بعض العزاء قتل جديد

محمد عبد المجيد في الإثنين ١٠ - يناير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

دموعُ التماسيحِ لا تتحوّل إلىَ أنْهارٍ، لكنها تـَظـَهَر واضحةً وجَليّةً في ثلاثة أشياء: خطاب الطاغية مبارك، وبيانات حبيب العادلي، وضيوف أنس الفقي علىَ الشاشة الصغيرة!

القرد ميمون يرقص، ويضرب سلام للبيه، ويستجدي نجومَ إعلام الريادة أن يستضيفوه ليبكي علىَ أحوال مصر، ويشكر ساكنَ القصرِ الذي يهتم بأحوالِ رعيتـِه لبضعة أيامٍ بعد كل حادثٍ، ثم يأمر باغتصابِهم!

سيدي الرئيس، وابنه الرئيس القادم، هل شاهدتماني وأنا أبكي علىَ الكنيسة، وألطم وجهي علىَ الضحايا،وأتحدث عن الوحدة الوطنية، وأقوم بابعادِ أيِّ شـُبهةٍ تحوم حولكما؟

هذا ما كان يُحَدِّث كلُّ ضيّفٍ نفسَه به، ويتوقع من الرئيس أنْ يبتسم، ومن ابنـِه أنْ يرقص طـَرَباً!

وزارةُ الداخلية تقول بأنها سيارةٌ مُفـَخخة، ثم تكتشف أنَّ السيارةَ هي حزامٌ ناسفٌ، وأخيراً يصبح الحزامُ عبوةً ناسفةً، لكنها للأمانةِ لم تـُشر إلىَ عِفريتٍ من الجن أو طبق طائر!

كالعادةِ يأتي المثقفون، والفنانون، والأدباء، والسياسيون، وكواكبُ المجتمع، ويرسم الجميعُ الحزنَ علىَ الوجوه، ولو طلب منهم مضيفوهم الحديثَ عن الكُرَةِ الجزائريةِ وكنيسة القديسيّن، فلا مانع من دمعةٍ علىَ الاسكندرية، وأخرى علىَ كرامة المصري في أم دُرمان، وربما يقول أكثرهم نِفاقاً بأنَّ إنفصالَ جنوب السودان كان بسبب اهانةِ المصريين علىَ ملاعب خضراء في بلدٍ سمراء بقارةٍ سوداء تسيل فيها دماءٌ حمراء!

مبروك لأعضاءِ مجلسِ الشعبِ الـمُزَوَّر فأحزانُ الأقباطِ خطفتْ المشهدَ، وصفوة المجتمع المصري مطلوبٌ منها أنْ تتحدث في كل شيءٍ، لكنها لا تقترب من فضيحة الانتخابات البرلمانية، ولا تشير إلىَ فضيحة الانتخابات الرئاسية القادمة، ففيها ينافس مباركٌ مباركاً، والنتيجة محسومةٌ سـَلَفًا لصالح الاسمِ وليس الشخص، والكرباج الذي سيسلخ به ظهورَنا يمسكه الاسمُ أيضا وليس الشخص.

ضيوف أنس الفقي لم تسقط علىَ وجوهِهم الناعمة دمعةٌ واحدةٌ علىَ سيد بلال الذي قتله ضباط الأمن تعذيبا، وتيتَّم ابنُه الوحيد الذي بلغ الثالثةَ من عمره، فوالدُه كبشُ الفداء الأول في صفٍ طويل لا يعرف أحدٌ نهايتـَه، وقد تكون نهاية آخر مصري في أرض الكنانة!

كل الذين تحدثوا، وكتبوا، وغضبوا، وبكوا، وحزنوا من أجل الوحدة الوطنية، ورسموا الهلالَ والصليبَ، لم يقتربوا من المجرم الحقيقي، ولم تفضحهم وجوهُهم رغم أن مساماتها كانت ترتعش خشية أن يقرأ الطاغيةُ فيها عكس ما تصف ألسنتُهم.

سيداتي سادتي،

هل سمعتهم عن الاستبداد والطغيان والديكتاتورية والسطوة والاستعباد والاستحمار؟

إنها جذورُ الطائفية، والتمييز، والعنصرية، والتعالي، والفوقية، والكراهية، والبغضاء، و ... الفتنة الطائفية.

من ظن أنها مفاجأةٌ فليتبوأ مقعدَه في عالم الساذجين، والبلهاء، والحمقى!

