القرآن والواقع الاجتماعى (8 ): ( أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ؟)

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٢٤ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

 القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم " 

يقول جل وعلا :(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَل&oacu;َّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة : 266

أولا :  

1 ـ نشأ عصامياً فقيراً ووضع نصب عينيه هدفاً واحداً أن يكون ثرياً يتفوق بثرائه على أهل بلدته. سافر إلى الخليج وبدأ يعمل في أي عمل، لا يهم نوعية العمل ولا يهم إذا كان محترماً شريفاً أو وضيعاً حراماً ، المهم هو الربح والثمن، وكان مستعداً لأن يبيع كل شيء مقابل ثمن مناسب، ولم يتورع عن النفاق والدسائس والكذب والخيانة وعض الأيدي التي ساعدته، ولم يخجل لانحطاطه الأخلاقي ومن طرده من مكان إلى مكان، المهم أن يترك بلاد النفط ومعه ما يكفي لتحقيق أحلامه في قريته.

2ـ وحقق ما أراد ، ورجع إلى قريته برصيد ضخم من الدولارات ورصيد أضخم من اللعنات التي لا يعلم بها أهله، ورضي أن يعيش في بيته القديم المتهالك، وبدأ يخطط للاستيلاء على أكبر قطعة أرض زراعية على مشارف القرية وعلى الطريق الإسفلت، ولكن صاحب الأرض ـ وهو صاحب نفوذ ـ لم يكن ليبيعها، فليس محتاجاً، وحتى لو كان محتاجاً فإن كرامته الريفية تأبى عليه أن يبيع أرض آبائه إلى ( غنى محدث نعمة )، كان أبوه يعمل أجيرا لديه، هذا بينما ابن الأجير مصمم على أن يشتري الأرض. ودارت حرب خفية من طرف واحد، أتقنها صاحبنا الذي تخصص في الكيد والمكر. وانتهت بعد عدة سنين بخديعة كبرى إذ جاء للقرية أفندي محترم أقنع الثري الريفي بأهمية أن يشتركا في إقامة مصنع للأعلاف يحقق الملايين ربحاً صافياً، وعبر ألاعيب قانونية انتقلت الأرض إلى تلك الشركة الوهمية، ثم فوجئ صاحب الأرض السابق أنها بيعت لصاحبنا، وأنه وقع ضحية عملية نصب محكمة، وباع أرضه بثمن بخس لابن الأجير، وعاش بقية حياته يلعن ابن الأفاعي الذي خدعه.

3ـ أما صاحبنا فقد انفق كل ما لديه في تحويل الأرض الزراعية إلى حديقة غناء لا مثيل لها، وأقام قصرا ضخماً، والتفت حواليه فوجد الجميع يقاطعونه ويتحاشونه، وكان قد دخل خريف العمر ولم يتزوج ، فقرر الزواج، وكان في الدنيا بقية خير فلم يجد أسرة محترمة تصاهره، فاضطر إلى الزواج ممن توافقه في الطباع وتعبد المال، وعاش معها أسوأ حياة، وصبر عليها من أجل أطفاله إلى أن أتى اليوم الذي تأكد فيه من خيانتها، وفي لحظة غضب جنوني قتلها مع عشيقها وأحرقها بالنار، فأتت النار على القصر وحديقته الغناء. ودخل السجن ليقضي بضع سنوات. وخرج من السجن كهلا محطما مفلساً ليجد أمامه بقايا قصر محترق ومعالم بستان سابق... وخمسة من الأطفال المشردين .

ماذا يستطيع في شيخوخته أن يفعل مع البستان المدمّر والقصرالمحروق والأولاد الصغار؟.  بعلامة الاستفهام هذه تنتهى القصة ، وتنتظر الاجابة .

ثانيا

1ـ ليست هذه قصة حقيقية ، ولكنها بالتأكيد تحدث فى العالم كل يوم مع اختلاف التفصيلات واللغات والزمان والمكان . وقد أوجزها رب العزة بصورة بلاغية رائعة ، فى ضرب هذا للمثل  لينطبق على الجميع : إقرأ قوله تعالى (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) البقرة : 266 .

