ابتداء من مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وصوله إلى المدينة أقل من مائتى صفحة (من طبعة السيرة الصادرة عن مكتبة محمد علي صبيح سنة 1971 والتي حققها محمد محيي الدين عبد الحميد , وهي طبعة خالية تقريبا من الحواشي) , بما في ذلك قرابة 30 صفحة يتناول الحديث فيها موضوع انتشار الإسلام في المدينة وبيعتي أهل المدينة مع الرسول وأسماءهم , بينما يشغل الجزء المخصص للفترة المدنية نحو ألف صفحة , فإذا اعتبرنا أن الفترة المكية كانت فترة سلام وأن الفترة المدنية كانت -طبقا لتصوير المؤلف- فترة حرب كان حديث السلام في سيرة ابن هشام خمس حديث الحرب وكان الحكم العام الذي يستخلص من هذه النسبة أن رسول الإسلام كان رسول حرب لا سلام , وأن الإسلام بالتالي دين حرب لا سلام .
ثانيا : أن حديث الفترة المكية يكاد يدور كله حول محور واحد وهو حماية الرسول صلى الله عليه وسلم فأهم حدث رأى المؤلف أنه جدير بالتسجيل في السنوات الثلاث الأولى من البعثة , غير إسلام 53 رجلا وامرأة من قريش , هو قول أبي طالب للرسول "أي ابن أخي والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت" ، وأهم أحداث سجلها بعد مبادرة الرسول صلى الله علي وسلم قومه بدعوته هي مطالبة قريش أبا طالب بكف محمد عنهم , واستخدامهم في ذلك جميع الوسائل , وصمود أبى طالب لوعيدهم بالحرب ولإغراءاتهم , ودعوته قبيلته - بني عبد المطلب وبني هشام - للدفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم وحماية هذه القبيلة لمحمد صلى الله عليه وسلم , هذه الحماية التي يرجع إليها الفضل – كما يقول النص – في كون الرسول لم يهاجر إلى الحبشة مع من هاجر إليها من المسلمين , والتي كانت فيما بعد سببا في مقاطعة قريش لبني عبد المطلب وبني هشام , ومؤدى هذه الحماية أن محمدا صلى الله عليه وسلم مدين ببقائه على قيد الحياة لقبيلته وأن الإسلام مدين لهذه القبيلة - بالتالي - بوجوده . ومقولة هذه الحماية تثير عدة مشكلات :
- فإنها تعني أن الذي حمى الإسلام هم الكفار لأن قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسلم منها حتى نهاية الفترة المكية سوى ثلاثة علي (الذي كان عند إسلامه صبي في العاشرة من عمره) وجعفر وحمزة , وهو زعم لا يمكن قبوله , وخاصة أن القرآن كان يلعن الكفار - ولا يستثني قبيلة الرسول - دون توقف ويعدهم بنار جهنم .
- إذا كان الأساس الذي استندت إليه حماية بني عبد المطلب وبني هشام للرسول هو العصبية القبلية فقد كان المفروض منطقيا أن تحكم هذه العصبية علاقة القبائل الأخرى بأعضائها المسلمين وأن يتمتع هؤلاء أيضا بحماية قبائلهم ، ولكن النص يقول "إن قريشا تزامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم" .
