د. رائق النقرى ومدرسة دمشق فى المنطق الحيوى
القرآن الكريم والمنطق الحيوى (1 / 2 ):

آحمد صبحي منصور في الأحد ٢٥ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

1 ـ المفكر السورى د. رائق النقرى هو مؤسس مدرسة دمشق للمنطق الحيوى ، وهو فرع جديد من علم المنطق ( المنطق الحيوى ) ، أضاف به د . النقرى جديدا فى تاريخ علم المنطق ، يجعله سابقا على الفلسوف العربى ابن رشد ـ الذى انهمك فى محاولة التوفيق بين أرسطو وافلاطون ، أما رائق النقرى فقد أنشأ وابتكر علما جديدا وضع له قواعده وصاغ مصطلحاته وطبقه على الواقع مستعملا الكومبيوتر.
حتى الآن لا يزال يبشّر بهذا العلم الجديد خارج سوريا فى مصر وفرنسا وأمريكا وغيرها ، ولقد تفضل باعطاء ندوة عنه فى رواق ابن خلدون ـ حين كنت أديره فى أواخر التسعينيات من القرن الماضى ، ولقد تعارفنا وقتها ، وسعدت بمعرفته على المستوى الانسانى و المستوى الفكرى الثقافى العلمى . وأرى أنه إرهاص مبكر لعودة الحيوية للعقل العربى لتسهم فى صياغة التفكير فى عالمنا المعاصر ، كما أعتبره ضلعا رابعا يكمل المربع ليصبح (سقراط ارسطو افلاطون رائق النقرى .)
2 ـ من أسف أن مدرسة دمشق للمنطق الحيوى تجاهد لكى تجد لها متنفسا فى عصر الانحطاط العربى . فالفجوة هائلة ومرعبة بين: عقل ينتج علما جديدا فى فلسفة المنطق يتوخى مصالح عصرنا وتحدياته ، ويصعد بعلم المنطق ( العالمى ) الى آفاق جديدة ، و بين اللاعقل ، لدى الأغلبية العربية المسلمة والمسيحية وهى لا تزال مطية للرجعية الدينية السلفية الشعبية ومؤسساتها الدينية ، تجتر خرافات الانحطاط من رضاعة الكبير والتبرك ببول النبى الى ظهور السيدة مريم فى كنيسة الزيتون . يتزايد الانتاج العلمى لمدرسة دمشق للمنطق الحيوى ، ويمكن الرجوع الى رابطها على الانترنت :
www.damascusschool.com
حيث يجد المرأ حوارات تسخدم القياس الحيوي لقياس مصالح النصوص والصور والأحداث بلغة جديدة وتقنيات رياضية مبسطة وجديدة و أهمها تقنية مربع المصالح وقياس بداهة كعبة المصالح التي تختلف كليا عن مربع قضايا أرسطو.
تلخيص المنطق الحيوي بسطر واحد فقط هو امر صعب .. و لكن يحلو للنقري تلخيصه بسطر يراه كافيا لفهمه حتى من القارئ غير المختص , حيث يقول: " المنطق الحيوي هو منطق متعدد قيم الشكل الحركي الاحتوائي الإحيائي البدهي ".
