الفصل الأول : الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح
كتاب ( شخصية مصر بعد الفتح الاسلامى ) المقدمة

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٠ - أغسطس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة
لأن التهديدات بالقتل تنهال علينا فقد أوقفت مؤقتا وقليلا البحث فى الموضوعات الجديدة واستكمال سلاسل المقالات لأتفرغ لنشر ما سبق تأليفه أو نشره فى القرن الماضى لأعيد نشره فى موقعنا (اهل القرآن ) وموقع الحوار المتمدن .
وهو حق متاح مجانا لكل من أراد اعادة النشر لكل مؤلفاتنا ، ولكن بدون احتكار للنشر .
.
ونبدأ بكتاب ( شخصية مصر ربعد الفتح الاسلامى ) وقد كان منشورا ومقررا على طلبة قسم التاريخ بجامعة الأزهر عام 1984 .
وهو يناقش قضية هامة : إلى أى حد أثّر الفتح (الاسلامى ) فى مصر دينيا ، واستراتيجيا وسياسيا ؟
نترككم مع هذا الكتاب والذى ننشره على حلقات .
والله جل وعلا هو المستعان

شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي

دكتور : أحمد صبحي منصور

قسم التاريخ الإسلامي والحضارة الاسلامية - جامعة الأزهر
1984

كل الحقوق محفوظة للمؤلف


الفهرس
المقدمة

الفصل الأول : الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح

أولا: استراتيجية مصر قبل الفتح الإسلامي
في العصر الفرعوني , في العصر البطلمي

ثانيا: الفتح الإسلامي لمصر:
فتح مصر بعد فتح الشام , حوادث الفتح , محاولات الاسترداد الرومية

ثالثا: مصر والأمويون
في الحرب الأهلية بين معاوية , في الحرب بين الأمويين والزبيريين, مصر وانهيار الأمويين

رابعا: مصر والدولة العباسية
مصر في عصر قوة العباسيين : مصر الطولونية:

ابن طولون يدعم نفوذه في مصر, ابن طولون والسيطرة على الشام ,خمارويه والسيطرة على الشام ، نهاية الدولة الطولونية .

الدولة الإخشيدية: مصر قبل الدولة الإخشيدية , الإخشيد وتأكيد سلطانه على مصر والشام .

خامسا: مصر الفاطمية
قيام الدولة الفاطمية في المغرب وتطلعها نحو مصر , الخلفاء الفاطميون في القاهرة ,
الفاطميون والشام , الدولة الفاطمية بين القوة والضعف , نهاية الدولة الفاطمية في الشام ومصر .

سادسا: مصر الأيوبية
صلاح الدين يوطد نفوذة في مصر , صلاح الدين يستولى على الشام , صلاح الدين
والصليبيون في مصر والشام
بعد صلاح الدين : خلفاء صلاح الدين في مصر والشام، الصراع بين أبناء صلاح الدين في مصر والشام العادل يستغل الصراع لصالحة،الحملة الصليبية على مصر،استفادة
الصليبين من تنافس أبناء العادل، حملة لويس التاسع.

سابعا: مصر المملوكية
خطوات إقامة وتوطيد الدولة المملوكية في مصر , المماليك والشام , استعراض الدولة المملوكية الشام ونهاية الدولة المملوكية

الفصل الثاني : الفتح الإسلامي الحياة الدينية المصرية

أولا: الإسلام ومصر قبل الفتح الإسلامي
معنى الإسلام , معرفة مصر بالإسلام قبل الفتح الإسلامي التمصير والتصدير ,
مناحي التأثير المصري علي غير المصريين، بداية المسيحية، بولس وانحراف المسيحية
دخول المسيحية مصر وتمصيرها.

ثانيا: الإسلام ومصر بعد الفتح الإسلامي
مراحل اعتناق المصريين للإسلام: المرحلة الأولى: انتشار الإسلام في هذة المرحلة، المرحلة الثانية سماتها. انحراف التشيع العقيدي
التشابه والاشتراك في الحياة الدينية بين المسلمين والأقباط في مصر .
اتجاهات الاشتراك الديني بين المسلمين والأقباط .

ثبت المصادر
الفهرس

الفصل الأول : الفتح الإسلامي والاستراتيجية السياسية لمصر بعد الفتح

أولا: استراتيجية مصر قبل الفتح الإسلامي
في العصر الفرعوني , في العصر البطلمي

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة


1 ـ (الفتح الإسلامي لمصر ) مصطلح تاريخي يضم عناصر ثلاثة : الفتح ، وكونه فتحا إسلاميا ، وكونه جرى على أرض مصر.
نقول ( الفتح ) وليس كما يقول الآخرون ( الغزو ) ، فالغزو هو هجوم أو هجمات لا ينشأ عنها مثل ذلك الذى ينشأ عن الفتح من احتلال مستمر ثابت ومستقر مع تغيير فى سلطة الحكم ، وإقامة دولة جديدة تستمر وتترك بصماتها على الشعب التى احتلت أرضه ، و تحكمت فيه . فالعرب كانوا يغزون جنوب العراق قبل ظهور الاسلام ، و هذه الغزوات تختلف عن الفتح العربى لكل تلك المناطق ، والفاطميون كانوا يرسلون غزوات للهجوم على مصر فى حكم الدولة الاخشيدية ، واختلف الوضع بعد أن قاموا بفتح مصر و تأسيس الدولة و الخلافة الفاطمية فيها ، وبنفس المنطق نقول ( الفتح العثمانى ) مع إنه (فتح ) لبلاد إسلامية ، ولكنه فتح دخلت به تلك البلاد فى عصر جديد استمر قرونا ، وترك بصماته على التاريخ المحلى و التاريخ العالمى .
ونقول الفتح الإسلامى وليس الفتح العربى لأن العرب بدون رفع راية الإسلام لم يكن لهم أن يحلموا ـ مجرد حلم ـ بفتح معظم العالم المعروف وقتها . راية الاسلام التى رفعوها فى حروبهم هى التى قامت بتوحيدهم وتكوين دولة قوية لهم توسعت و فتحت كل تلك المصار ، ومنها مصر.

