الجوع والاجور فى مصر

حمدى البصير في الجمعة ١٩ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

حد الكفاف وأكل العيش " حاف " فى مصر

 

بقلم حمدى البصير

وقف جامع القمامة امام شقة السيدة الثرية بعد الإنتهاء من جمع قمامته ، وطلب منها أن تجمع طعامها " البايت " فى شنطة بدلا من إلقاء تلك الأطعمة الصالحة للأكل وسط القمامة الخاصة بها لأنها يجد صعوبة فى فصلها وبيعها بالكيلو لناس غلابة بسعر رمزى جدا ، والذين يفضلون أخذ بقايا الأطعمة منه - أى الزبال - بدلا من التنبيش والبحث عنها فى صناديق القمامة الع&atilddil;لعمومية ،ممايعرضهم لإحراج كبير أمام المارة فى الشارع ، كما أنهم يصارعون القطط والكلاب التى تريد أن تتقاسم معهم تلك الأطعمة .

حكت لى هذا المشهد زميلتى فى جريدة الأهرام الأستاذة فاطمة دياب أثناء وجودنا معا فى أحد المؤتمرات ، وقالت إن صديقتها الثرية تسمرت فى مكانها وهى تستمع لطلب جامع القمامة ، وتذكرت كيف إن أولادها يرفضون فى أغلب الوقت تناول الطعام الذى يجهزه الطباخ فى المنزل بحجة أنه أكل "بيتى" وموضة قديمة ، كما أنهم يفضلون دأئما الأكل " دليفرى " ومن مطاعم مشهورة .

وأنا لا أعيد كتابة هذا الموقف لأننى صحفى سودوى وحاقد ، وأكره الأثرياء ، ولكننى أريد أن أنبه إلى مدى وصول معدل الفقر فى مصر ، والتفاوت الكبير بين الأغنياء والفقراء ، فليس جديدا أن نجد من ينبش فى قمامة الفنادق للحصول على باقى خيراتها من أطعمة وخلافة ، بل أن هناك تجربة رائدة لبنك الطعام المصرى فى جمع بقايا أطعمة الفنادق والمطاعم الكبرى وتقديمها كوجبات ساخنة للفقراء ، ولكن للأسف فى رمضان فقط ، لكن أن تمتد عملية " التنقيب " عن الطعام فى صناديق القمامة فى المناطق الراقية ،فذلك يجعلنى أدق ناقوس الخطر إلى ماوصل إليه حال بعض الفقراء المصريين الذين يبحثون عن طعامهم بشكل غير حضارى بالمرة فى صناديق القمامة .

كما أننى أعيد سرد ذلك المشهد المؤلم ، بمناسبة قرار المحكمة الإدارية العليا والتى حكمت بوضع حد أدنى للأجور يبلغ 1200 جنيه ، فى الوقت الذى وافقت فيه الحكومة - تنفيذا للحكم - على أن يكون الحد الأدنى للأجور 400 جنيه فقط ، رغم إعترض نقابات العمال ومنظمات المجتمع المدنى ، والتى أكدت أن مبلغ ال1200 جنيه يمثل الحد الأدنى لأجر مواطن لديه أسرة صغيرة ويتناول طعامه فقط ،دون أن تكون هناك نفقات أخرى للترفيه أو حتى العلاج.

والحد الإدنى للأجور يرتبط بعمال أوموظفيين يعملون , فما بالنا بالعاطلين بمن ليس لهم دخلا منتظما ، فما مصير هؤلاء فى وسط هذا الغلاء الفاحش والذى وصل فيه كيلو اللحم إالى مايقرب 75 جنيها وكيلو الدواجن 25 جنيها والطماطم سبعة جنيهات ؟ .

والعجيب أن يصر رئيس الوزراء د. أحمد نظيف فى كل تصريحاته على عدم زيادة الحد الأدنى للأجور عن ال400 جنيه والتى قررها المجلس الأعلى للأجور ،وقد أرجع د. نظيف سبب ذلك إلى الخوف من وجود موجة غلاء فاحش إذا كان الحد الأدنى للأجور 1200جنيه .

