العَلْمانية لشفاء العراق من أمراضه المزمنة

د. شاكر النابلسي في الخميس ٠٦ - يناير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-

أساء معظمنا فهم العَلْمانية. واعتبر الأصوليون الدينيون أن العَلْمانية هي إنكار الدين وإنكار العقيدة الدينية التي جاءت بها مختلف الأديان. فلم يتم التفريق مثلاً بين العَلْمانية الفرنسية الملحدة وبين العَلْمانية الأمريكية المؤمنة، والتي دُهش لها الفيلسوف السياسي الفرنسي دو توكفيل Tocqueville  صاحب الكتاب الشهير (الديمقراطية الأمريكية) عندما قال في كتابه هذا، عن ظاهرة الدين والتديّن الأمريكي، قياساً على موجات ال&Araacute;إلحاد المتتابعة في فرنسا، والتي قامت العَلْمانية الفرنسية على أساسها، على عكس العَلْمانية الأمريكية التي تفصل الدين عن الدولة، ولكنها لا تفصل الدين عن المجتمع: "إن فلاسفة فرنسا اعتقدوا أن الحماسة الدينية ستخمد عندما تزيد الحرية ويزداد التنوير. وشرح توكفيل هذه المسألة بصرامة أكثر في خطابه إلى صديقه دو كيرغورلاي حيث يقول كما جاء في كتابه (الديمقراطية الأمريكية) من أن "الحرية السياسية بوصفها مبدأ عاماً تزيد الشعور الديني، بدلاً من أن تجعله يتضاءل وينقص."(ص282).

وكان ذهول توكفيل عند وصوله إلى أمريكا كبيراً، عندما أيقن طبيعة أمريكا الدينية، حيث يقول في كتابه المذكور: "لقد رأيت في فرنسا روح الدين وروح الحرية تتحركان باستمرار في الأغلب باتجاهات متعارضة. أما في أمريكا فقد وجدتهما متحدتين كل منهما مع الأخرى بصورة وثيقة. ففي البلد الذي يكون فيه الدين مؤثراً، وذا نفوذ كبير، يكون هو البلد المستنير، والأكثر حرية." (ص278).

وتقول الباحثة الأمريكية غيرترود هيملفارب Himmelfarb  أستاذة التاريخ في كلية الدراسات العليا في جامعة نيويورك، وزميل الأكاديمية البريطانية والجمعية الفلسفية الأمريكية، في كتابها "الطرق إلى الحداثة"، الذي يبحث في تاريخ التنوير البريطاني والفرنسي والأمريكي، وهي الطرق الثلاثة التي قادت إلى الحداثة في الغرب: "إن أمريكا شهدت ثورتين: الأولى روحية، جعلت من المجتمع الأمريكي ديني النزعة. والثورة الثانية سياسية، جعلت من أمريكا جمهورية ديمقراطيةً."

-2-

أمريكا قلعة الرأسمالية في الغرب، ولكنها تأسست في البداية على أسس دينية توحيدية. فصحيح أن الحرية – كما تقول الباحثة هيمل فارب – كانت قوة التنوير الأمريكي الدافعة، ولكن هذه الحرية بُنيت على أسس دينية أيضاً. وكما قال بنيامين رش Rush (رائد حركة الإصلاح في أمريكا) فإن "الحرية من دون فضيلة، لن تكون نعمة بالنسبة إلينا." كما يرى بنيامين رش "أن التربية وليست الحكومة هي الأداة الملائمة لانتشار الفضيلة. وهي تربية تمتد بجذورها في الدين. وأن الأساس الوحيد لتربية مفيدة ونافعة، يجب أن يُدَّخر في الدين. فمن دون الدين لا يمكن أن تكون هناك فضيلة. ومن دون فضيلة لا يمكن أن تكون هناك حرية."

فالمؤسسون لأمريكا لم ينظروا إلى ما يمكن أن يحققوه من أجل زمانهم وجيلهم. ولكنهم نظروا إلى مستقبل لا حدود له، وإلى عدد لا يحصى من الأجيال المستقبلية. مما يعني أن إقامة الوحدة الأمريكية تمت بعد تفكير عميق وطويل وبناء استطاع – كما أثبت الزمن حتى الآن – أن يقاوم كل التقلبات السياسية الدولية الداخلية منها والخارجية.

