"أنا" والحزب الوطني الديموقراطي

كمال غبريال في الأربعاء ١٨ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً


كان قد سبق لي أن اقترحت على الأصدقاء والمتابعين تساؤلاً، إن كان من الأفضل في ظروف الانتخابات المصرية القادمة لمجلس الشعب والرئاسة، أن ينحاز الليبراليون العلمانيون إلى الحزب الوطني الحاكم، في مواجهة تيار جبهوي يتشكل في الشارع السياسي المصري، تلعب فيه جماعة الإخوان المسلمين دوراً محورياً. . والحقيقة أن ردود الأفعال على تساؤلي الموحي جاءت في معظمها سلبية، وربما سببت إحباطاً لكثير من الشباب الذين شرفوني بمتابعتهم الحصيفة لما أ&szlide;كتب. . ورغم أنني في الحقيقة لم أتوصل في الأمر بعد لقرار نهائي حاسم، وإنما أكاد أفكر مع أصدقائي بصوت عال، إلا أنني أيضاً ينبغي أن أعترف أن توالي الأحداث والأحوال بالوطن، مازال يدفع بي أكثر وأكثر نحو الطرح الذي نحوت نحوه في البداية، ولقد طلب مني أصدقاء أن أوضح أكثر ملابسات ما يوشك أن يصير خياري.
بداية أحب أن أريح الكثير من الأعزاء القلقين على ما يتصورونه تحولاً في توجهاتي السياسة كمعارض ليبرالي علماني، بأن أقول لهم أنني كنت ومازلت من الذين يميلون عند ذكر "الحزب الوطني الديموقراطي"، لتلقيبه "بالحزن الوطني" وليس "الحزب الوطني". . لكن ربما لأن "للحزن" أحكامه، ولأننا لا نملك رفاهية الهروب من "حزننا الوطني" أو تجاهله، باعتباره التجسيد لواقعنا السياسي والاجتماعي الأليم، فإنني وغيري مضطرون للتعامل معه سلباً أو ايجاباً.
لابد عند الحديث من التفرقة بين مانريد ونأمل للوطن، وبين تحليل واعتبار ما هو قائم. . ما أريده "أنا" هو خلق تيار علماني ليبرالي، يسعى لاستزراع الحداثة وقيمها في تربتنا المصرية، تلك الأبعد ما تكون عن الحداثة وقيم العصر. . بعد هذا، أي بعد تأسيس قاعدة جماهيرية علمانية وليبرالية يعتد بها، يمكن أن ينشأ حزب سياسي ليبرالي علماني، يدعي عن صدق أنه يمثل ولو قطاعاً محدوداً من الشعب المصري، ليدخل بعد ذلك في منافسة سياسية حقيقية مع سائر التيارات، عله يحظى بتمثيل نيابي، وتواجد فعال في الشارع السياسي المصري، يعينه على التمدد وتوسيع قاعدته الجماهيرية. . هذا بخصوص ما أريده "أنا".
لكن مع شديد "الحزن الوطني"، يختلف الواقع المصري عما أريده. . حيث تسود التيارات الدينية الإرهابية والتغيبية، سواء تلك الإسلامية أو المسيحية، كما يروج الخطاب الناصري والعروبجي الداعي للصدام مع العالم كله، إضافة بالطبع لسلبية الجماهير وفقرها الثقافي المدقع، رغم بشائر تطور إيجابي يجسده شباب عصر ثورة الاتصالات. . إلى هنا لابأس بالأمر، حيث أنه يخلق مجالاً واحتياجاً لعمل التنويرين والمثقفين، فأحوال شعبنا الظاهرية مهما بلغ تدهورها، لن تكون أسوأ من حال أوروبا في عصورها الوسطى. . لكن الاختلاف الحقيقي بيننا وبين أوروبا في ذلك العصر، أن تلك الشعوب رغم ما كانت ترزح فيه من ظلمات تلون الصورة خارجياً، استطاعت أن تنجب وتفرز صفوة تقودها في طريق الحداثة، بفضل صلابة الصفوة وتضحياتها، وبفضل تجاوب تلك الشعوب، مع تبني صفوتها لما تموج به مجتمعاتها من إرهاصات تنذر بأنوار فجر جديد.
واضح أن الأمر في مصرنا مختلف كل الاختلاف، فشعبنا الغارق فيما هو فيه، لم ينجب بخصوبة عالية سوى ظلاميين وفاشيين، باستثناء أعداد قليلة يسهل عدها وحصرها، وتعد بالفعل من قبيل الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا ينفيها، هؤلاء الذين استطاعوا بانفتاحهم ومجهودهم الشخصي أن يتعرفوا على الثقافة الغربية، وأن يتخذوا منها نبراساً لهداية شعبهم، إن كان لهداية هذا الشعب سبيلاً.
هكذا رأينا ما نرى من سيطرة هذا الخليط غير المتجانس من الظلاميين والحنجوريين على الساحة، وانزواء القلة المستنيرة في ركن قصي، في مراكز الأبحاث أو خلف أجهزة الكومبيوتر يسطرون المقالات والدراسات، دون أن يجدوا لأنفسهم موطئ قدم حيث ينبغي أن يكونوا، وسط جماهير الشعب التي يحملون همومها كما لو هم شخصي!!