فقد قرر المجلس القومى للأجور بأغلبية الأصوات زيادة الحد الأدنى للأجور من ١١٢ إلى ٤٠٠ جنيه، خلال اجتماعه مؤخرا، لبحث تنفيذ حكم محكمة القضاء الإدارى بوقف تنفيذ القرار السلبى للمجلس بالامتناع عن وضع حد أدنى للأجور، ورفض ممثلو العمال فى المجلس القرار، فيما وافقت عليه الحكومة وممثلو أصحاب الأعمال ، أى ان الذى يعمل فى القطاع الخاص - الغنى -سيكون الحد الأدنى لأجره 400جنيه وليس 1200جنيه ، وهكذا إتفقت الحكومة والقطاع الخاص لأول مرة على حصول الغلابة الذين يعملون لديهم على أجور ضعيفة أى إتفقوا سويا على ماهو ضد مصالح محدودى الدخل مع إن الحكومة ليل نهار تدعى إنها تعمل لصالح المواطن المطحون ،كما إن رجال الأعمال يتابهون دائما إنهم يوفرون فرص عمل للمواطنين العاطلين ، وساعة الد يتفق الإثنان - حكومة ورجال أعمال - على المواطن الغلبان .

وقداتهمت قيادات عمالية الدكتور عثمان محمد عثمان، وزير الدولة للتنمية الاقتصادية ورئيس المجلس القومى للأجور، بـ«تحدى الرأى العام»، فى حين قامت بعض القوى العمالية تنظيم مظاهرات للتنديد بقرار المجلس ،ولكن لا حياة لمن تنادى

ولم يلتفت أحد لما قاله عبدالرحمن خير، ممثل العمال بالمجلس القومى للأجور ، والذى أكد خلال إجتماع المجلس : الحكومة وممثلو منظمات أصحاب الأعمال اتفقوا علينا خلال الاجتماع، واتخذوا القرار رغم رفضنا له وتقديمنا اقتراحات أخرى»، فيما أكد العامل ناجى رشاد، صاحب دعوى زيادة الحد الأدنى للأجور، أن القرار يمثل «صدمة»، وتعهد برفع دعوى قضائية جديدة ضد الحكومة لإلزامها بزيادة الحد الأدنى إلى ١٥٠٠ جنيه، قائلا أن مبلغ ٤٠٠ جنيه «لا يكفى لكى يأكل العمال العيش الحاف "

فى المقابل، قال الدكتور أحمد محمد عبدالصادق، مستشار وزير التنمية الاقتصادية للشؤون الدستورية، إن محكمة القضاء الإدارى لم تلزم المجلس القومى للأجور بتحديد رقم معين كحد أدنى للرواتب، وإنما تركت تحديده للمجلس بما يتفق ومستويات المعيشة وارتفاع الأسعار، وأضاف أن الجهاز المركزى للإحصاء أوضح فى دراسة عرضها خلال الاجتماع أن متوسط أجر العامل فى القطاع الخاص حالياً يدور حول ٢٧٥ جنيهاً، مؤكداً أن نحو ٦٠% من العمالة بالقطاع الخاص ستستفيد من قرار رفع الحد الأدنى إلى ٤٠٠ جنيه.

وقالت وزارة التنمية الاقتصادية في بيان ان المجلس القومي للاجور قرر رفع الحد الادنى للاجر الشامل الذي يتقاضاه العامل على المستوى القومي الى 400 جنيه مصري (69 دولارا) شهريا من نحو 35 جنيها حاليا ا

ولم تقل الوزارةإن ارتفاع أسعار الغذاء بمعدل سنوي يبلغ حوالي 22 % خلال الاثني عشرة شهرا الماضية، يجعل ال400 جنيه يكاد يجعلون أسرة كبيرة من خمسة أفراد فقط تأكل عيش حاف ، بل وتطير " الماهية " بعد قبضها بعشرة أيام

ويبلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الاجمالي 1780 دولارا بحسب تقديرات الامم المتحدة ،وبالتالى فأن الدعوة للتغيير السياسي ربما تأتي بعد مطالب أساسية بتحسين الدخل والوظائف.