كل الدلائل كانت تضع أصابعَها في عيونِنا، وتـُخرج لنا ألسنتـَها، وتكاد تقرأ بصوتٍ جهوري يـُفزع الوحوشَ مُنَبـِهَةً إلىَ وطنٍ يحترق بعضُ أبنائـِه فيصمت، ويستعد طاغيتُه لحرقِه كلـِّه، فسيدي بو زيد ليس مصرياً، والمطلوب فوراً استيراد تونسي يعرف مقدارَ كرامتـِه، فيشعل النارَ في نفسه بمسرح الجريمة في الثغر، ويدخل السيدان، سيدي بوزيد وسيدي بشر، التاريخَ من باب أعتى طاغيتين: مبارك و .. بن علي.

لماذا لا يصف الأطباءُ لمرضى الغثيان العلاجَ الأنجعَ والأسرعَ وهو مقاطعة المنافقين في الصحف والفضائيات و .. (مصر النهاردة)؟

أفضل الصور وضوحاً بلانهائيات ميجابيكسل هي تلك التي يحفظها الماسحُ الضوئي في أدمغة المنافقين، وهي الصور التي يُحرّكها رئيس تحرير صحيفة قومية كبرى، فيجعل الرئيسَ قبل كل زعماء الدنيا، ولولا الخشية من التهكم الجماهيري لكتب صاحبُنا عن أهمية منافسة مُباركـِنا لأوبامِهم في الانتخابات الأمريكية القادمة، فحبيب العادلي سيشحن صناديق النتائج في طائرة عسكرية لا تسقط فوق نيويورك، فليس فيها 33 خبيرا عسكريا سقطوا من ذاكرة المصريين.

الجزائريون يغضبون من أجل لقمة العيش، والتونسيون يحرقون أنفسَهم احتجاجاً علىَ الغلاء وأمن الدولة و .. الوطن السجن، والليبيون يتحركون ببطء، فملكُ ملوك أفريقيا قادرٌ علىَ دفنِهم في صحراء غدامس أو علىَ حدود تشاد، ثم دفع تعويضات للخزانة الأمريكية فتقتنع الإيطاليات الجميلات بسماحةِ الإسلام!

تفجيرات القديسيّن كانت فرصةً لا يجود الزمانُ بمثلها ليلتحم المسلمون والأقباط في مواجهة عدو المصريين الأول، فإذا بهم يظنون أن الوحدة الوطنية قبلات، وعناق، ووشاح أسود، وتختفي كل ملفات الوطن المسكوت عنها و .. عنه، فالهلال والصليب لا يتعانقان حقيقة قبل تهدئة النفوس من الغل، والكراهية، والتعالي، والتحدث باسم السماء.

الشبكة العنكبوتية مليئة بسيارات مفخخة تم ملءُ خزاناتها بأكاذيب يزعم أصحابُها أنهم عثروا عليها في كُتبٍ مُقدسة، فتفتح موقعا إسلاميا يحدثك عن أهل الذمة من أقباط مصر، ويحاول اقناعك بمنطق متخلف، أعوج أن رسم الصليب داخل الهلال حرام شرعاً، وتفتح موقعاً آخر فتجد أعضاءه الأقباط منشغلين في الحطِّ من شأن الإسلام، لكنهم لا يقتربون من الرجل الذي حَرَمَهم حقوقَهم لثلاثة عقود.

الأقباط أفشل محامين عن قضايا عادلة، فهم أصحاب حق في المساواة الكاملة، وفي تولي كل المناصب، وفي أن يتعلم اخوانهم المسلمون تاريخ النضال القبطي، والفترات المشرقة في مراحل مقاومتهم لقوى الاستعمار، وتحالفهم مع المسلمين لصد الغزوات الهمجية، ورفض الكنيسة زيارة مهد المسيح، عليه السلام، إلا مع اخوانهم المسلمين.

والأقباط قدَّموا للوطن شهداء أكثر مما قدموا للكنيسة، وعبَروا خط بارليف على صيحة الله أكبر، ولم يميّز سفاحو الجيش الصهيوني بينهم وبين المسلمين في صحراء سيناء بعد هزيمة يونيو 67، فتخضبت رمال الصحراء بدماء لا تستطيع معامل التحليل أن تميّز الدمَ المسلم عن الدمِ القبطي.

لكن الأقباط الفاشلين في عرض حقوقهم المشروعة تركوا الأكبرَ لعرضِ الأصغر، وجعلوا همومَهم في أهمية بناء كنيسة هنا أو هناك، وفي الدفاع عن فتاة أو كاهن أو نسبة مئوية تحت قبة برلمان فاسد يتولى تلميعَ نظام نـَتِنٍ يقوم علىَ رأسِه عدوُّ الإنسانية!

والأقباط الفاشلون يتحدثون عن حقوق الأقلية، وعن بعض المناصب الأكاديمية، وفي اتحادات الطلاب، فخسروا قضايا العدل والحق، واكتفوا بمُسَكِّناتٍ لا تسمن ولا تغني من جوع.

