(بمناسبة رمضان)الصيام ما هو و كيفية أدائه

مصطفى فهمى في الخميس ١٢ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

(بمناسبة رمضان) الصيام ما هو و كيفية أدائه

 دعوة للتفكر

إن اللاحق فى هذا البحث لهو دعوة للتفكير و التفكر و العقل و التدبر لما هو وارد إلينا و مشهور لدينا بالنقل سواء كنا من العامة أو من الخاصة، من فقه و تفسير و أثر - وهو بالضرورة ليس كل ما قيل - نأخذه مأخذ المسلمات و نقدسه و نلحقه بالشارع سبحانه و تعالى و نجزم و نرهب الناس أن هذا مراده و حكمه.

تم اختيارى لموضوع مشهور فى العقيدة و الأحكام و الأثر قد يكون صادما لأغلب الناس و ذلك عن عمد ليكون مثالا لعموم الحال و ليس لخصوص الموضوع.

  • {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) البقرة}
  • {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ (71) الصافات}

 إن غلبة الفقه و الفقهاء و ذهاب أصحاب المذاهب و المفسرين مذاهب شتى و طغيانهم على نصوص القرآن على مر الزمان يساعدهم على ذلك من جاء بعدهم من التابعين الناقلين بلا عقل، يشجعهم غالبية الناس الذين يريدون أخذ دينهم من شخوص أصنام يقدسونهم و يشركون بكلامهم و بكتبهم كلام الله فى قرآنه بدلا من العمل على فهم القرآن بنفسهم كما أمرهم الله تكرارا

  • {َلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) القمر}
  • {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) الأنبياء}

 تمهيد

إن أحكام الصيام من المواضيع التى تثار سنويا عند اقتراب رمضان و يكثر الأسئلة الساذجة عن كيفية الصيام و مفطراته و يجد من يسمون أنفسهم أهل العلم الفرصة الذهبية للركوب على أدمغة الناس بكلامهم المنقول من كتب لا يمكن حصرها لكثرتها عن فقه و أحكام الصيام و شروط قبوله عند الله!، و أغلبها من المخالف للقرآن ليصل بعضهم أن يقول نقلا من الأثر أن من يضع عُقلة من أصبعه فى دبره أفطر و يقول الآخر حلا لمن عاشر زوجته عمدا فى رمضان كى يتنصل من كفارة الإفطار الصعبة المضنية، أن يركب سيارته و يسافر و زوجته فيكونا على سفر و يتمتعا برخصة من كان على سفر!!

الموضوع

إننا هنا نحاول أن نفهم الآيات البينات الواضحات القليلات العدد الكافيات البسيطات المضمون التى نزّلها الله متتالية فى الصيام فى "سورة البقرة" ملتفتين عن كل ما جاء فى كتب و فتاوى تنوء بها العقول و تتحير فيها الأفهام، و نستخلص معا أحكام الله فى كيفية أدائه بحقه و لا نتطرق إلى ماهية مراده منه، فما صرّح الله به نحاول فهمه و ما سكت الله عن حكمه نسكت عنه.

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة}

قد نضطر إلى التطرق إلى بعض المعانى بالشرح و التفصيل لتتم الفائدة

الآية الأولى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}

يخبرنا الله أن الصيام ليس بشئ جديد على المؤمنين و بين لنا أنه سنة من سننه و أمر أصيل من أمور إظهار الطاعة له، كما كان على المؤمنين السابقين لهم لعلهم يكونوا من الطائعين الخاشيين، و إلى هنا لم يوضح الله كنه هذا الصيام أو دقائقه التفصيلية، حيث أن الصيام لا يعنى فى اللغة إلا الإمساك عن الشئ

معنى الصوم

الصَّوْمُ في اللغة معناه الإمساكُ عن الشيء والتَّرْكُ له، وقيل للصائم صائمٌ لإمْساكِه عن المَطْعَم والمَشْرَب والمَنْكَح، وقيل للصامت صائم لإمساكه عن الكلام و قيل للواقف صائم لإمساكه عن السير، وقيل للفرس صائم لإمساكه عن العَلَفِ مع قيامِه ومَصامُ الفرسِ ومَصامَتُه: مَقامُه ومَوْقِفُه؛ أى أن كلُّ مُمْسكٍ فهو صائمٌ. والصَّوْمُ أيضا البِيعةُ.