أى أن هناك ضرورة ملحة وأهمِـية قصوى لرفْـع الحدّ الأدنى للأجور، بما يتناسَـب مع الارتِـفاع الملحوظ في أسعار السِّـلع والخدمات الأساسية وبما يضمَـن للعاملين حياةً كريمةً ومستوى معيشة لائق،بل أن هذا المطلب الحساس يمثل قضية أمن قومى .

والحكومة بموقفها الرافض لتنفيذ كامل الحكم ،وإصرارها على أن يكون الحد الأدنى للأجر400 جنيه وليس 1200 جنيه ،أى ثلث ماقررته المحكمة ويطالب به كل فئات الشعب العامل ، تستخف بأحكام القضاء، ولم يقتنع أحد بتفسير الحزب الوطني الحاكم بأن "الدولة ليست هي المشكلة" في رفْـع الحدّ الأدنى للأجور و"إنما القِـطاع الخاص" وأن "العائق الحقيقي هو كيفية تمويل المُـوازنة العامة للدولة" لتَـفِـي بمتطلّـبات العاملين.

ولكن الحقيقة أن السياسات الاقتصادية للحكومة هي السبب الرئيسي فى تفاقُـم المشكلة وأن هناك العديد من المُـقترحات العملية لتمويل المُـوازنة العامة للدولة" وأن الأمر لا يحتاج سِـوى الإرادة والضَّـرب بِـيَـد من حديد على يَـد الفساد والمُـفسدين لتوفير مليارات الجنيهات لتدعيم الموازنة وتمويل الزيادة فى الأجور ، بدلا من الإلتفاف على أحكام القضاء خاصة إذا كات فى مصلحة لشعب.

وحُـكم محكمة المحكمة الإدارية العليا بإلزام الحكومة بوضْـع حدٍّ أدنى جديد للأجور، هو حُـكم تاريخي ينتصِـر للقانون والحقّ والعدْل، في ظل مناخ حكومي مُـعاكس، فقد جاء في حيْـثِـيات الحُـكم، أن موادّ الدستور تنُـصّ على أن العمل حقّ وواجِـب، وربـط الأجر بالإنتاج وضمان حدٍّ أدنى للأجور ووضع حدٍّ أعلى يكفل تقريب الفُـروق بيْـن الدّخل، وأكّـد الحكم على حقّ العمّـال في أجر عادِل يضمَـن حياةً كريمة للعامِـل وأسْـرته.

وتَـوافَـق مع صُـدور هذا الحُـكم، مطالبة منظمة العمل الدولية للحكومة المصرية بضرورة تعديل الحد الأدنى للأجورلتوفير حياة كريمة للمصريين وقالت المنظمة إن الحكومة المصرية مُـلزمة تحسين أوضاع العمّـالدولياحسب الاتِّـفاقيات الدولية الموقِّـعة معها.

وتوزيع الأجور وما في حُـكمها على العامِـلين في الدولة، يتَّـسم بعدم عدالة مروّع، كما لا توجد عمَـليا أية علاقة بين أقصى دخْـل وأقل دخْـل شامِـل في الجهاز الحكومي والقِـطاع العام والهيْـئات الاقتصادية،فمثلا بتقاضي بعض العاملين في مراكز المعلومات، التابع لمجلس الوزارء، 99 جنيه راتبا شهريا، بينما تحصُـل قِـلّـة من القيادات والمستشارين على مرتبات أسطورية تصِـل إلى مِـئات الآلاف من الجنيهات شهريا، بل أن هناك من دخَـلوا في الرّواتب المليونية شهريا، بينما يتقاضى الرئيس الأمريكي - وهو أكبر موظف عام في العالم - نحو 180 ألف جنيه شهريا.

