هل أضاع العراق اللبن في الصيف كما ضيّعته دخنتوس؟

د. شاكر النابلسي في الخميس ١٦ - سبتمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

تقول لنا صفحات التاريخ المعاصر، أن الغزو الأمريكي لليابان عام 1945 ، وضرب مدنها بالقنابل الذرية، ثم خضوعها وتوقيعها على صك الاستسلام، كان بمثابة أكبر إذلال ذاقته اليابان في تاريخها الماضي والحاضر. ورغم ذلك، فقد استطاعت اليابان بحرص نخبها السياسية المثقفة والوطنية، مواطنة صالحة وحقيقية، وحبهم العميق لمصالح وطنهم، وتفضيلهم وتقديمهم مصلحة الوطن على مصلحة الفرد.. استطاعت اليابان، أن تستفيد من الاحتلال العسكري الأمريكي الاستفادة الكبرى، وÐg;ذلك بأنها أوكلت مهمة الدفاع عن أرضها للقوات الأمريكية، وتخلّصت من ميزانية مالية مرهقة، كانت ترصدها سنوياً للجيش الياباني الكبير والقوي، في ذلك الوقت. في حين أن لا دولة غازية، كان يمكنها أن تفعل في اليابان، أو في كوريا، أو في ألمانيا، أو في العراق، ما فعلته أمريكا، التي بلغت ميزانية جيشها هذا العام أكثر من تريليون دولار، وهي تنفق في كل دقيقة على جيشها حوالي اثنين مليون دولار.

وقد أيقنت اليابان هذه الحقيقة منذ أكثر من نصف قرن، وبدأت تبني اقتصادها الصناعي بالأموال التي وفرتها من مصاريف جيشها، الذي حلّته أمريكا كما فعلت بالجيش العراقي، وتتوسع في أبحاثها ومخترعاتها الصناعة، إلى أن وصلت بدءاً من  الستينات والسبعينات من القرن الماضي إلى مقدمة الدول الصناعية في العالم، وزاحمت أمريكا نفسها في قوة اقتصادها، وتنوّع صناعتها. وهكذا استطاعت اليابان، أن تحوّل الهزيمة العسكرية والسياسية إلى نهضة وتقدم علمي وصناعي، والدمار إلى بناء وإعمار.

فتلك هي حكمة الشعوب، التي كان على العراق أن يتعلمها، مما حصل فجر التاسع من نيسان/إبريل 2003، وما بعد ذلك.

ولكن لنُسلِّم أن حال العراق، كان مختلفاً كما قال الدكتور محمد المشّاط، سفير العراق السابق في واشنطن، من حيث أن العراقيين، كانوا في سجن كبير ومظلم، لعشرات السنين إن لم يكن أكثر، وما أن فُتحت أبواب هذا السجن فجر التاسع من نيسان/إبريل 2003، وأُطلق سراح الشعب العراقي، حتى بدأت الفوضى المدمرة تدبُّ في العراق بعد ذلك، فذهب كل عراقي مذهباً مختلفاً عن الآخر. وكان العراقيون آنذاك، وبعد ذلك، وحتى الآن، في نشوة الإفراج عنهم من السجن الكبير، غير مصدقين ما تمَّ لهم. وكأن ملائكة وهمية من السماء، نزلت، وخلَّصتهم، وأطلقتهم من سجنهم الكبير. وأنهم بين الحلم واليقظة. وغير موقنين، أهم من الطُلقاء، أم ما زالوا مساجين ذلك السجن الكبير المظلم؟

من جهة أخرى، فإن العراق رغم خسائره البشرية، وخسائره في البنية التحتية طوال السنوات السبع الماضية، إلا أنه لم يخسر ما خسرته اليابان من مواطنيها عام 1945 عندما أُلقيت على هيروشيما ونجازاكي القنبلة الذرية، وراح أكثر من نصف مليون قتيل وجريح ومشوَّه ياباني نتيجة ذلك. كذلك فقد تمَّ تدمير الكثير من القرى عن بكرة أبيها.