ولقد إنضم الى مدرسة دمشق لفيف من المفكرؤين العرب منهم الاستاذ جودت سعيد ود. حمزة الرستناوى. .محمد الراشد ود
3 / 1 -ولقد طالعت كتاب الدكتور الرستناوى ( أضاحى منطق الجوهر ) الذى حاول فيه تبسيط وتطبيق المنطق الحيوى بوصفه نقيض المفهوم الكلاسيكي عن الجوهر الثابت , و تنفي وجود جوهر ثابت سحري مفارق للمجتمع ,و هي نقيض مفهوم الثنائيات كالخير و الشر – الجمال و القبح- الحقيقة الوهم- المقدس و المدنس…الخ
و"الحيوية " مفهوم يرمي إلى رؤية الكون بمختلف تشكيلاته رؤية كلية , شاملة , موحدة , على أساس صفات كونية عامة , شاملة , هي الحركية , و التجديدية , و الإبداعية , و هذه الرؤية تعني وحدة الكائنات , وفق هذه الصفات .. فأول صفة مشتركة للكائنات هو أنها ليست جوهرية , و المفهوم الحيوي يقوم على دحض و رفض كل المفاهيم الجوهرانية , سواء المادية أم الروحية التي تؤدي بالنتيجة إلى الثنائية , و لذلك فإن المفهوم الحيوي , يؤكد وحدة الكون من خلال ضرب مفهوم الجوهر الثابت , الدائم . و يمكن إيجاد جذور للمفهوم الحيوي , في كل الإرهاصات الفكرية التي أرادت إثبات وحدانية الكون , سواء في ذلك مفاهيم كالمادة أم الروح أم الوجود أم الذات أم المطلق أم المادة أم النار أم الإله أم الطوطم أم الجنس..الخ , فكل هذه المفاهيم و غيرها تتضمن نزوعا ً لإثبات الوحدانية إلا أنها جميعا ً تسقط في شرك الثنائيات , لأنها تأكيد على منطق أحادي جوهري ثابت “”( المرجع 11 في الحاشية رقم 11 من كتاب حمزة )″
ويعتمد المنطق الحيوي تقنية وحدة مربع المصالح بوصفها صيغة تقنية رياضية منطقية تحتوي أعم وأبسط اشكال وحدة مصالح تعامد بعدي الزمان والمكان فيها مولدا أربع مربعات فرعية بارقام جبرية ترمز الى مصالح متنوعة منها ( توحيد , تعاون , صراع , عزلة) كما هو في الرسم التالي:

وحدة تقنية مربع البداهة الكونية للمصالح المشتركة يتحوى كل مربع فرعي أربع مربعات اخرى تعيد انتاج مربع المصالح في مسوتى اعلى او ادني..).
3 / 2 : وكتاب الدكتور الرستناوى ( أضاحى منطق الجوهر ) يستحق التقدير، إلا اننا نحن القرآنيين نختلف معه فى خلطه بين الاسلام والمسلمين واعتبارهما كيانا واحدا .
وربما لو قام بالفصل بين الاسلام ( القرآن ) وبين المسلمين وتراثهم من أحاديث وفقه وتشريع و فكر وتاريخ ومذاهب (أو أديان أرضية كما نطلق عليها ) لكان هذا أسهل وأسرع فى الوصول الى كبد الحقيقة من خلال القرآن الذى لا مجال فيه للعوج والاختلاف ، ثم الاحتكام اليه فى أحوال المسلمين فى الماضى و الحاضر لتفسير وتعليل وفلسفة ومنطقة الاختلافات بينهم تبعا لاختلافاتهم المصلحية سياسيا ومذهبيا . بدون ذلك يقع الباحث فى الانتقاء . ولأنه هو الذى يقوم بالانتقاء فلا بد أن يقع فريسة هواه الشخصى باختيار ما يراه ملائما لبحثه ورفض أو تجاهل أو التشكيك فيما لا يراه متفقا معه ، وهذا الانتقاء يتناقض مع الموضوعية العلمية . ثم إن الانتقاء واختيار عينات ونماذج مختلطة ومختلفة تؤدى الى نتائج متناقضة لا يصح نسبتها الى الاسلام ، وومصدره الوحيد ( القرآن ) ، ولكن يجب نسبتها للمسلمين واختلافاتهم وصراعاتهم وتناقضهم مع الاسلام . عموما هو خطأ يقع فيه دائما من يخلط بين الاسلام والمسلمين معتمدا على تلك الأكذوبة القائلة بأن القرآن الكريم ( حمّال أوجه ).
4 ـ يتزايد الانتاج العلمى للمفكر العربى السورى رائق النقرى ، وقد صدرت له مؤلفات عديدة منها فى المنطق الحيوى : .
الايدلوجية الحيوية عام 1970 ، الانسان شكل 1974 ، القانون الحيوى للكون 1975، النظرية الحيوية فى المعرفة 1976 ، كلها من دمشق ، ثم من باريس : المنطق الحيوى : عقل العقل فى اربعة أجزاء 1987 ، ومن القاهرة : فقه المصالح عام 1999 ، ثم هو الآن بصدد نشر موسوعته التى يربط فيها بين القرآن والمنطق الحيوى تحت عنوان ( قرآن القرآن ) فى أربعة أجزاء . ولا تزال تحت الطبع .