وبمقارنة الأجور والأسعر وقت قيام ثورة يوليو وحتى الأن - نوفمبر2010 - نجد أن

- في عام 1952، تمّ وضْـع حدٍّ أدنى للأجر 18 قِـرشًا في اليوم وكانت تشتري نحو 1.5 كيلوجراما من اللحم في الريف ونحو 1.2 كيلوجراما من اللحم في المدن، أي أن الأجر الشهري الحقيقي للعامل كان يعادِل نحو 34 كيلوجرام من اللحم، أي نحو 1700 جنيها من جنيهات الوقت الرّاهن، إذا قيس بسِـلعة واحدة هي اللّـحم، والذى وصل الكيلو منه 70 جنيها فى المتوسط الان.

- ثمّ ارتفع الحدّ الأدنى للأجْـر الأساسي الإسمي للعامل في القانون 47 و48 لسنة 1978، إلى 16 جنيها، وكانت تشترى 18 كيلوجراما من اللحم البلدي..

-والحدّ الأدنى لأجور العاملين بالحكومة والقطاع العام، كما نصّـت عليه بعض القوانين واللّـوائح، ارتفاع تدريجياً من 9 جنيهات شهرياً، وِفقاً للقانون رقم 58 لسنة 1961 حتى وصل إلى 35 جنيهاً شهرياً، وِفقاً للقانون رقم 53 لسنة 1984.

والقراررقم 234 لسنة 2000 والقاضي بأنه لا يجُـوز أن يزيد على 54 ألف جنيها سنويا لم ينفذ واقعيا الان ، لوجود تفاوت فى الأجور بين الموظف الصغير الذى يتقاضى 100 جنيه فى المتوسط ،والموظف الكبير الذى يعمل فى كادر الخبير أو المستشار والذى يتقاضى أكثر من 100 ألف جنيه شهريا ،وهذا فى مجمله عدم عدالة وظلم حكومى بين للعاملين لديها .

ولكن جاء حكم الإدارية العليا فى وقته والذى صدر بعد مبادرة مواطن بسيط هو العامل ناجى رشاد كى يعيد الإمور إالى نصابها ، وكان الحد الأدنى للأجور الذى قررته المحكمة وهو 1200 جنيه يمثل العدل فى الواقع ، وليس ال 400 جنيه التى تفرضها الحكومة لإن مبلغ المحكمة يمثل حد الكفاف للعامل أو الموظف وأسرته ، أما مبلغ الحكومة سيدع العاملين فى المستقبل يرتشون أو يتسولون ، أو يجمعون الطعام من أكوام القمامة .

ولنا أن نحسب مصاريف أسرة من خمسة أفراد يوميا ، منها من يذهب إلى المدرسة وبها من يحتاج علاج ، وتدفع أيجار مسكن ،وفواتير مياه وكهرباء ،سنجد فى النهاية إن تكاليف معيشة تلك الإسرة تتخطى الألف جنيه ،حتى ولو أكلت العيش حاف أى بدون فول أو طعمية ،وسنجد إن هناك ستر وبركة وحماية ربانية تحيط وتظلل أغلب الأسر المصرية .

وهناك فى أيضا أسر بلا دخل منتظم ولاتحلم بوجود حتى حد أدنى للأجور ،وهؤلاء هم من ينبشون فى مقالب الزبالة للحصول على قوت يومهم ،وهؤلاء هم من يفكر فيهم الزبالون وليس المسؤلين من أجل ان يصل طعام صحى إليهم ، عن طرق وضع بقايا أطعمة الأسر القادرة فى كيس منفصل وليس وسط القمامة حتى يصل إلى الغلابة طازجا ونظيفا ومن الزبال مباشرة .

حمدى البصير

elbasser2@yahoo.com

اجمالي القراءات 15552