بهذا ولهذا نشهد ما يجري في الشارع السياسي المصري.. الحزب الوطني الذي يدعي أنه حزب الأغلبية، ولأن هذا الادعاء يلزمه بالفعل أن يعبر الحزب عن واقع الناس كما هم بالفعل، وليس التعبير عما ينبغي أن يكون عليه الناس، نجد هذا الحزب خليطاً عجيباً من المستنيرين والمخلصين والعسكريين، ومن الظلاميين الدينيين والفاشيين الأشاوس من يساريين وعروبيين وناصريين، إضافة بالطبع إلى الفاسدين والانتهازيين والمتسلقين. . هذه الخلطة في تقييمي "أنا"، ومقارنة بما أهدف إليه وأتمناه لبلادي وأحفادي هي عقار عديم الفاعلية ومنتهي الصلاحية، وهي بالتأكيد المضاد التام لما أحلم به، لكن هذا لا ينفي عن هذه الخلطة أو هذا "الحزب" أو "الحزن" الوطني، أنه يعبر بالفعل عن هذا الشعب وميوله وخياراته، بغض النظر عما يمكن لمثل هذا الوضع ومثل هذه القيادة أن تصل بنا!!. . لا أنسى أن خالد الفكر د. فرج فودة قد فشل في الحصول على تمثيل الشعب نيابياً في إحدى دوائر القاهرة، وللأمانة لم يذكر الرجل أن فشله يرجع للتزوير!!
الوضع في جانب المعارضة لا يختلف كثيراً، فسائر أحزاب المعارضة نجدها تتشكل على ذات النحو الذي يتشكل عليه الحزب الوطني، وإن اختلفت درجات التجانس أو اللاتجانس بين حزب وآخر، فيما عدا حزب التجمع التقدمي، الذي يكاد يكون حزباً يسارياً نقياً مخلصاً لما يرفعه من شعارات ورؤى. . لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل نشهد محاولات الأحزاب والتيارات السياسية لتكوين ما يسمونه جبهات قومية، لابد وأن نتوقع أن يقل فيها التجانس إلى حد الانعدام، خاصة ونحن نجدها تضم في أغلبها جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، بزعم أنهم تيار وطني قوي لا ينبغي أن نتجاهله. . هذا بالفعل رائع، لكن من يكونون هذه الجبهات، لا يفطنون لأنهم يؤسسون لخلطة أو بالأصح "خلطبيطة"، مماثلة لتلك التي يتشكل منها الحزب الوطني، مع فارق جوهري، أن جبهتهم وفق موازين القوى المتعددة، وفي مقدمتها الإمكانيات الجماهيرية والمادية، سوف تدين السيطرة فيها لجماعة الإخوان المسلمين المحظورة، والتي هي اللعنة التي ابتلي بها الشعب المصري والعالم الإسلامي كله، بينما خلطة الحزب الوطني خلطة مجربة ومتزنة نسبياً، ويسيطر عليها العسكريون، ويلعب فيها الأكاديميون دوراً بناء وتحديثياً، بالطبع بجانب إفساد الفاسدين وإظلام الظلاميين!!. . أحب هنا أن أذكر انطباعاً شخصياً يعوزه إحصاء دقيق، وهو أن نسبة المستنيرين والحداثيين المستقيمين داخل المستويات العليا بالدولة وبالحزب الوطني، أعلى منها على مستوى الجماهير، وأن نسبة هؤلاء أكثر انخفاضاً إلى حد التدني بين صفوف ما يسمى معارضة، سواء كانت رسمية أو غير رسمية. . الأوضاع في مصر مع الأسف مقلوبة رأساً على عقب!!
الآن إذا كنت "أنا" في معرض الاختيار، وليس في معرض رسالتي تجاه وطني ومواطني، والتي كرست لها ما تبقى لي من العمر، بعد أن حددتها بدقة ووضوح، وهي السعي لنشر الليبرالية والعلمانية، وكان علي في موسم الانتخابات أن أختار من بين ما هو معروض أمامي، فماذا يتوجب على أن أختار؟
في الانتخابات قد نختار الأفضل، لكننا إذا لم نجد "فاضل" و"أفضل"، لابد وأن نتنازل قليلاً لنختار الأقل سوءً. . فما هي يا ترى الجهة الأقل سوءً؟. . جبهة غير متجانسة يلعب فيها الإخوان الظلاميون دور القائد، ويمكن أن تذهب بنا إلى كارثة؟!!. . أم جبهة الحزب الوطني المجربة، والتي تتيح للفاسدين وللظلاميين هامشاً محدوداً، عرفنا إلى أي حد يفسد حياتنا ويهدد مستقبلنا، وإلى أي حد يسعى مستنيرو هذا الحزب ولو ببطء مقيت للتقدم بالبلاد بضع خطوات للأمام؟!!
هكذا أجدني مسوقاً إلى خيار لم أكن لأرتضيه لنفسي، لكن ربما اقتضت الظروف أن نتجرع كأساً مريراً، هروباً من كأس آخر أكثر مرارة، أو حتى من كأس سم قاتل!!

 

 


 

اجمالي القراءات 8863