- كيف يعقل أن يحمي أبو طالب ابن أخيه ولا يحمي فلذة كبده جعفرا الذي اضطر إلى الهجرة إلى الحبشة فرارا من الاضطهاد ؟
- أي الأمرين أقرب إلى التصديق : أن يكون الذي حمى الرسول هي قبيلته الكافرة أم أن يكون الذي حماه هم أصحابه ؟ إن النص لم يذكر كم كان عدد أفراد قبيلة الرسول وكم كان عدد المسلمين (إلا بعد السنوات الثلاث الأولى من الرسالة) . ولكنه تضمن عناصر تسمح بتقديرهم بصورة تقريبية , لقد كان لهاشم بن عبد مناف أربعة أولاد هم عبد المطلب وأسد وأبو صيفي ونضلة , وكان لعبد المطلب عشرة أولاد , فإذا افترضنا أنه كان لكل واحد من أبناء هاشم - غير عبد المطلب - سبعة أبناء ذكور (متوسط أبناء هاشم وعبد المطلب) لكان أحفاد بني هاشم 31 , ولو افترضنا أنه كان لكل واحد من هؤلاء الأحفاد سبعة أولاد لكان عدد بني هاشم جميعا في عصر الرسول نحو 250 ولكان عدد بني عبد المطلب من بينهم 64 (مع مراعاة أن أحدهم , وهو عبد الله , لم يكن له سوى ابن واحد وهو محمد صلى الله عليه سلم , أما المسلمون فقد هاجر منهم إلى الحبشة 83 في السنة الخامسة أو السادسة بعد البعثة , فلو افترضنا أن من هاجر منهم إلى الحبشة واحد من كل عشرة - وهي نسبة منخفضة للغاية - لكان عدد من بقى في مكة من المسلمين 747 , أي ما يقارب من ثلاث أمثال بني هاشم , ولكن النص منح الفضل كله في حماية الرسول صلى الله عليه وسلم لقبيلته , التي كانت كافرة وقليلة العدد , ولم يمنحه , بل لم يمنح أدنى جزء منه , لأصحابه المؤمنين الكثيرين , وهو زعم يخالف العقل والمنطق !
- يقول النص إن الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الحماية من ثقيف ومن حجاج أربع قبائل , بعد وفاة عمه أبي طالب , وهو ما يعني أن بني عبد المطلب وبني هاشم نزعوا حمايتهم عن الرسول بعد موت أبي طالب , فما الذي منع قريشا - التي يقول النص إنها عرضت على أبي طالب أن يأخذ عمارة بن وليد بن المغيرة له ولدا وقالت له : " أسلم الينا ابن أخيك هذا .. فنقتله " - من قتل محمد خلال السنوات الثلاث التي انقضت من وفاة أبي طالب إلى أن أتاها خبر بيعة الحرب ؟
ثالثا : إذا كانت قصة حياة أي رسول هي أولا وقبل شيء قصة ردود الفعل التي أحدثتها دعوته في الناس , أي قصة من اهتدوا بهداه ومن رفضوا هذا الهدى , وما لاقاه المؤمنون من عذاب واضطهاد بيد الكفار , فإن ما نجده من هذا في النص قليل للغاية . إن من ذكرت قصة إسلامهم بشيء من التفصيل في الفترة المكية كلها لا يتجاوز الخمسة وهم بالتحديد حمزة وعمر من أهل مكة , وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير من أهل المدينة والطفيل بن عمرو الدوسي من قبيلة دوس غير المكية , أما باقي من أسلموا , الذين كانوا في مكة يحصون بالمئات - رغم أن النص يوهم أنهم عشرات - فكل ما سجله النص بشأنهم هو أسماؤهم (بعد السنوات الثلاث الأولى من البعثة , وعند الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة) , وهناك اعتبارات كثيرة تحمل على الشك في صحة ما ورد في النص عن إسلام من حكي قصة إسلامهم .

الإلمام بمبادئ الإسلام

فإذا كانت العصبية القبلية وحدها هي التي دفعت حمزة إلى الإسلام فما الذي جعله الشخص الوحيد من أعمام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي آمن , أما قصص إسلام عمر وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير فهي تقوم على افتراض أن هؤلاء الصحابة لم يتصل علمهم بالقرآن إلا حين سمعوه من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من مصعب بن عمير , وهذا شيء مستحيل فقد كان القرآن يذاع أولا بأول على الناس لدى نزول آياته , وكانت هناك ألوف من هذه الآيات على ألسنة المسلمين وغير المسلمين في مكة كما كانت الجلسات العامة التي لا بد أن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة كانوا يعقدونها لشرحها وللتعريف بمبادئ الإسلام في مواسم الحج وفي غير هذه المواسم قد أتاحت قطعا لعمر ولسعد بن معاذ وأسيد بن حضير مئات الفرص لسماع القرآن والإلمام بمبادئ الإسلام قبل المناسبات التي ذكرها النص .