2 ـ الفتح الإسلامي لمصر له وجه سياسي تحولت به مصر من ولاية رومية إلى ولاية تتبع الدولة العربية الإسلامية التي هزمت الروم في الشام وطاردتهم في مصر فكان فتح مصر .. وبه استمرت مصر تؤدي دورها خلال الدولة الأموية ثم العباسية إلى أن تعاظم هذا الدور بالدولة الفاطمية وما تلاها .
والفتح الإسلامي لمصر له وجه ديني أصبحت به ( مصر المسيحية ) دولة إسلامية وظلت تحمل هذه اللافتة ، حتى يومنا هذا .

3 ـ بيد أن (مصر ) التي شهدت (الفتح الإسلامي ) سنة 640 م كان لها تاريخ سابق متصل الحوادث سبق الفتح الإسلامي بنحو خمسين قرنا من الزمان .
لقد بدأ التاريخ الإنساني بمصر , فالمصري أول من عرف الاستقرار والزراعة وتكوين الدولة وإقامة الحضارة والكتابة والتدوين والنظم السياسية والفن والعمارة . وأقام المصريون حضارات راقية قبل التاريخ تمثلت في عشرات المقاطعات التي تناثرت حول النيل في الوادي الخصيب , ثم بدأ التاريخ لمصر المتحدة حين استطاع ( مينا ) أن يوحد الشمال والجنوب في مملكة واحدة هي مملكة منف وذلك قبل الميلاد بنحو 3200 سنة , وقبل الفتح الإسلامي بنحو 3840سنة .

وقبل الفتح الإسلامي لمصر تتابعت منذ عصر (مينا ) ست وعشرون أسرة حاكمة بعشرات من الحكام الفراعنة عبر ثلاث دول ( القديمة - الوسطى - الحديثة ) إلى أن سيطر الفرس على مصر سنة 525 ق.م . وتبعهم اليونان 332 ق. م . ثم الرومان 30 ق. م . ثم كان الفتح الإسلامي سنة 642 م .
فالفتح الإسلامي لم يكن أول فتح لمصر , فقد فتح مصر الهكسوس ثم الفرس ثم اليونان ثم الرومان واستمرت مصر ولاية رومانية من (30 ق. م : 642 م ) فإلى أي حد أثر الفتح الإسلامي على الاستراتيجية السياسية لمصر ؟ هذا هو موضوع الفصل الأول من خلال بحثنا عن (شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي).

لقد واجهت مصر قبل الفتح الإسلامي كثيرا من الغزوات والفتوحات وخضعت لأمم شتى من شرقيين وغربيين , من برابرة ومتحضرين .. إلا إن مصر كانت قد استكملت بنيانها الحضاري والثقافي والديني عبر تاريخ طويل متصل بلغ عشرات القرون , وساعد عليه ذلك الانعزال النسبي للمصريين , فالصحاري تحيط بهم من الشرق والغرب وهم ملتصقون بالنيل يجدون فيه الوفرة والأمن والاستقرار والارتباط بالمكان والأرض ، وبذلك نمت الحضارة المصرية وترعرعت وتبلورت شخصيتها وتميزت عن غيرها من الحضارات ، بل وأثرت فيما حولها من حضارات ناشئة .
ولم يكن لحضارة بهذا التراث وذلك التفرد أن تتأثر بغزوات الفاتحين , بل صار العكس وهو أن الحضارة المصرية استطاعت أن تبهر الغزاة وان تهضم ما جاءوا به من مؤثرات جديدة وتضفي عليها الطابع المصري لتصبح بعد حين رافدا من روافد الحضارة المصرية ومعبرا عنها , وذلك ما يعرف في التاريخ المصري بالتمصير , فقد خضع الغزاة لمصر لهذا التمصير , برابرة كانوا أم متحضرين , فالهكسوس ما لبثوا أن عبدوا الآلهة المصرية وتشبهوا بالفراعنة ,والاسكندر الأكبر الفاتح المثقف دارس الفلسفة ذهب بنفسه خاضعا لمعبد (آمون ) في سيوة , وسار على نهجه خلفاؤه البطالمة في مصر فغلبت عليهم الصبغة الفرعونية أكثر من الصبغة اليونانية .

لقد جاء الفتح الإسلامي بدين جديد يخالف الدين الذي يمثل الشخصية الحقيقية للحضارة المصرية , فإلى أي حد أثر الإسلام في شخصية مصر ؟ وإلى أي حد استطاع ( التمصير ) أن يضفي الطابع المصري على نوعية التدين عند المصريين بعد اعتناقهم للإسلام ؟ .. ذلك هو موضوع الفصل الثاني من بحثنا عن ( شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي ) .