{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) مريم}

و عليه فالصوم يجب يُعرّف حتى يعُرَف كنهه

الآية الثانية

{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}

ثم يقوم الله بالاستمرار فى إخبارنا "بعمومية" عن أن تلك الطاعة (غير المعرّفة تفصيليا) تكون فى أيام محددة قابلة للحصر و معلومة و ثم يبين إباحة عدم الصوم و الإمساك  لمن كانوا مرضى أو على سفر من تلك الأيام المعدودة (و ترك تقييم المرض و السفر لتقديرهم) و أن يصوموا بعددها أيام غيرها، و يعلمنا أيضا بسماحِهِ بتخيرِه الذين يستطيعون الصوم و "يطيقونه" إن لم يصوموا (يوم أو أيام من أتلك الأيام المعدودة أو كلها) ببديل بإطعام مسكين بعدد الأيام التى لا يصوموا فيها من تلك الأيام المعدودة الأصيلة (يكون منطقى حيث أن وحدة الصيام أيام)، كفدية مقبولة من الله و كافية مغنية عن تنفيذ أمره الأصيل بالصيام، فمن تطوع بزيادة عدد من يطعمهم يكون خيرا له و يثاب عند الله

و حيث أن الله ترك للمؤمنين اختيار عدم الصيام مقابل الفدية، فكان عليه أن يعلمهم أن فى الصيام خير لهم من الفدية، وإن كان هذا التصريح {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فى حد ذاته لدليل على أن الله جعل التخيير بعدم الصيام لمن هو قادر عليه و يطيقه، حيث إن كان تصريحه هذا لغير القادرين على الصيام  ـ  من مرضى أو مسافرين أو للشيخ و الشيخة لعدم الطاقة أو المشقة كما يقولون ـ يكون فى تصريحه هذا تحفيزا لغير القادرين على الصيام بالصيام،فيكون فى ذلك أذى لهم، و لما كان لقوله تعالى التالى معنى:

{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}

معنى يطيقونه: و الطَّوْقُ والإِطاقةُ: القدرة على الشيء.

والطَّوْقُ: الطَّاقةُ. وقد طاقَه طَوْقاً وأَطاقَه إِطاقةً وأَطاقَ عليه، والاسم الطَّاقةُ. وهو في طَوْقي أَي في وَسْعي؛

و قيل: كل امرئ مُكلّف ما أَطاق؛

و قيل: الطَّوْقُ الطاقةُ أَي أَقصى غايته، وهو اسم لمقدار ما يمكن أَن يفعله بمشقَّة منه

معنى سفر: و السفر هنا قطع المسافة، وسَفَرَتِ الريحُ الترابَ والوَرَقَ تَسْفِرُه سَفْراً: كنسته، وقيل: ذهبت به كُلَّ مَذْهَبٍ، و هو ما يعنى و يوحى ضمنا عدم الاستقرار

معنى مرض: و المَرَضُ هو السُّقْمُ و نَقِيضُ الصِّحَّةِ

الآية الثالثة

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}

ثم بين الله فضل شهر رمضان بنزول القرآن فيه و أظهر أن أيامه هى المحدد الصيام فيها (حيث أنه من الشهور القمرية التى تعتمد فى حسابها على حركة القمر حول الأرض و معا حول الشمس و هى حركة يمكن رصدها و حسابها و مشاهدة مظاهرها أو لا يمكن رصدها أو مشاهدة مظاهرها حسب الموقع الجغرافى على الأرض أو فى الكون) و أمر الله صيام أيامه، كل مؤمن ثبت له شهر بدايته إلى ثبوت شهر نهايته (و شهادة الشهر قد تفهم خطأ بمعنى الشهر القمرى)