كذلك فإن ما ذكره النص عن حالات تعذيب المسلمين لردهم عن دينهم لا تعطي فكرة صحيحة عن الأبعاد الحقيقية لهذه الظاهرة , إن النص يقول : إن 83 شخصا من أهل مكة هاجروا إلى الحبشة فرارا من الاضطهاد الذي كان يلاقيه المسلمون على أيدي قبائلهم , وكان هؤلاء المسلمون ينتمون إلى نحو العشرين من قبائل مكة , ومعنى ذلك أن هذا الاضطهاد كان ظاهرة واسعة النطاق ، ومع ذلك فإن حالات التعذيب التي ذكرها النص , وذكرها بإيجاز شديد , لا تتجاوز حالتي بلال بن رباح , الذي كان عبدا , وأسرة ياسر التي لم تكن من أهل مكة بل كانت حليفة فقيرة لإحدى قبائلها , ولو أن مؤلف السيرة كان منصفا في نظرته إلى مسلمي مكة لخصص صفحات كثيرة من كتابه لذكر تفاصيل هذا الاضطهاد وللحديث عن القبائل التي كانت أكثر ضراوة فيه من غيرها , وعن الاجتماعات التي لا بد أن تكون قد عقدت بين القبائل لتنسيق سياستها حيال مسلميها , وعن موقف قبيلتي بني عبد المطلب وبني هاشم بالذات من هذه الظاهرة , وعن جميع المسلمين الذين تعرضوا للتعذيب , وعما أظهره بعضهم من بطولات وبعضهم الآخر من ضعف ولردود فعل المجتمع المكي وهو يرى , لأول مرة في تاريخه , أفرادا تعذبهم قبائلهم لأسباب دينية , وعن موقف الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة من إخوانهم الذين يتعرضون للتعذيب , وعن مشاهد التعذيب , ولكن شيئا من هذا لم يرد في النص .
رابعا : يؤخذ من النص أن بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة مع ستة من حجاج المدينة قبل سنتين من الهجرة كان نقطة التحول في حياة الرسول وفي تاريخ الإسلام , وأحد هؤلاء الستة كانوا أول من آمن برسالة محمد من غير قريش , وهذا قول لا يعوّل عليه , لقد كانت مكة منذ القدم عاصمة بلاد العرب الدينية و التجارية , وكان عشرات الألوف من الحجاج يأتونها من معظم أنحاء الجزيرة كل عام في موسم الحج , وخارج هذا الموسم , للعمرة أو للتجارة أو للزيارة , وكان الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون ينتهزون بالتأكيد فرصة وجود هؤلاء الناس بين ظهرانيهم لدعوتهم إلى الإسلام , ولا بد أن مئات أو ألوفا منهم قد استجابوا لهذه الدعوة , ليس فقط لما لمسوه من إعجاز القرآن الذي اكتسحت بلاغته أروع ما قيل من شعر ومن حكمة قبله , بل كذلك لأن الإسلام استبدل بالخرافات التي كانوا يؤمنون بها وبفوضى أخلاقهم دينا قيما يقرر حقوقا للفقراء ويكرّمهم ويعتبرهم مسئولية الجميع ويحب من يعطيهم ويهدد من يحرمهم , ويحض على مكارم الأخلاق , ويربط الإنسان بإله واحد وهو خالق الكون كله والناس قاطبة , ويقرر مسئولية الإنسان عن أعماله ويكافئ المحسن بالجنة ويعاقب المسيء بالنار ويحقق المثل الأعلى والقاعدة السليمة لحياة الناس , وليس هناك سبب واحد يجيز التسليم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة في مكة , والقرآن الذي كان ينتشر في الآفاق , لم ينجحوا , على مدى إحدى عشرة سنة من البعثة , في استمالة نفر كثيرين من عرب الجزيرة إلى الإسلام , وأن الطفيل بن عمرو الدوسي كان الوحيد من مئات الألوف الذين وفدوا إلى مكة خلال هذه الفترة , الذي لان قلبه لهذا الدين , بل إن من المحقق أن الإسلام قد انتشر في الجزيرة , وأن المسلمين من غير أهل مكة والمدينة كانوا أكثر عددا في الفترة المكية من مسلمي هاتين المدينتين , وأن الإسلام دخل المدينة ذاتها لا قبل سنتين من الهجرة , كما يقول النص , وإنما قبل ذلك بسنوات .


 

اجمالي القراءات 14257