3 ـ إن الفتح الإسلامي لمصر وغيرها لم يكن شيئا عاديا في التاريخ العالمي بالمقياس العسكري أو بالمعيار الديني , فلم يشهد مثله التاريخ العالمي على امتداده انتصارات عسكرية على أقوى دولتين في العالم وقتها ( الفرس والروم ) بحيث تنتهي من الوجود نهائيا قوة الفرس الرهيبة وتنحسر فيما وراء البحار قوة الروم , ثم تتسع الانتصارات وتتعاظم الفتوحات لتصل من حدود الصين شرقا إلى حدود فرنسا غربا, وفي زمن قياسي لم يعرف التاريخ له نظيرا إلا في الفتوحات الإسلامية .
وبالمعيار الديني فقد عرفت شعوب الأرض على طول الفتوحات الإسلامية في القارات الثلاث - العالم القديم - شهادة التوحيد والقرآن الذى فيه العدالة الاجتماعية والمساواة , واهم من ذلك كله أن أصبح لهم كتاب سماوي معجز بدستور يبين الحق من الباطل يحكم على القوى والضعيف والأمير والأجير ، ويظهر انحراف الحاكم ويبطل ادعاءات الحكم المطلق والإلهي , فيه الحجة على كل منحرف وضال مهما تخفى وتلون .

وإذا كان الفتح الإسلامي شيئا فريدا فإن مواجهته مع شخصية مصر ( الفريدة ) يغري الباحث بتعقب الآثار الناجمة عن المواجهة والالتحام بينهما.
لقد عاشت الحضارة المصرية 3840 عاما على تراث يناقض الدين الذي جاء به الفتح الإسلامي , وتعودت الحضارة المصرية أن تمصر كل وافد جديد إليها , وعاشت مصر بحضارتها تلك مع الإسلام اقل من ثلث المدة التي قضتها قبل الإسلام .. ولم يكن الإسلام والفتح الإسلامي بالشيء الهين .. فهل كانت شخصية مصر بعد الفتح الإسلامي استمرارا لشخصيتها قبله ؟ آم كان هناك تغيير ؟ وإلى أي مدى .. هذا ما نحاول الإجابة عليه فى هذا الكتاب المقرر على أبنائنا الطلبة فى قسم التاريخ و الحضارة الاسلامية فى جامعة الأزهر .

والموضوع عسير وشائك , إلا إن ذلك لا ينبغي أن يكون حائلا يمنع الوصول للحقيقة , وحتى إذا كان ثمة خطئ فإن الكمال لله وحده , ويكفي المجتهد إذا أخطأ انه حاول الوصول للحق بإخلاص وإذا حرم من الوصول إليه فلن يحرم - بكرم الله من أجر المجتهد المخطئ..
( ربنا لا تؤاخذنا أن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا, كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به , واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين ) .
د. أحمد صبحى منصور
القاهرة 1984 .

الفصل الأول
الفتح الإسلامي
والاستراتيجية السياسية لمصر
بعد الفتح

أولا - استراتيجية مصر السياسية قبل الفتح الإسلامي


استراتيجية مصر السياسية في العصر الفرعوني :

بدأ الإنسان بالاستقرار وتكوين الدولة المكتملة على أرض وادي النيل في مصر , وفي هذا العصر المبكر منذ أكثر من خمسين قرنا من الزمان قامت الأسر الحاكمة في الدولة القديمة بمصر وعرف المصريون الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والنبوغ المعماري حيث أقيمت الأهرامات في عصر الأسرة الرابعة (2720- 2560 ق0م) 0

وفي هذا العصر المبكر عرف الإنسان لأول مرة أن لكل دولة دورة تبدأ بالضعف ثم القوة ثم تعود للضعف و الاضمحلال ، وهذا ما حدث في الدولة المصرية القديمة (3200-2250ق0م )الذي بدأ (مينا) تاريخه بتوحيدها ثم وصلت إلى مرحلة القوة والازدهار في عصر الأسرة الرابعة ثم بدأ الضعف والانهيار إلى أن جاء الانهيار التام في نهاية الأسرة السادسة حوالي 2250 ق0م 0 وبدأت دورة تالية في عصر الدولة الوسطى بتجميع البلاد وإتحادها ثم كان الازدهار في الأسرة الثانية عشرة (2000-1790) ثم تنتهي الدورة الحتمية بانهيار الدولة الوسطى بنهاية الأسرة الثالثة عشرة (1700 ق0م ) 0

فالأمم كالأفراد تبدأ من ضعف ثم تقوى وتشتد ثم تذبل وتموت ، وهذا ما عرفته الإنسانية لأول مرة في مصر حيث قامت فيها أولى الدول في العالم في وقت كان الإنسان فيه يحترف الصيد والرعي ولما يعرف بعد الاستقرار وتكوين الدول .

وقد انهارت الدولة القديمة في مصر وتفككت مصر إلى مقاطعات وأجزاء وسادها الاضطراب الذي استمر من الأسرة السادسة في الدولة القديمة إلى الأسرة الثانية عشرة (2250 ق0م – 2000 ) حيث أمكن ثانيا توحيد القطرين . ومع هذا فإن انهيار مصر وتفككها إلى مقاطعات في ذلك الوقت لم ينجم عنه غزو خارجي ، لأنه في ذلك العهد المبكر لم توجد على حدود مصر قوة تهددها .