وتساوىَ التخديرُ الديني، الإسلامي والمسيحي، أمام السلطة الباغية، ولو كان المسيحُ، عليه السلام، بيننا لقال بأنَّ من ضربك على خَدِّك الأيمن من الحزب الوطني الحاكم وكلاب الطاغية فاضرب عُنـُقَه، ومن أخذ رداءَك ونَهَبَ أموالـَك وسرق قوتَ أولادِك فعصيانُك إياه محبةٌ لأبيك الذي في السماوات.

أقباطُنا .. أحبابُنا، شركاءُ الوطنِ ليسوا العنصرَ الآخرَ، وإنما هم مع مسلميهم عنصرٌ واحدٌ، والقبطي الذي لا يحزن علىَ اعتقال أو موت مسلم سلفي كالمسلم الذي يرى ذرة من الاختلاف بين حقوق المسلمين وحقوق الأقباط.

تفجيرات القديسيّن كان يمكن أن تصبح بدايةَ عصيان مدني ضد الطاغية، وحجباً ذاتيا تقوم به ضمائر المهووسين بفرز الداخلين إلى الجنة عن المرسلين إلى الجحيم!

لم يفهم أقباطـُنا بَعْدُ أنَّ حقوقَهم الضائعةَ في ظل حُكم سلطوي ديكتاتوري لن تكون من نصيبهم ولو شجّوا رؤوسَهم صراخاً، وغضباً، وحزنا، فالطاغية مبارك الذي أوصل مصرَ إلى هذا الوضع المؤسف، والمزري، والمخزي، والكارثي، سيظل خصمَهم الأوّلَ لأنه بكل بساطة عدو المصريين رغم أنف ألسنة عَفِنَة تـُقَبّل حذاءَه نهاراً، وتـُسَبّح بحمده ليلا!

الطيبون الذين طالبوا بعد مذبحة القديسيّن باقالة الحكومة، وخاصة وزير الداخلية، أرادوا، عن غير قصدٍ، تصويرَ مشهد مزيف لحكومة من الشياطين ورئيس من الملائكة، فالحقيقة أن مبارك هو الشيطان الذي يتلبسنا، ولن يخرج بالطبل البلدي من أرواحنا الضعيفة، لكنه سيهرب فور اكتشاف المصريين أن كرامتَهم في حقوقِهم الموحَّدة، وأن لقمة العيش الكريمة، والمواطـَنة السويّة، والمشاركة في بناء دولتنا من جديد على أسس المساواة والديمقراطية والحُكم المدني وتبادل السلطة ليس لها مكان في ظل حُكم آل مبارك.

السوط الذي ألهب ظهورَنا طوال ثلاثين عاما لن يتحول إلىَ عصا سحرية تلتئم بها جروحُنا.

الخطوة الأولى أنْ يعيد المسلمون والأقباط إلىَ الله، عز وجل، ميزانَ العدالة السامية، فقد طفَّفوا فيه، وصادروه لحساب مشاعر سطحية من التمييز، والفوقية، والتعالي، فانفجرت في النفوس مشاعرُ الشك والريبة.

الخطوة الأولى مكرر هي رفض التأييد الصريح والضمني، سِرَّاً أو جـَهْراً، تعاطـُفاً أو صـَمْتاً، مع المتسبب الأول لآلامِنا، وأوجاعِنا، وفقرنا، وأمراضِنا، وعذاباتِنا، وقَحطِنا، وجفاف نفوسنا من المحبة والرحمة وقبول الآخر.

حينئذ تتنزل الملائكةُ علىَ المساجد والكنائس لتبارك المؤمنين بالله والوطن، أما القبلات والأحضان والدموع فلا يقوم عليها دليل واحد يؤكد أنها تضرب في جذور الإيمان.

أما الخطوة الأولى أيضا مكرر فهي ضرورة اختيار المصري بين الله و .. الشيطان، ومن لا يكره مبارك ويعاديه، ويخاصمه، ويناهضه فلا حاجة لله في صلاته، وصومه، و .. دعائه!

أيها الأقباط .. شركاء الوطن،

لن ينفعكم عزاؤنا في مصابِكم الجـَلَل مادام سيظل مُلطخًا بصمتنا على عدوكم و .. عدونا، فالتفجيرات الآثمةُ صنعها القصرُ في نفوسنا الضعيفة، ومن تـَقَبَّل منكم تعازي الطاغية وكلابه ولصوصه وضباط أمنه فقد ضيّع مِفتاحَ ملكوت السماء، فكل رجال مبارك يهوذا، وسيصلبونكم بعد العزاء الأول و .. العشاء الأخير!

 

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو في 9 يناير 2011

Taeralshmal@gmail.com

اجمالي القراءات 9322