2 ـ هل تفكرتم في الآية الكريمة؟ .إنها تقدم مثلا تصويريا عن إنسان استهلك شبابه وعمره وحيويته فى الوصول للسلطة والثروة ، ثم فقد كل شىء وهو فى أرذل العمر ، وتعين عليه أن يعيش شيخوخته وضعفه محطما لا يحظى حتى بالعطف والرثاء ، بسبب كثرة من ظلمهم.هو مثل  يحدث في الحياة ويتكرر دون أن يتعظ أحد !!

هل تذكر قصة صدام حسين فى العراق وشاه ايران وشاوشسكو رومانيا .الخ؟ تنطبق عليهم جميعا الآية الكريمة .هل تذكر فلانا وفلانا فى قريتك أو مدينتك؟ تنطبق عليهم جميعا الآية الكريمة .هل تقرأ التاريخ باحثا فيه؟ ستجد آلاف الأشخاص تنطبق عليهم جميعا الآية الكريمة . فى الماضى وفى الحاضر تنطبق علي معظمنا الآية الكريمة .وفى المستقبل أيضا ستنطبق على الملايين . ولهذا يقول جل وعلا فى خطاب مباشر لكل إنسان : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ )؟ هو سؤال إجابته معروفة ، إذ سيقول كل منا إنه لا يود أن يحدث ذلك له . ولكنه ينسى فى الواقع العملى   ، ولن يتذكر إلا فى الوقت الضائع .

ثالثا :

1 ـ هذا ما يحدث فى الدنيا فقط . والبشر فى الدنيا يتقلبون بين غنى وفقر ، لا يبقى أحد على حال ، يصبح أحدهم غنيا بعد فقرأو فقيرا بعد غنى ، ويتعرض كل انسان الى اليسر و العسر ، وفى كل الأحوال فهناك فرصة للتعويض فإن مع العسر يسرا وسيجعل الله جل وعلا بعد عسر يسرا ، ومن يفقد قصرا اليوم قد يجد العوض فى قصرآخر ، ومن يخسر صفقة اليوم قد يربح أخرى غدا .

2ـ الخسارة المشار اليها فى الاية الكريمة خسارة كبرى لا يمكن تعويضها ، لأن بطل القصة  بلغ الكبر ، وليس معه جهد يستطيع به إعادة البستان الى جنة كما كان ، بل حوله أولاد صغار يحتاجون الى رعاية لا يستطيع توفيرها لهم ، بل يحتاج هو الى من يرعاه ويقوم بشأنه . نحن هنا أمام حالة مستعصية خسرانها تام وكامل ولا مجال للخاسر هنا أن يستعيد ما ضاع . أى إننا أمام خسارة لا يمكن تخيلها فى الدنيا ، حيث وعد الله جل وعلا بتزاوج اليسر مع العسر وأن يجعل بعد عسر يسرا .

3 ـ بل إن الخسارة المقصودة هنا خسارة مركبة ، يفقد فيها ذلك الشيخ العاصى الدنيا والآخرة . فقد أضاع حياته فى الظلم والعدوان بحيث طبع على قلبه فلا يهتم بالتوبة ، بل حتى لو أراد التوبة فليس لديه فسحة من العمر كى يؤدى مستلزمات التوبة ، فقد تكاثرت ضحاياه ولم يعد يتذكرهم ، ولا يمكن أن تجدى التوبة بدون إرجاع الحقوق لأصحابها ، وسماح المظلومين ، وهذا لم يعد لديه ما يعطى منه حقوق من ظلمهم ، وليست له فى شيخوخته المقدرة على البحث عنهم ، وليس لديه فسحة من العمر تكفيه ليتحقق له قوله جل وعلا : (إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ) ( الفرقان 70 : 71 ) (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ) ( طه 82 ). أى سيلقى الله جل وعلا محملا بذنوب ولعنات ضحاياه ، ومحملا بقلب ران عليه كل ما اكتسب من سوء ، فلم يتمكن من تحقيق معادلة التوبة المقبولة وهى تصحيح الايمان و تصحيح العمل بأن ينهمك فى عمل صالح يغطى أعماله السيئة .