وتمر الأيام وتنتهي الدورة الحتمية بالدولة الوسطى في مصر بالانهيار التام وتظهر قوة الرعاة في الشرق فينحدرون إلى مصر عبر الشام وسيناء ويبدأ حكم الهكسوس حوالي سنة 1700 ق0م 0

ويبدأ مع تحكم الهكسوس في المصريين أول صفحة من صفحات الغزو والاستعمار في التاريخ العالمي ، ويبدأ المصريون في طيبة في كتابة أول صفحة في سفر المقاومة ضد المستعمر .. وينجح أحمس الأول في طرد الهكسوس وتحرير مصر ولكن لم تعد مصر أحمس كمصر السابقة ، لقد بدأ في مصر (في الدول الحديثة) عصر القوة والفتح وصارت لها إستراتيجيتها السياسية منذ عهد أحمس وحتى الآن .

في الدولة القديمة لم يكن يوجد خطر خارجي يهدد حدود مصر لذا فإن انهيار الدولة القديمة لم ينتج عنه طمع الأمم المجاورة في مصر لأنه لم توجد بعد أمم مجاورة . ولكن تمر الأيام ويصبح لمصر جيران من الممكن أن يستثمروا ضعفها وهذا ما حدث بعد انهيار الدولة الوسطى في غزو الهكسوس لمصر الذين استولوا على الشام ثم عبروا منه لمصر ..

من هنا تتكون الإستراتيجية السياسية لمصر والتي تتلخص في ( أن حماية مصر هي في السيطرة على الشام لأن الخطر يأتي لمصر عبر الشام، فمن يتحكم في الشام لا يحس بالأمن إلا إذا سيطر على مصر ) .

وقد طبق أحمس الأول هذه الاستراتيجية حرفيا فلم يكتف بطرد الهكسوس من مصر وإنما طاردهم في الشام إلى حدود العراق واخضع لسيطرته المنطقة مابين سيناء والفرات لتأمين حدود مصر . أي أن (أحمس ) فهم أن الشام ضروري لأمن مصر والحاكم القوي في مصر لابد له أن يسيطر على الشام حماية لمصر . لأن ضعف قبضة مصر على الشام معناها أن يتحكم في الشام حاكم قوي يهدد حدود مصر .

لقد وضع أحمس لمصر أسس الاستراتيجية السياسية وحولها إلى أمة حربية فاتحة تسيطر على الشام وتنقل معارك الدفاع عن مصر إلى الشام , وسار على نهج أحمس خلفاؤه من بعده وأهمهم تحتمس الثالث من الأسرة الثامنة عشر ورمسيس الثاني من الأسرة التاسعة عشر , وخلد التاريخ معاركهم في الشام وأهمها مجدو وقادش .

إلا إن هذه الدولة الحديثة التي أقامها أحمس وبلغت ذروة عظمتها في عهد تحتمس الثالث ورمسيس الثاني لم تلبث أن أتمت دورتها بالانهيار والضعف حتى لقد تحكم في مصر حكام ليبيون في الأسرة الثانية والعشرين (1950 - 740 . ق.م) وتهيأت مصر بهذا الانهيار لاستقبال الغزاة الآشوريين .

وقد توسع الآشوريون في العراق على حساب العيلاميين وفي غضون ألف عام توسعوا في كل اتجاه على حساب الحيثين في الغرب والجنوب الغربي , ثم اتجهوا للشام وقد كان تابعا لمصر فاستولوا عليه إلى فلسطين وأتم الملك الآشوري بنحريب فتح مصر سنة 760 ق . م وكان أعظم ملوك آشور هو آشور باينبال الذي تولى 669 ق. م وقد ركز كل قوته لإخماد ثورات المصريين إلى درجة أن أعداءه العيلاميين انتهزوا فرصة انشغاله بإخماد الثورات المصرية فهاجموه في مملكته ببابل وحملوا منها الغنائم وتخلصت مصر من السيطرة الآشورية إلا إنها لم تتخلص من عوامل الضعف إبان حكم الأسرة السادسة والعشرين (663 - 525 ق. م ) مما أوقع مصر تحت سيطرة غزو آخر قادم من الشرق عبر الشام . ففي منتصف القرن السادس قبل الميلاد ظهرت دول فارسية جديدة هي دولة ميديا التي قضت على الدولة البابلية وورثت أملاكها بين النهرين وتوسعت إلى فينيقيا وفلسطين .. وكان لابد أن تنحدر إلى مصر. وتم فتح مصر على يد كابوجيه ( قمبيز ) سنة 525 ق.م. ومنذ ذلك الوقت دخلت مصر - كالعهد بها في مقاومة الغزو الأجنبي - في صراع مع الفرس حتى عام 332 ق.م حين حضر الاسكندر الأكبر.

المهم أن ضعف مصر في الداخل وزوال سيطرتها عن الشام في الخارج مكن الآشوريين ثم الفرس من السيطرة على الشام ثم فتح مصر . وأكد ذلك أن الشام هو البوابة الآسيوية لمصر التي يأتي منها الخطر والتحكم في هذه البوابة الشرقية كفيل بحماية مصر من مخاطر الغزو الشرقي .