معنى الشهر: الشُّهْرَةوُضُوح الأَمر، وقد شَهَرَه يَشْهَرُه شَهْراً وشُهْرَة فاشْتَهَرَ وشَهَّرَهُ تَشْهِيراً واشْتَهَرَه فاشْتَهَر

و لا يكون شهر رمضان و بالتالى صيامه، إلا بإمكان شهادة مظاهرة الفلكية (رصدا أو حسابا) فتكون مشهرة للجماعة أو الأفراد من موقعهم الجغرافى، (لتحديد بدايته و نهايته و نهار الأيام و ليلها) و إلا لا يكون عليهم صيامه كأن تكون الجماعة أو الأفراد على أى من القطبين أو قربهما أو تكون على القمر ذاته أو على أى كوكب أخر

{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) آل عمران}

ثم عاد الله مرة أخرى و ذكر إباحة عدم الصوم و الإمساك للمريض و المسافر على أن يصوموا بعددها أيام غيرها، فى محل بيان مراده بالتيسير على المؤمن حين تقديره المشقة حتى لا يشد على نفسه بالصيام عند المرض و السفر، و بذلك يكون على المؤمن - بالآية {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} - أن يُعمل علمه و ضميره بدون تفريط أو تشدد حين يتخذ قراره بتفعيل أمر عدم الصيام للمريض و المسافر، ثم أتاح للمؤمنين أن يتموا أمره بعدده المشهر فى أيام أخر يكونوا فيها على أصل حالهم و قدرتهم، ليتيح لهم كامل الإثابة ، فليحمدوا الله و يكبروه على ما أتاحه لهم و ساعدهم به فى إتمام أمره بيسر و بدون حرج و لا مشقة

و حيث أننا من الملتفتين عن النسخ فى القرآن و لا نقره، نقول أن عدم إعادة الله ذكر السماح بفدية صيام القادرين المذكور فى الآية الثالثة مثل ما أعاد ذكر أمر الإفطار للمريض و المسافر، لا يدعوا إلى وقف العمل بها - كما يزعم أهل نسخ الأحكام القرآنية! - بل يؤكد استمرار حكمها أولا لعدم النص بوقف ذلك السماح و ثانيا لأن إعادة ذكر رخصة الإفطار للمريض و المسافر فى الآية الثالثة كان لها محل لتأكيد التيسير كما ذكرنا فى الفقرة السابقة.

و نلاحظ هنا أنه حتى نهاية الآية الثالثة لم يذكر الله تفاصيل الصيام و ما يجب الإمساك عنه و كيف كمنسك خاص بالمؤمنين  بمحمد نبيا و رسولا من عند الله.

 الآية الرابعة

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}

هنا قد يتحير البعض من وجود تلك الآية ضمن سياق آيات الصيام، و لكننا نرى إن الأسلوب الإلهى المعجز يتيح لنا فهم آيات القرآن فى سياق ما قبلها و ما بعدها، فتعطى دلالات تخص السياق و كذلك يتاح فهم عمومية دلالتها ضمن آيات بعيدة عنها متفرقة فى القرآن أو وحدها، و قد حاولنا فهم عمومية دلالتها فى بحث أخر لنا "الدعاء و آلية تفعيله" ننشره قريبا بإذن الله

أما خصوصية دلالة الآية الرابعة بوجودها ضمن آيات الصيام، فكونها تبدأ بحرف "الواو" الذى يلحقها بالآيات السابقة لها و التى تكلمت عن الصيام بدون معالجة تفاصيل كنه و طبيعة هذا الصيام و عن ماذا يمسكون، فمن المنطقى أن يسأل المؤمنون الرسول عن تفصيل ذلك الأمر و عن كيفية هذا الإمساك ومحله و أن يطلبوا منه أن يسأل الله التفصيل فيما التبس و غم عليهم حتى يستطيعون تنفيذه بحقه، فيكون محل و موضع هذه الآية (الآية الرابعة) و معناها الخادم لما قبلها واضحا بعطفها على ما سبق و كمقدمة (للآية الخامسة) التى أجاب الله بها على مسألتهم و دعائهم بتفصيل كيفية و طبيعة الصيام و المطلوب منهم و عن ماذا يمسكون، و تكون دليل ظاهر على فاعلية فهم خصوصية هذه الآية و مناسبة مكانها فى سياق آيات الصيام

