لص بغداد والحكام العرب

نبيل هلال في الأحد ٠٦ - مارس - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

كان "قطع الطريق" إذن في حقيقته رفضا للواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي , كما كان إدانة للعصر والسلطة ونظام الحكم , لذا كان من الضروري إدانة "قطع الطريق" والتشهير بقُطَّاع الطريق وتزييف معاني آية الحرابة بتخصيصها لكل من يخرج على النظام السياسي أو يرفض الطبقية , ولو كانت الآية تقصد القِصاص من اللصوص الذين يسلبون الناس أشياءهم قسرا , لكان القصاص من السلطان والملأ ومجموعات المصالح أَوْلى .  

 وكان ابن حمدي &ute;  لص بغداد الظريف - كما وصفه التنوخي -  من أشهر لصوص القرن الرابع الهجري , وكان يقطع الطريق ويعترض السفن التجارية ويفرض عليها إتاوة محددة , وكان لا يعرض لأصحاب البضائع اليسيرة , واشتهر عنه أيضا تخلقه بأخلاق الفروسية , فكان لا يفتش امرأة ولا يسلبها . ولما أعيا السلطان أمره أمَّنه في سنة 332 هجرية مقابل أن يؤدي اللصُ للسلطان كل شهر خمسة عشر ألف دينار مما يسرقه وأصحابه في مقابل إطلاق يده في جباية القوافل التجارية الواردة على أسواق بغداد ! واحتفت العامة بابن حمدي ورأت فيه سيف النقمة الإلهية الذي سلطه الله على ظلم الظالم ( ولمعرفة المزيد من نوادر  وسيرة هذا اللص الشهير  يمكن الرجوع إلى التاريخ الكامل لابن الأثير , وكتاب الحضارة الإسلامية لآدم ميتز , والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي ) ,  لذا لا غرو أن يبادر الخليفة العباسي بالاستنجاد بالعيارين , على نحو ما حدث سنة 443 هجرية عندما نشبت الفتنة بين السُّنة والرافضة ببغداد ولم يكن بوسع الخليفة أن يفعل شيئا حيالها ,فاستعان بالعيارين مما أغراهم باقتسام السلطة في بغداد , ويصف ابن الأثير ذلك بقوله: " وانتشر العيارون وتولوا أمر السلطة وجبوا الأسواق , وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال , وفي هذه السنوات (444-454 هجرية)انخرقت هيبة الخلافة , وعظم انحلال أمر السلطنة بالكلية . وفي سنة 536 هجرية استفحل خطر العيارين إذ تواطأ معهم ابن الوزير, وابن أخي زوجة السلطان (لا جديد تحت الشمس), فكانا يشاركان اللصوص فيما ينهبانه من الناس-انظر ابن الأثير. وعتم الفقهاء على وضع حد الحرابة موضع التنفيذ وتفعيله على النحو الصحيح الذي أراده الله لمنع الفساد , وقصَره الفقيه على قطع الطريق بالذات ,لأن قطع الطريق وإغارات السلب والنهب من قِبل الفقراء والمعدمين ومن قِبل أعداء السلطة والسلطان , كانت ظاهرة ولم يكن ليحدها إلا قصر الحرابة عليها .