وما لبث الضعف أن أصاب الإمبراطورية الفارسية في عهد دارا الثالث , وشهد عهده نمو قوة الاسكندر الأكبر وتوحيده للإغريق, والإغريق هم العدو التقليدي للفرس وقتها . وقد استطاع الاسكندر الأكبر أن يثأر من عدوه الفارسي في معركة أيسوس سنة 323 ق. م في آسيا الصغرى . وكان منتظرا أن يطارد الاسكندر عدوه الفارسي إلى العاصمة الفارسية (صوص) ولكنه غير اتجاهه فانحدر جنوبا واستولى على ممتلكات الفرس في الشام , حتى يؤمن ظهره , ويحصر الأسطول الفارسي في البحر المتوسط ويقطع الصلة بينه وبين قوة الفرس البرية , وبعد استيلائه على الشام دخل الاسكندر مصر بدون مقاومة ووجد من المصريين ترحيبا إذ خلصهم من الحكم الفارسي البغيض لنفوسهم , كما إن الصلات كانت وثيقة بين اليونانيين والمصريين . وقد وجد المصريون عونا من اليونانيين في ثورتهم ضد الفرس .

وبعد أن أستخلص الاسكندر مصر من عدوه الفارسي وبعد أن أخضع لسيطرته الشام مع مصر استأنف غزوه فتحرك من مصر قاصدا الفرات سنة 331 فأجهز على الإمبراطورية الفارسية وظل في توسعه إلى أن مات . 323 ق. م بعد أن خلق إمبراطورية واسعة الأرجاء . وكانت مصر من نصيب قائده بطليموس وأسس فيها دولة ( البطالمة) .

استراتيجية مصر السياسية في العصر البطلمي:
كان النزاع أهم ما يميز خلفاء الاسكندر الأكبر الذين اقتسموا أملاكه في مقدونيا واليونان وآسيا الصغرى ومصر والشام والعراق . وما يهمنا من هذا الصراع هو ما دار بين السلوقيين في الشام والبطالمة في مصر . فقد أسفرت القسمة عن انفراد سيلوقس بالشام والعراق وبطليموس بمصر, ومصر والشام وحدة استراتيجية واحدة لا تتسع إلا لحاكم قوي واحد . فالحاكم القوي في الشام لا يأمن على نفسه إلا بالسيطرة على مصر , والحاكم القوي في مصر لابد أن يكون الشام في حوزته . ومن هنا كان لابد من الصراع بينهما لكي يتمكن الأقوى منهما من التحكم في مصر والشام معا .

وقد فهم بطليموس الأول استراتيجية الموقع المصري وحدد هدفه منذ البداية في تأمين سلطانه بمصر ورأى الوسيلة المثلى لتحقيق ذلك في ضم جنوب الشام لمصر بالإضافة إلى السيطرة على بعض الجزر في بحر ايجه اليوناني ليأمن منافسيه من الإغريق في مقدونيا واليونان . وقد اتبع خلفاء بطليموس الأقوياء سياسته فدخلوا مثله في صراع حربي مستمر في سبيل السيطرة على سوريا أو جنوبها لتأمين مصر . ونتتبع هذا الصراع على النحو التالي :

1 - في عهد بطليموس الأول (23 3 - 283 ق. م ) : كان بطليموس ينتهز الفرصة للاستيلاء على سوريا , وقد وجدها إبان النزاع الذي جد بين ورثة الاسكندر بعد موت انتيباثروس سنة 319 ق. م وفي غمرة التحالفات والحروب زحف بطليموس إلى سوريا فاستولى على جنوب الشام ولكنه ما لبث أن تراجع عنها أمام ضغط خصومه وأبرزهم انتيجوس في آسيا الصغرى .

ثم توسع انتيجوس في أملاك الاسكندر الآسيوية وضيق الخناق على سيليقوس في الشام , فاضطر سيليقوس للفرار إلى غريمه بطليموس في مصر , وبذلك أصبحت الإمبراطورية الفارسية سابقا والتي افتتحها الاسكندر الأكبر تحت سيطرة خليفته انتيجوس - ما عدا مصر .

وتشبث بطليموس بموقعه في مصر إذ إن سيطرة انتيجوس على الشام معناها أن سلطانه سيمتد إلى مصر , وجمع بطليموس تحالفا من القواد الإغريق وأرسلوا إنذارا موحدا إلى انتيجوس بالتنازل عن معظم المناطق التي استولى عليها أخيرا وأن تعود بابل إلى سيليقوس وسوريا الجنوبية إلى بطليموس في مصر .

والمهم هنا أن التحالف الإغريقي الذي أفلح بطليموس في تجميعه ضد انتيجوس - اعترف لبطليموس في حقوقه على سوريا الجنوبية تأمينا لموقعه في مصر .
ودارت الحرب بين انتيجوس من جهة وبطليموس ومن معه من جهة أخرى , وقد زحف انتيجوس إلى سوريا الجنوبية ورد عنها بطليموس , ثم قام بطليموس بشن هجوم جديد على سوريا الجنوبية فانتصر في موقعة غزة سنة 312 ق. م وتابع بطليموس انتصاراته فاستولى على فلسطين وفينقيا , ثم حاقت به الهزيمة في شمال سوريا سنة311 ق . م فاضطر للانسحاب من فلسطين . وعقد اتفاق تنازل فيه بطليموس عن سوريا الجنوبية .