 الآية الخامسة

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) البقرة}

و فى هذه الآية فصل الله لعباده أمر الصيام،  أما ما قاله السابقون (و لا دليل عليه) فى أنه كانت هناك أحكام فى صدر الإسلام لا تبيح الرفث ليلة الصيام أو الأكل و الشرب بعد دخول ظلام الليل، فنزلت الآية تخفيفا عليهم و نسخا لتلك الأحكام!! فهذا ليس عندنا بشئ

أما ما نراه منطقيا لسياق الآيات و إلحاقا لفهم خصوصية الآية الرابعة الداخلة فى ذلك السياق، فنحن نرى أن الله يرد على دعاء السائلين، بتفصيل و بيان المطلوب الإمساك عنه لأداء أمر نسك الصوم الخاص بهم و بأمتهم،

رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) البقرة

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُفَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67 الحج

معنى الرَّفَثُ: الجماعُ وغيره مما يكون بين الرجل وامرأَته، يعني التقبيل والمُغازلة ونحوهما، مما يكون في حالة الجماع، و فى رأينا  أن المعنى يشمل الجماع و مقدماته التى تفضى إليه و يؤيد ذلك {إِلَى نِسَائِكُمْ} ، و لا أظن هنا أن التقبيل و إظهار شعور الحب و الحنان الذى لا يكون مراده الجماع، يدخل ضمن الرفث المقصود فى الآية

معنى الأكل و الشرب: نأخذهما هنا بمعناهما البسيط،  فهما ما يؤكل وما يشرب عن طريق الفم و يذهب إلى المعدة من خلال البلعوم 

يبدأ الله فى هذه الآية بدحض شبهة تحريم الرفث إلى النساء ليلة يوم الصوم (مع أنه لم يرد أى تفصيل أو دليل تحريم أو منع سابق فى القرآن فى هذا الصدد ليتبعوه، فقد يكونوا ورثوا تلك السنة من سنن أجدادهم أو من سنن من حولهم من ملل أخرى أو قد يكون امتناع تزيدا و غلوا منهم)، فبين الله لهم أنها فى الأصل حلال لهم، و بين لهم خطأهم و غلوهم على أنفسهم إتباعهم ذلك، و أسبغ توبته عليهم و عفا عنهم (و التوبة و العفو لا تكون إلا من إثم، وهذا يدل على أن التزيد فى التحريم و المنع هو من الإثم و يدل كذلك على أنه لا تحريم إلا من عند الله) و يأمرهم الله بضرورة تحرى أوامره و التأكد منها و السعى لها و بها، وصحح لهم ما كانوا به  يأثمون و وضح لهم ما كانوا يسألون عنه (وهو عن ماذا يصومون و يمسكون بالتفصيل) و قال أن الرفث و الأكل و الشرب مباح يوم الصيام إلا مابين بداية الفجر إلى بداية الليل يمسكون فيه عن ذلك.

ثم استثنى من تلك الإباحة الرفث إلى النساء ليلة اعتكافهم فى المساجد ثم أبان لهم إن ما سبق من أوامر و رخص و سماح، عليهم الانصياع لها، فهى حدود من عنده لا يجب الاقتراب منها و أن يتم معالجتها بحكمة و تقوى ضمانا لتجنب تبعات شبهة عدم الطاعة سواء بالتفريط عن تنفيذ ما أمر أو التشدد بعدم الأخذ بما سمح

و ذِكر السماح بالمعاشرة و الأكل و الشرب فى ليلة الصيام فى الآية هو تخصيص يفيد الامتناع و الإمساك عنهم  فقط وقت الصيام بلا زيادة أو نقص يكفى لمن يريد إتمام أمر الله فى الصيام و يكون له ثوابه، و ما يُذكر أو يفعل زيادة عن ذلك يكون تزيدا غير مبرر عن المنسك الذى أراده الله لهم، يستوجب التوبة و العفو

