الخليفة المعتضد بالله العباسي .. والحائك

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢١ - سبتمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

قالوا إن الخليفة المعتضد بالله العباسي "ت289" كان ملكاً مهيباً جمع بين الحزم والحرص على الظهور بمظهر العدل ، لذا كان قاسياً على المنحرفين من قواده وأرباب دولته لا يتردد في قتلهم إذا ثبت عنده ما يستوجب لديه عقوبتهم ،وفي نفس الوقت أسقط بعض  المكوس ورفع بعض الظلم ، وسكنت في خلافته الفتن لفرط هيبته وقوة شكيمته.

   وأوردت الروايات قصة الخليفة المعتضد مع الحائك لتعطينا إشارات أكثر عن ذلك الخليفة وعصره..

يحكى القاضي أبو الحسن الهاشمي أن شيخاً من شيوخ خ التجار كان له مال على أحد القواد في أيام المعتضد، فكان القائد يماطل التاجر ويسيء معاملته إذا حضر إلى بابه يطلب المال، فلجأ التاجر إلى الوزير عبيد الله بن سليمان ليحل مشكلته مع القائد ، فما استطاع الوزير ابن سليمان مع وجاهته ونفوذه أن يواجه ذلك القائد ، فعزم التاجر على أن يشكو القائد إلى الخليفة المعتضد نفسه، وأخذ في البحث عن طريق يصله إلى المعتضد ، وكلم بعض أصدقائه فقال له : ( دعني آخذ  لك مالك من القائد بدون الحاجة إلى التوصل إلى الخليفة) ، وأخذه إلى خياط حائك يجلس في مسجد يقرأ القرآن ويخيط للناس بأجر، ودهش التاجر لمجرد أنه تخيل أن ذلك الخياط الشيخ سيستطيع إرغام القائد على الانصياع للحق، وهو القائد الذى يخشاه الوزير نفسه ، ولكن صديق التاجر أشار إليه بالسكوت فسكت، ثم شرح الصديق للخياط قصة التاجر مع القائد وطلب منه أن يقصد بيت القائد ويجعله يعطى التاجر حقه، وكانت دار القائد قريبة من المسجد، فنهض الخياط معهما، وكان التاجر يشفق من سطوة القائد على الخياط الشيخ، فإذا كان القائد لم يقبل وساطة الوزير عبيد الله بن سليمان فكيف ينصاع لذلك الخياط المسكين الفقير، ولكن صديق التاجر طمأنه، وفوجئ التاجر بجنود القائد يتلقون الخياط باحترام وتعظيم، وأوسعوا له إلى أن دخل مع رفيقيه إلى القائد، فلما رآه القائد ظهر عليه الجزع، فأمره الخياط بدفع ما عليه للتاجر فسمع وأطاع ، وأعطى التاجر ماله ، وخرجوا من عنده على أحسن حال، والتاجر لا يصدق ما يراه، فلما عادوا إلى مكان الحائك، عرض عليه التاجر أن يأخذ من المال ما يشاء فأبى الحائك وشكره، فقال له التاجر: أحب أن تخبرني عن سبب طاعة ذلك القائد لك مع عدم اهتمامه بأكابر الدولة: فتردد الحائك، وبعد إلحاح قص قصته .

    كان ذلك الخياط يؤم الناس في المسجد أربعين سنة ويكتسب عيشه من الخياطة . وحدث أن  خرج من المسجد ليلا بعد صلاة المغرب قاصداً داره ، فمر على جندي تركي من جنود الخلافة حيث كان أغلبية الجند من الغلمان الأتراك، وكان ذلك الجندي مخموراً وقد أمسك بامرأة حسناء ويريد إرغامها على أن تدخل داره ليغتصبها ، والمرأة تصرخ تستغيث بالناس ، وتصيح أن زوجها قد حلف أن يطلقها إن باتت في غير داره، وإن لحقها العار فقد خرب بيتها، وظلت تستغيث والناس يسمعون ولا يجسرون على دفع الجندي التركي عنها، فتقدم الشيخ الخياط وكلم الجندي في رفق أن يتركها فضربه التركي بدبوس كان معه فشج رأسه، فرجع الخياط إلى بيته وغسل الدم عن وجهه، وعاد إلى المسجد فصلى بالناس صلاة العشاء ، ودعا الناس إلى الذهاب معه إلى بيت الجندي، لإنقاذ المرأة، فتجمعوا معه عند باب الجندي يهتفون به لإطلاق سراحها،فخرج إليهم الجندي ومعه غلمانه وأتباعه وأوسعوا الناس ضرباً، وقصدوا الخياط بالذات بالضرب الشديد إلى أن أشرف على الموت ، وعاد إلى بيته متحاملاً على نفسه لا يستطيع النوم من شدة الوجع، وجلس في فراشه يفكر فيما يفعل، وهو يخشى إن طلع الفجر والمرأة في بيت الجندي أن يقع عليها يمين الطلاق، بالإضافة إلى فضيحتها، ووصل إلى حل.