ثم اشتعل الخلاف مرة ثانية وعزم انتيجوس سنة 306 على الاستيلاء على مصر , فزحف برا عن طريق سوريا وفلسطين بينما تقدم ابنه ديمتريوس بأسطول بحري . وفشلت الحملة برا وبحرا .

وفي سنة 302 ق م تكون حلف جديد ضد انتيجوس كان أهم أعضائه بطليموس وسيليوقس , وبينما انشغل باقي الحلفاء بحرب انتيجوس في آسيا الصغرى فإن بطليموس أسرع بالاستيلاء على سوريا الجنوبية للمرة الثالثة . ثم أسرع بالانسحاب عنها بسبب إشاعة كاذبة عن انتصار انتيجوس على الحلفاء في آسيا الصغرى , ولكن الحلفاء كانوا قد انتصروا عليهم في موقعة فاصلة عند أبسوس سنة 301 وفيها قتل انتيجوس وفر ابنه ديمتريوس . وبسبب غياب بطليموس عن هذه الموقعة فقد تم توزيع أملاك انتيجوس أضيفت فيه سوريا لسلوقس في بابل ولم يعط بطليموس أكثر من مصر .

ولم يعترف بطليموس بذلك الاتفاق واحتل سوريا للمرة الرابعة وطالب بحقوقه فيها بينما تمسك سليوقس بالاتفاق وأعلن أن بطليموس فقد حقوقه في سوريا لأنه لم يشترك فعليا في القضاء على انتيجوس كما انه انسحب من سوريا بمجرد سماعه إشاعه . ولهذا طالب سليوقس حليفه بطليموس بالانسحاب من سوريا . وظل الحال على ما هو عليه إلى أن توفى بطليموس الأول سنة 283 ق. م .

2- في عهد بطليموس الثاني (285 – 246 ق . م ) :
استمرت في عهده الحروب بينه وبين السلوقيين حول جنوب الشام . ففي سنة 267 ق. م تقدمت قواته فاحتلت دمشق ولكن الملك السلوقي انتيجوس الأول استخلص دمشق ورد قوات بطليموس الثاني إلى فلسطين .

ثم توفى الملك السلوقى انتيجوس الأول وخلفه ابنه انتيجوس الثاني فهبت الحرب السورية الثانية وقد تحالف فيها مع السلوقيين كل من مقدونيا ورودس وافيسوس وملطية . تلاحقت الهزائم البحرية والبرية على بطليموس الثاني ، وانتهت الحرب بصلح تزوج به انتيوجس الثاني من ابنة بطليموس الثاني . وكانت لانتيوجس الثاني زوجة سوريه .

3- في عهد بطليموس الثالث (246 - 221 ق. م ):
بسبب النزاع الأسرى بين زوجتي انتيوجس الثاني تمكنت الزوجة الأولى من قتل زوجها انتيوجس ، ودار الصراع بين الزوجتين في بداية عهد بطليموس الثالث ، وهب الأخير لحماية أخته وصيانة حقوق ابنها على العرش بعد مقتل والده ، وقبل أن يتحرك بادرت الزوجة الأولى بقتل بنت بطليموس وابنها . وبذلك اشتعلت الحرب السورية الثالثة .

وزحف بطليموس الثالث سنة 246 ق.م فوصل للفرات وعبره إلى سيلوقية على نهر دجلة ، إلا إنه اضطر للعودة لمواجهة أزمة داخلية في مصر فانتهز سليوقس الذي تولى العرش في سوريا واستخلص سوريا الشمالية وبقيت في أيدى المصريين سوريا الجنوبية بما فيها فينيقيا وفلسطين .

واكتفى بطليموس الثالث بتوطيد نفوذه في جنوب الشام واستغل الحرب الأهلية التي اشتعلت بين صفوف خصومه في الدولة السلوقية في تحريض الطرفين كل على الآخر فبقيت الدولة السلوقية منقسمة على نفسها وبقيت سوريا الجنوبية في يد بطليموس الثالث حتى وفاته .

4- في عهد بطليموس الرابع ( 221- 205 ق.م ) .
كان خاملا مترددا سيطر عليه أحد أتباعه وهو سوسيبيوس . وقد عاصره في الدولة السيلوقية انتيوجس الثالث الذي ورث دولة مفككة فاستطاع توحيدها وعزم على الاستيلاء على سوريا الجنوبية من مصر وهو يعلم ضعف بطليموس الرابع . ولكن القائد البطلمي في فينقيا استطاع رده عنها .

وتولى سوسيبيوس أمر الإعداد للحرب الرابعة ، فعمل على ازدياد الخلاف داخل الدولة السلوقية استمرارا لسياسة بطليموس الثالث عن طريق الرشوة والمؤامرات . وكي يكسب الوقت بعث يفاوض الملك السلوقى ويوهمه بأن يكون الاتفاق في صالحه ثم يماطل في هذه المفاوضات اعتمادا على انشغال الملك السلوقى بمواجهة الثورات الداخلية التي يشعل نارها سوسيبيوس من خلف ظهره . وفى هذه الأثناء أعد سوسيبيوس جيشا من الفلاحين المصريين الأشداء دربه في عامين بواسطة ضباط مقدونيين في سرية تامة .