ولم يكن ما أصاب كوريا في الحرب الكورية عام 1951، بأقل من ذلك كثيراً. وكان الكوريون من النخب السياسية والثقافية على درجة ذكاء ووعي وخبرة اليابانيين في الاستفادة من التدخل الأمريكي العسكري في 1945 بعد استسلام اليابان، وانسحابها من كوريا، واقتسام كوريا بين الدولتين العظميين: أمريكا والاتحاد السوفيتي. فسيطرت أمريكا على جنوب كوريا، وسيطر الاتحاد السوفيتي على شمالها. واستفادت كوريا الجنوبية اقتصادياً من وجود القوات الأمريكية على أراضيها خاصة، بعد حربها مع الشمال 1950، في حين استفاد الشمال من الغطاء السوفيتي في تقدمه العسكري والنووي.وأصبحت كوريا الجنوبية واحدة من النمور الأربع الأسيوية.

كذلك، كان الحال في ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وانشطار ألمانيا إلى قسمين: غربي وشرقي.

هل كان الانسحاب العسكري الأمريكي السريع خطأً؟

ربما كان وضع العراق مختلفاً وخاصاً، نتيجة لظروفه الصعبة، من حيث موقعه الجغرافي، وتاريخه السياسي البعيد والقريب، والتركيب الاجتماعي الذي وصفه وأفاض في تفاصيله عالم الاجتماع العراقي علي الوردي. وبذا لم تتكرر تجارب الشعوب السابقة فيه بعد 2003. ولكن الاستفادة بالحد الأدنى من الوجود العسكري الأمريكي، لم تتم للأسف الشديد، رغم من أحاط واعترى العراق من ظروف مختلفة وصعبة. ولعل الخطأ الأكبر الذي ارتُكب في العراق، كان الانسحاب العسكري الأمريكي السريع، بعد سبع سنوات من النقاهة، في حين ما زالت القوات الأمريكية في اليابان، وكوريا، وألمانيا، منذ الحرب العالمية الثانية إلى الآن. ولعل ضغط دول الجوار، وعلى رأسها إيران وسوريا، والجماعات الدينية/السياسية الإرهابية، إضافة إلى بعض سياسي العراق من الشيعة والسُنَّة، هو الذي أدى إلى هذا الخطأ، الذي حذر منه قائد الجيش العراقي بابكر زيباري، حين قال أن العراق بحاجة إلى القوات الأمريكية لغاية عام 2020، وأتبع هذا التصريح وزير الدفاع العراقي عبد القادر العبيدي في الأمس، حين قال إن العراق بحاجة إلى حماية القوات الأمريكية لغاية عام 2016 ، مشيراً إلى أن سلاح الجو بحاجة إلى المساعدة الأمريكية حتى عام 2020 على الأقل.

ولكن بعض السياسيين العراقيين اعتبروا أن انسحاب الجيش الأمريكي بمثابة عيد استقلال وتحرير للعراق، واعتبروا أنفسهم أبطال هذا الاستقلال والتحرر. ولكن العقلاء من السياسيين العراقيين، سخروا من هذا وضربوا كفاً بكف وقالوا: "لقد أضاع العراق في الصيف اللبن، كما أضاعت دختنوس ذلك؛ أي أن الأمر إن لم يتم في وقته، فقد ضاع ولن يعود. وقصة ذلك - كما يرويها الميداني في "مجمع الأمثال" ج1، ص225 - أن امرأة تدعى دختنوس بنت لقيط بن زرارة، كانت زوجة عمرو بنعداس، وكان شيخاً كبير السن، فكرهته لسوء أخلاقه، وطبعه، وشكله، فطلّقها. ثم تزوجهافتى جميل الوجه وغني، من قبيلتها.وبعد سنة على زواجهما أصاب القرية قحط، فأجدبت الأرض، وأصبحت الماشية لا تدرُّ لبناً، فبعثت دختنوس إلى زوجها السابق عمرو رسولاًتطلب منه شيئاً من اللبن. فقال عمرو لرسولها:أبلغ سيدتك أنها "في الصيف ضيّعتاللبن."

وذهب هذا مثلاً على كل من يفوته القطار، وتضيع منه فرصة، هوقادر على استغلالها. وقد وردت فيالمثل كلمة "الصيف"، لأن طلاق دختنوس كان في الصيف. كما يصحُّ تفسير المثل، على أنه إذ لم يتم حلب الماشية في الصيف، فسوف يكون مضيعة لألبانها عند الحاجة.

فهل أضاع العراق‏ على نفسه فرصة الاستفادة من الوجود العسكري الأمريكي في العراق، كما أضاعت دختنوس اللبن في الصيف؟

 

اجمالي القراءات 9659