أدوات الصيام عند الإنسان

المعاشرة و مقدماتها هى إشباع شهوة الاستمتاع باللذة الجنسية و الأكل و الشرب هو إشباع  شهوة الاستمتاع بلذة الشبع و الارتواء و هذه و تلك من الشهوات الأساسية التى جبل الله الإنسان عليها لضمان استمرار الحياة، و كونها أساسا من غرائز البقاء، أدواتها مادية من فرج و بطن و محركها المخ كباقى فصائل الحيوانات،  تكون تلك الغريزة و أدواتها أكثر تعقيدا عند الإنسان، فمزينها و مقويها و مخرجها عن وظيفتها الأصلية هو الإدراك العقلى وتكون النفس هى المتلذذ و المستمتع بها بإشباعها و بالتالى يكون الامتناع عن إشباعها فى محلها و بأدواتها يكون بإرادة عقلية و قوة نفسية لعقل الغريزة و هوى النفس، و إشباعها يكون إرادة غريزية و رغبة نفسية يتبعها فعلها فى محلها و بأدواتها، فإذا تم ذلك يكون الإفطار فى نهار صيام و لا يكون بغيره

الخلاصة

ومن كل ما سبق نستخلص منها ما يلى، على أن يُعمِل فى تلك الخلاصة ضميره و عقله هو و ليس عقل و ضمير غيره، فبعقله و ضميره سوف يواجه الله يوم لا ينفع فيه أولياء و لا شركا،ء بل هو فقط عمل الإنسان نفسه و بنفسه

الأحكام و الأوامر خلال وقت الصوم

  1. عدم الرفث (المعاشرة و مقدماتها)
  2. عدم الأكل و الشرب و وصوله للمعدة
  3. عدم الرفث (المعاشرة و مقدماتها) ليلة صيام الاعتكاف فى المساجد

محل تطبيق الأحكام و الأوامر

  1. أيام الشهر
  2. أى أيام تليه بنفس عدد الأيام التى لم يصم فيها من كان مريضا و شفى ومن كان على سفر خلال الشهر
  3. من بداية الفجر وحتى بداية الليل
  4. المؤمنين المكلفين من الذكور و الإناث 

شروط التطبيق

  1. شهادة الشهر
  2. المدرك العاقل الحر ذو طاقة على التنفيذ (شرط عمومى وجوبى لتنفيذ لأوامر الله)
  3. الصحيح غير المريض
  4. المقيم المستقر غير المسافر

يعفى من التطبيق بدون إتمام العدة

  1. من لا يشهد الشهر
  2. الطفل أو الغافل الناسى أو مسلوب الإرادة أو المضطر أو غير ذو طاقة إلى أن يكون أمرا يغير حاله (إعفاء عمومى من الخضوع لأوامر الله)
  3. القادر على الصيام و ذو طاقة عليه،  بشرط فدية إطعام مسكين واحد على الأقل عن كل يوم لا يصوم فيه

يعفى من التطبيق مع إتمام العدة

  1. المريض (تقدير شخصى) حتى يشفى
  2. المسافر (تقدير شخصى) حتى يستقر

ثواب الصيام

إن الله شمل الصائمين و الصائمات مع باقى من وعدهم بالمغفرة و الأجر العظيم و الصيام المقصود هنا بمعنيين أولهما و أشملهما لمن يتصف بالإمساك عن الأفعال المنكرة عموما لورودها ضمن صفات حميدة تتصف كلها بعمومية المعنى و المحتوى و ثانيهما يمكن أعتباره الصيام بمعناه الخاص كنسك كما سبق و شرحناه

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) الأحزاب

الختام

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)سباء}

هذا قولنا و فهمنا من مكاننا و فى زماننا و حسب علمنا و على من يأتى بعدنا أن يفعل مثلنا.

و الله أعلم           

مصطفى فهمى                 

المراجع

  1. العقل للفهم. (2) القرآن بفهمه بالعقل. (3) المعجم لفهم اللسان
اجمالي القراءات 28042