وبعدها كان انتيوجس الثالث قد أكمل توحيد دولته ويأس من مماطلات سوسيبيوس فتقدم بقواته حتى وصل غزة , فوجد الجيش المصري في انتظاره عند رفح سنة 217 ق.م تحت قيادة الملك البطلمى نفسه .

وفى بداية المعركة انهزم الفرسان البطالمة وهرب بطليموس الرابع إلا إن الجنود المشاة المصريين ثبتوا في أول معركة يخوضونها منذ قرون طويلة . وحولوا الهزيمة إلى نصر وعاد الفارون وفى مقدمتهم بطليموس الرابع واحتفظت مصر بسيادتها على جنوب الشام.

5- في عصر الضعف البطلمي :

ودخلت الدولة البطلمية في عهد الضعف فتمكن انتيوجس الثالث سنة 200 ق. م من انتزاع جنوب الشام من مصر . ثم ازداد ضعف البطالمة وازدادت تبعيتهم غير الرسمية لروما التي أخذت تتدخل في الصراع الأسري داخل البيت البطلمي (من سنة 180 ق. م _ 51ق. م ) وفي هذه الأثناء أصبح السلوقيون في الشام خطرا على مصر بعد انتزاعهم لجنوب الشام من البطالمة وازدياد ضعف البطالمة , وهكذا زحف انتيوجس الرابع السلوقي سنة 170 ق. م فاستولى على مصر وتوج في ممفيس فرعونا مصريا حسب التقاليد المصرية . ثم حدث نزاع أسري في أسرة البطلمية في الاسكندرية نتج عنه فرار بطليموس السادس ووقوعه في أسر الملك السوري المقيم في ممفيس واستعدت الاسكندرية لمواجهة الغزو المرتقب لانتيوجس , ولكن بعض السفراء الإغريق تمكنوا من حمل انتيوجس على الرحيل عن مصر . لكنه عاد سنة 168 فاستولى على مصر وحاصر الإسكندرية إلا إن الروم أجبروه على الرحيل .

وظلت روما تتدخل في شئون البطالمة إلى أن تمكنت من ضمها رسميا بعد مقتل كليوباترا ( 30ق.م ) .

في العصر الروماني :

كانت مصر آخر قطر في شرق البحر المتوسط سقط في أيدي الرومان عقب موقعة أكتيوم البحرية ودخول أكتافيوس – أغسطس مصر سنة 30 ق.م وإن كانت مصر قبل ذلك قد وقعت تحت النفوذ الروماني في عصر الضعف البطلمي إلى أن انتهى بمصرع كليوباترا .

وأصبحت مصر ولاية رومانية شأنها في ذلك شأن الشام وباقي الولايات الرومانية , ومن ثم لم يعد لها تاريخ مستقل في ذلك العهد أو سياسة مستقلة , وإنما كانت سياستها وأحداثها رد فعل للسياسة التي ترسمها روما .

على إن المصريين لم يذعنوا للاستعمار الروماني فلم يكد اكتافيوس - أغسطس - يغادر مصر حتى اشتعلت نيران الثورة سنة 29 ق . وانتشرت في الدلتا والاسكندرية وطيبة والصعيد وتمكن أول وال روماني - هي جالوس - من إخماد الثورة بالكثير من العنف .

أثناء تبعية مصر للرومان تعاقب على حكم روما بعد أغسطس : الإمبراطور تيريوس , ثم كاليجولا ثم كلوديوس ثم نيرون ثم فسبسيان وهكذا إلى أن حل بروما في القرن الثالث الميلآدى محنة كبرى من التنازع على العرش وتدخل الجيش الروماني في تولية الأباطرة وعزلهم أو قتلهم , وكان المصريون من ناحيتهم يبيدون كل ثائر على الحكم الروماني كراهية في الرومان . وأملا في تدمير الإمبراطورية الرومانية .

وقد بلغت الفوضى السياسية والعسكرية في روما أوجها فيما بين ( 252- 268 م ) حيث كثر التتطاحن بين أدعياء العرش واشتد ضعف السلطة المركزية في روما . فأعلنت بعض الولايات استقلالها عن روما وكان من بينها مصر سنة 260 م . ثم تمكنت روما من استعادة سيطرتها على مصر بعد كثير من المذابح .
استيلاء زنوبيا ملكة تدمر على مصر :

أثناء القرون الثلاثة من الإمبراطورية ازدهرت في الشرق إمارة تدمر في الصحراء التي تفصل بين سوريا وبابل واعتمد نشاطها على النقل التجاري بين الشرق والغرب , ثم خضعت تدمر لسلطان روما وإن تمتعت بنوع من الاستقلال الداخلي .
واستطاع أ ودينات التدمرى أن يكون جيشا بماله من عدة وعتاد وساعد بجيشه الإمبراطور جالينيوس فعينه الإمبراطور قائدا عاما على ولايات الشرق . وتوفى أودينات فخلفته زوجته ( زنوبيا ) التي طمحت لتكوين إمبراطورية منتهزة فرصة الضعف الذي حل بالإمبراطورية الرومانية .
ومن ثم أرسلت زنوبيا جيشا ضخما سنة 269 احتل مصر واقتطعها عن الإمبراطورية الرومانية ، و اضطرت روما للاعتراف بالأمر الواقع فاعترفت بوهب اللات بن زنوبيا شريكا في الحكم , وبعد عام واحد رفض وهب اللات الحكم المشترك وأعلن نفسه إمبراطورا , وهبت الحرب بين روما وتدمر وتمكنت روما من تدمير تدمر إذ أرسلت جيشا من الشمال عبر آسيا الصغرى وجيشا آخر إلى مصر وعادت مصر من جديد للرومان سنة 27 م .