ويعتبر بنيامين فرانكلين (1706-1790) من جيل الآباء الذين أسسوا أمريكا على أسس الدين والتقوى. فهو المؤسس الذي أراد أن يُذكر الله عز وجل في الدستور الأمريكي، وهو الذي اقترح أن تبدأ أعمال المؤتمر بصلاة يومية، رغم أنه كان أقل المؤسسين تديناً.

-3-

نريد أن نؤكد من خلال هذا الاستعراض للديمقراطية والتديّن الأمريكي، أننا كنا نأمل أن يتمَّ في العراق ما تمَّ في أمريكا، وهو ما عبَّر عنه سمير الخليل (كنعان مكيّة) في كتابه (الحرب التي لم تكتمل: الديمقراطية في العراق ومسئولية التحالف) التي استعرضنا بعض جوانبه في مقالنا السابق. وقد اعتبر مكيّة أن مسئولية الديمقراطية في العراق هي مسئولية التحالف، الذي شن حرباً على العراق. فمسئولية التحالف ليست الإطاحة بالنظام الدكتاتوري السابق، ولكن مهمته أيضاً أن يبني الديمقراطية في العراق، والتي لا تُبنى إلا بانتهاج النهج العَلْماني الذي تحدث عنه السياسي العَلْماني إياد علاوي، الذي استبعدته إيران (حاملة المفاتيح العراقية) واختارت المالكي ونهجه، من خلال "حزب الدعوة" الديني لحكم العراق خمس سنوات أخرى، بعد أن تمِّ حكم العراق على هذا النحو ست سنوات ماضية برئاسة إبراهيم الجعفري (2004-2005)، وخمس سنوات برئاسة المالكي (2005-2010). ثم ها هو المالكي من خلال "حزب الدعوة" سيحكم العراق خمس سنوات أخرى (2010-2015). وبذا يكون حزب الدعوة الديني قد حكم العراق 11 سنة. وكانت الخطورة العظمى في هذا الحكم انتشار الطائفية والمحاصصة الطائفية كما أشرنا في مقال سابق. وهو ما تمَّت تنميته وتعميقه زيادة على ما كان عليه الحال في عهد الدكتاتور السابق، حين اختفى في ذلك العهد المجتمع المدني، وقام المجتمع البوليسي الصارم، و"حيث بدأ الناس بالرجوع إلى تجمعات أصولهم، التي انحدروا منها، والتي أصبحت تمثل شكلاً من أشكال الدفاع الذاتي أمام البعثية التي تحيط بهم من كل جانب وتخنقهم. فالسلوكيات العامة الوحيدة التي يعيها العراقيون اليوم هي ما زرعها النظام الدكتاتوري السابق."("الحرب التي لم تكتمل"، ص 54-55).

-4-

يؤكد مكيّة في كتابه أن العَلْمانية في العراق ليست مجرد رغبة، بل هي مبدأ أساسي، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحفاظ على الحياة الإنسانية، وعلى العراق كوحدة متماسكة. وأن مسئولية أمريكا في هذه الحالة كانت تنحصر في التالي:

  1. فصل الدين عن الدولة وليس عن المجتمع، كما تمَّ في أمريكا، منذ القرن الثامن عشر. 
  2. تأمين الحدود العراقية كافة، لمنع دخول الإرهابيين. ولكن ذلك لم يحصل، فبقيت القوات الأمريكية في داخل المدن العراقية.
  3. عدم بناء جيش جديد بدل الجيش المُدمَّر عام 1991 وعام 2003. وتحويل عائدات النفط إلى إعمار البلاد التي دمرتها حرب 1991 وغزو 2003.
  4. ضبط الفساد المالي والإداري بالقوة والعلم والتكنولوجيا الحديثة، لكي لا يتحول العراق إلى أكبر مثال للفساد في التاريخ البشري، كما قالت "منظمة الشفافية الدولية" في أحد تقاريرها.
  5. عدم السماح للأحزاب الدينية وعلى رأسها "حزب الدعوة" بممارسة النشاط السياسي، لكي لا يتعمق الاصطفاف الطائفي والمحاصصة الطائفية، كما هو قائم منذ 2004 إلى الآن. فلا يهم الناس الأساطير الدينية والقومية بقدر ما يهمهم مستقبل أبنائهم.

تعميق فكر التسامح الديني والسياسي، وإعادة بناء المجتمع المدني، الذي قوضه العهد الدكتاتوري السابق

اجمالي القراءات 8910