4 ـ أى مصيره المحتوم أن يلقى الله جل وعلا بالسيئة فلا يجد مستقرا له إلا فى الجحيم . وبذلك تتحقق له أعظم خسارة : (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) ( الزمر 15) ويجمع بين خسارة الدنيا وخسارة الآخرة .

رابعا :

1ـ نستعيد السؤال : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ ..) ونقرأ الآية الكريمة بأكملها :  (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاء فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)  

ونتأمل قوله جل وعلا : (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ). فهنا بيان الله جل وعلا فى القرآن ، وهو بيان يدعو للتفكير . ولكن .. من يفكّر من المسلمين اليوم ؟ إن من يرتكب جريمة التفكير يلاحقه التكفير ..

معظم المسلمين اليوم استراحوا الى اتهام القرآن الكريم بأنه غامض ومبهم ويحتاج الى البخارى وغيره من شيوخ ما يسمى بالسّنة لشرح و( تفسير ) وتبيين القرآن الكريم .

ومعظم المسلمين اليوم ـ وفى شهر القرآن ـ شهر رمضان لاهون بالمسلسلات والفوازير وملء البطون و تخريب العقول .

معظم المسلمين فى رمضان وفى كل أشهر العام ينطبق عليهم تماما قوله جل وعلا : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ  ) ( الأنبياء 1 : 3 ).

أخيرا :

1 ـ انتبهوا من غفلتكم أيها الناس فالقيامة على الأبواب .! .

ألم يقل جل وعلا لموسى عليه السلام منذ ألاف السنين (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى ) ( طه 15 ).

ألم يقل جل وعلا بعدها بقرون لخاتم المرسلين عليهم جميعا السلام : (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ  ) ( محمد 18).

3 ـ ونحن الآن بعد نزول هذه الآية الكريمة بأربعة عشر قرنا من الزمان ، ونعيش الاختلال فى كل شىء مع وجود تقدم مذهل لم تسعد به البشرية ، تقدم لا يسمن ولا يغنى من جوع .!

وقد مضت أولى علامات الساعة وهى نزول الرسالة الخاتمة للبشر ، وهى القرآن الكريم ، وفيها قوله جل وعلا : (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(النحل 1  )أى صدر الأمر الالهى بالعد التنازلى لقيام الساعة وستحدث فى الزمن الخاص بنا حين يلتقى بالأمر الالهى ، وفى أقل من لمح البصر ،أو بأسرع من سرعة الضوء المعروف لنا ، أى سينمحى كوننا بمعادلاته  تمهيدا ليوم وكون جديد : ( وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ ) ( النحل 77 ) .

وقد صدر الأمر بأن ينشق القمر ، وسيتحقق ذلك فى موعده لحظة الانفجار الأعظم والأخير للكون : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ ) ( القمر1  ) وفيه سيختل النظام الكونى ويختلط القمر بالشمس (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ ) (القيامة 6 : 10 ).

بل بدأت العلامة الثانية لقيام الساعة ، فقد أخذت الأرض زخرفها وإزّينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ( يونس 24 ) أى تفصيل آخر لقوم يتفكرون ؟ ولكن أين هم اليوم فى مجتمع المسلمين ؟

2 ـ لذا ستأتى المفاجأة بقيام الساعة مذهلة لمن يشهدها من هذا الجيل أوما بعده ، إذ نسى الناس تقوى الله مع أن الله جل وعلا خاطبهم فى رسالته الأخيرة لهم منذ 14 قرنا فقال :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ)(الحج 1 : 2 )  .

ودائما : صدق الله العظيم..!

اجمالي القراءات 13931