وحد الحرابة هو أوضح مثَل على استغلال ما ابتدعه الفقيه السلطاني من القول بتخصيص العام , فخصصوا حد الحرابة على قطع الطريق وضيقوا مجال تطبيقه .فبدلا من تفعيله لمناهضة الفساد بكل أشكاله العامة المؤثرة تأثيرا شاملا فادحا جعلوه للسرقة بالإكراه , وذلك لأن الظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي دفع الناس إلى تشكيل حركات مقاومة أخذت شكل النهب وقطع الطريق - كما أسلفنا -  فكان لابد من من ابتداع فكرة لتجريم هذا الخروج بسند ديني . وقطْع الطريق له وجه واحد ولا يستدعي عدة أوجه للعقوبة , فهو سرقة قد يصحبها إيذاء المسروق وربما قتله , وليس من مبرر لتعديد العقوبة بين القتل أو القطع من خِلاف أو النفي فيما لو كان مراد الآية يقتصر على قطع الطريق . والفساد الذي نعنيه لا يتضمن ضحية مباشرة –فرد أو بضعة أفراد مثلا- لهم مصلحة واضحة محددة تستدعي التدخل القانوني مثل حالات السرقة الفردية أو القتل مثلا . ومجموع الأمة وجماهير الشعب كيانات غير منظمة , وليس لها أن ترى نفسها كضحايا حقيقيين , ومن العسير أن تتبين بوضوح الضرر الواقع عليها من جراء الفساد ولا سيما إن كان الناس أميين أو جهلة أو متخلفين سياسيا أو مضلَّلين دينيا بدليل أنك ترى الآن من يحرم الخروج على الحاكم الظالم , بل ومن يعتبره كالأب ! فلا تجوز محاكمته من المنظور الأخلاقي أو من باب عفا الله  عما سلف – فللرجل مآثر توجب له غفران المآسي- مع أن الله يحاسب الناس على آثامهم وإن كانوا محسنين (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ). ويجب اعتبار الفساد جريمة لا تسقط بالتقادم ,شأنها في ذلك شأن جرائم التعذيب , فمن عذب فردا لا تسقط جريمته بمرور الوقت , فما بال من ألحق الضرر بأمة بكاملها , وهي جريمة لا يجوز فيها التصالح ولابد من الحيلولة دون أن يستفيد المفسد من جريمته . وفي تراثنا عقوبة الفساد غير محددة بدقة , إذ صُرف النظر عن الفساد -كما أسلفنا- على أنه قطع الطريق , لتجريم المعارضة ,وصرف النظر بعيدا عن الفساد الشامل من الحكام والمؤسسات . فمع جسامة الفساد العام وإضراره الشديد بالمجتمع ,إلا أنه لا أحد يشعر أنه الضحية المباشرة لفساد المفسد , بل قد يواصل الناس الدعاء للشخص المشبوه الذي تحوم حوله شبهة الإفساد . ولو كان حد الحرابة مقصورا على قطع الطريق لمَا تعددت أشكال العقوبة بين قتل ونفي وصلب , وإنما كان هذا التعدد لتنوع أوجه المفاسد , فقطع الطريق جريمة واحدة , ولكن الإفساد من حيث التصنيف يسع مجموعات من الجرائم يناظرها مجموعة من العقوبات , مثلا : تكون عقوبة القتل لمن قتل الناس عشوائيا بالرصاص الحي وللقناصة الذين رموا الناس بالرصاص ولمن دهس الأبرياء بالسيارات في الشارع ولمن استورد الأغذية الفاسدة والأسمدة المسرطنة , فكل ذلك أدى إلى إزهاق أرواح الناس فتكون العقوبة هى الموت .أما النفي مثلا فيكون لمن تنقطع قدرته على الإضرار بالنفي , مثل ناهبي أموال البنوك ومن استولوا على أراضي الدولة , يكون ذلك بعد استرداد ما نهبوه وحبسهم عقابا على جريمة النهب ثم نفيهم بعد ذلك من البلاد كي لا يتمكنوا من تكرار نفس الجرم ولا يُعتبر ذلك عقابين على جريمة واحدة . ومن السخف وخفة العقل أن يقول قائلهم بأن عقوبات حد الحرابة (غير إنسانية)! , أفيؤخذ بالرحمة من لم يرحم أمة بكاملها فسرق أموالها ,وسبَّب لشبابها البطالة ولبناتها العنوسة ,وأصابهم الجهل بعد تدني التعليم , وفتكت بهم الأمراض بعد تدهور الأداء الصحي , ولما هبّ أبناء هذا الوطن المبتلَى للمطالبة بحقوقهم , حصدتهم أسلحة كلاب السلطة . هل من يشرح لي ما المقصود بالخيانة العظمى؟

بتصرف من كتاب "المسكوت عنه في الإسلام بين التقديس والتدليس) لنبيل هلال هلال

اجمالي القراءات 10527