في مصر البيزنطية :

وقد حاول دقلدياقوس ( 284 - 305 م ) إجراء بعض الإصلاحات في الدولة الرومانية لينقذها من الاضمحلال بوضع قواعد جديدة , وقد ظلت تلك القواعد معمولا بها إلى عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان في القرن السادس إلا إن أوضاع الإمبراطورية استعصت على الحل وانهارت روما أمام غارات البرابرة وقبلها انتقل مركز الحكم إلى القسطنطينية التي بناها الإمبراطور قسطنطين . واحتفظت الإمبراطورية البيزنطية بالسيطرة على مصر والشام تاركة أملاكها في أوربا للبرابرة من الهون والجرمان والفرنجة من القبائل المتبربرة .

إلا إن نمو القوة الرومية في القسطنطينية واجه نمو قوة أخرى في فارس حيث قوي الأكاسرة من بنى ساسان ودار الصراع بين القوتين الشرقية الفارسية والغربية الرومية حيث كان خلفاء جستنيان أقل مقدرة منه فانتشرت الفوضى داخل الإمبراطورية البيزنطية خصوصا مع الانقسام الديني المسيحي مما مكن كسرى من هزيمة فوكاس الرومي وتوغل في الشام واستولى على بيت المقدس وتمكن قائده شهر براز من فتح مصر ودخل الإسكندرية سنة 616 م . بينما وصل جيش فارسي آخر إلى القرب من القسطنطينية . وبهذا تم استيلاء الفرس على كل بلاد آسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر وحاول - هرقل - الذي خلف فوكاس - الهرب يأسا .

وهناك في مكة بعيدا عن مجرى الأحداث كان خاتم الأنبياء عليه السلام وأصحابه في إشفاق على ما أصاب الروم من هزائم وهم أهل كتاب أمام مجوس الفرس ونزل قوله تعالى ( آلم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين ) .

وفعلا في بضع سنين عبر هرقل بجيشه الدردنيل وانتصر على الفرس في أرمنيا سنة 622 م ثم انتصر عليهم مرة ثانية داخل إيران , وعلى مدى عشر سنوات تمكن هرقل من استعادة الشام ومصر .

ولم ينعم الروم بمصر طويلا إذ هبت قوة جديدة من داخل الجزيرة العربية تحمل الإسلام الدين العالمي ولا يمر وقت طويل حتى تحيل سيوف المسلمين إمبراطورية كسرى إلى أثر بعد عين وتطرد الروم إلى ما وراء البحار . وتصبح مصر مع الشام إمارات إسلامية ,ويدخل تاريخ العالم في منعطف جديد .

وقبل أن نعيش مع مصر في وضعها الجديد تحت حكم المسلمين نتوقف لنستعيد عناصر الاستراتيجية السياسية لمصر قبل الفتح الاسلامى لنرى بعدئذ هل استمرت تلك الاستراتيجية أو تغيرت . .

1- فمصر - شأنها شأن كل البلاد - شهدت عصورا من القوة والضعف في دورة تاريخية تمر بها الأمم تبدأ بالضعف ثم تقوى وتتحد وتزدهر ثم تضمحل وتضعف وتنقسم .

2- وفي عصور الضعف التي عرفتها مصر منذ الدولة الوسطي - حيث صارت في العالم قوى مختلفة فإن غزو مصر - خصوصا من الشرق كان واقعا تاريخيا . فعندما انهارت الأسرة الثالثة عشرة من الدولة الوسطي غزا مصر الهكسوس . وحين انهارت الآسرة الثانية والعشرون سيطر الآشوريون على مصر . ثم استمر الضعف فغزا مصر قمبيز . وحين ضعف البطالمة غزا مصر خصمهم انتيوجس الثالث . وأبان ضعف روما في القرن الثالث الميلادي تمكنت زنوبيا في الشام من ضم مصر إليها . وحين ضعف البيزتطيون استولى كسرى على مصر .

ويتضح من ذلك كله أن الشام كان البوابة التي يأتي منها الخطر لمصر إبان ضعفها . ووقوع الشام في يد قوية معناه تهديد مصر وفتحها بالفعل إن كانت ضعيفة .

3- وفي عصور القوة التي طرأت على مصر في عصورها الفرعونية والبطلمية كان الاستيلاء على الشام ضرورة أمنية يحرص عليها حكام مصر . فهذا ما فعله أحمس الأول بعد طرد الهكسوس , وهذا ما فعله تحتمس الثالث ورمسيس الثاني حين نقلا معارك الدفاع عن مصر إلى الشام والفرات.
وتابع هذه السياسة البطالمة فكانت الحرب السورية أهم ما يميز السياسة الخارجية لبطلميوس الأول و الثاني و الثالث و الرابع , وهدفوا من ذلك إلى ضم جنوبه حماية لمصر .
كانت تلك خلاصة التاريخ المصري قبل الفتح الاسلامى بعشرات القرون فإلى أي حد كان الاختلاف الذي جاء به الفتح الاسلامى .

اجمالي القراءات 19251