 خرج متحاملاً على أوجاعه وذهب إلى المسجد وأذن لصلاة الفجر في منتصف الليل، فتجمع الناس في الشارع وحول المسجد وامتلأ الطريق بالخيل والمشاعل والبشر وفيهم الشرطة وهم يتساءلون عن سبب الآذان في ذلك الوقت، فقام فيهم الخياط وتحدث عن الجندي وأخذه المرأة في بيته، فأمسك به بدر رئيس الشرطة وأدخله على الخليفة المعتضد، فلما رأى المعتضد وهيبته أخذته رعدة وخوف، فما زال به الخليفة حتى سكن وهدأ ، وسأله عن تأذينه في ذلك الوقت وأعطاه الأمان حتى يصدقه في الحديث، فحكي له الخياط قصة ذلك الجندي التركي وأراه الجروح التي كانت في رأسه وجسده مما فعل به التركي وغلمانه، فأمر الخليفة بسرعة إحضار المرأة والجندي، فأحضرا إلى الخليفة فسألها الخليفة فأخبرت المرأة بنفس القصة، فأمر الخليفة بإرسالها إلى زوجها مع رجل ثقة من عنده، وأن يشرح لزوجها الحقيقة ويأمره بالتمسك بها والإحسان إليها، ثم استدعى الجندي التركي لاستجوابه وسأله عن عطائه ومرتبه ومخصصاته ونسائه وجواريه فأخبره، فقال له: ألم تكن تلك النعم تكفيك عن الحرام والاعتداء على حقوق الناس وأعراضهم ؟! فلم يستطيع الجندي الرد، فأمر الخليفة بأن يوضع في جوال مقيداً ثم يدق عليه بالمدقات حتى يموت، وفعلوا به ذلك وهو يصيح إلى أن مات، ثم أمر بمصادرة داره وعقاب غلمانه، وكان الخياط يشاهد ذلك جميعه، فقال له المعتضد في النهاية : يا شيخ قد شاهدت ذلك كله!!  فقال الخياط  وهو يرتجف أن : نعم ، فقال له الخليفة : ‏ قد شاهدت ذلك كله‏!‏متى رأيت يا شيخ منكرًا كبيرًا أو صغيرًا فأنكره ولو على هذا - وأومأ إلى بدر - ومنتقاعس عن القبول منك فالعلامة بيننا أن تؤذن في مثل هذا الوقت لأسمع صوتك فأستدعيك‏.‏

قال الشيخ‏:‏ فدعوت له وانصرفت وشاع الخبر في الجند والغلمان فماسألت أحدًا منهم بعدها إنصافًا أو كفًا عن قبيح إلا أطاعني كما رأيت خوفًا منالمعتضد بالله وما احتجت أن أءذن في مثل ذلك الوقت إلى الآن ‏.‏ )

وأخيرا

1 ـ تلك القصة قابلة للتصديق ، وهى تدل على بقية خير ، فلا يخلو أى إنسان من نزعة خير ـ (حتى حسنى مبارك ).!!.

2 ـ ومع افتراض صدقها فالمسكوت عنه من الظلم أفظع ، ودلائله تتلصص بين ثنايا السطور . فالمستبد لا بد أن يرهب الناس بظلمه حتى يعلو عليهم ويتحكم فيهم ، أى لا بد أن يستعين بالفجار المسلحين من الجيوش و الشرطة . ومن الطبيعى ان أولئك الفجار من الجند وكلاب الحراسة ان يستخدم بعضهم سلطته لمصلحته الذاتية ليكسب مالا حراما ،أو ليستطيل على الناس فجرا وقهرا وظلما ينهب ويغتصب .

ولو تظاهر المستبد بالعدل فقد يعاقب بعض كلاب حراسته ، ليس حبا فى العدل ولكن حبا فى الشهرة وليفرض سطوته اكثر على كلاب حراسته ، طالما هو غير مستفيد من ذلك الظلم ( المحلى ) الذى يقع فيه كلاب حراسته.

3 ـ ومن أسف ان المؤرخين المسلمين فى العصور الوسطى قد أدمنوا نفاق السلطان المستبد والدفاع عنه بمناسبة وغير مناسبة ، ومن الطبيعى ان يهللوا لأى بادرة خير تصدر من السلطان المستبد ، بل ربما يصنعون روايات تمدحه . وقد خرج عن هذه الرذيلة قلة من المؤرخين كان أبرزهم المقريزى . 

اجمالي القراءات 3114