ولقد أطلعت على الجزء الثانى من المجموعة ( قرآن القرآن : وقياس كعبة المصالح ). وقد أعجبنى فى التمهيد تفسيره لمصطلح القرآن بالقراءة ، وبالقرينة أو كما أسماها ( القرأنة ). ومع أنه استند الى تحليله الشخصى مع الرجوع الى مصادر التراث إلتى لا نعوّل عليها فى فهم القرآن الكريم ،إلا إننا وبمنهجنا فى فهم مصطلحات القرآن من خلال السياق القرآنى الخاص والعام نتفق معه ، فالقرآن يعنى طريقة القراءة للكتاب العزيز ، يقول جل وعلا (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ( القيامة 17 : 18 )،
كما أن القرينة تعنى عندنا السياق القرآنى ، وبالسياق القرآنى الخاص والعام نفهم المصطلح القرآنى ونتتبع أو نتدبر موضوعه خلال آيات القرآن الكريم كلها ـ بدون نية مسبقة أو فكرة مسبقة يراد إثباتها ـ حتى لا نقع فى الهوى و الانتقاء لما نريد وتجاهل أو تاويل ما لا نهوى. يعنى هذا لمحة من الاتفاق المنهجى بيننا أهل القرآن وما يقوله د. رائق النقرى. ويتبعه لمحات فى التطبيقات .
5 ـ إلا أن الاختلاف بيننا يظل قائما ،لأنه مؤسس على خلطهم بين الاسلام والمسلمين واعتبار القرآن الكريم حمّال أوجه . وهذا ما نرفضه عقيدة ومنهجا علميا بحثيا . ومن هنا نرى الانتقاء فى عنوان الكتاب بأنها نصوص تم تطبيق المنطق الحيوى عليها ، وهو نفس عنوان كتاب د. حمزة الرستناوى ( أضاحى منطق الجوهر : تطبيق مفايسات المنطق الحيوى على عينات من الخطاب الاسلامى المعاصر ) .
أن تحقيق المصالح هو لب المنطق الحيوى ، وهنا تكمن المشكلة حين نقرأ القرآن بنظرة هذا المنطق ، ففى القرآن نوعان متناقضان من المصالح : المصالح التى نزل القرآن يدعو اليها ، وهى أهم مايقال فيه أنه ( مقاصد التشريع ) ، ثم المصالح التى يهاجمها القرآن لمن يطلق عليهم رب العزة المشركين الكافرين الظالمين المعتدين المسرفين المجرمين الطغاة البغاة ..وهى صفات انسانية انطبقت على الناس قبل وأثناء نزول القرآن ، وتظل تنطبق على الناس بعد نزول القرآن . وتلك المصالح هى أساس دعوة القرآن ،وفى مقدمتها العدل و القسط ، والقسط هو أساس انزال كل الكتب السماوية و ارسال كل الرسل ، فالمقصد هو أن : يقوم الناس بالقسط ( الحديد 25 ). وما لبث أن وقع ـ ويقع ـ المسلمون أسرى مصالحهم التى تتعارض مع القرآن وقيمة العدل وبذلك ساروا نفس سير أسلافهم . ومن هنا تكمن خطورة الخلط بينهم وبين الاسلام كما جاء فى القرآن الكريم ، لأنعكاس هذا فى الخلط بين مصالح المسلمين التى تتعارض مع مصالح القرآن .
ويزيد من تعقيد المشكلة أن المسلمين قاموا بتسويغ وتشريع مصالحهم بصنع مشروعية كاذبة لها عبر حياكة الأحاديث (النبوية ) والسيرة ( النبوية )، ثم بتحريف معانى القرآن بالتفسير والتأويل ، وتعطيل تشريعات القرآن بزعم (النسخ ) التراثى ، وبهذا تم ( إتخاذ القرآن مهجورا ) ( الفرقان )، فأصبح معزولا عن التفاعل مع حياة المسلمين ، مجرد ( مصحف ) للتبرك فى السيارة ، و(لوحة ) تزين الجدار ،أو ( قصيدة ) يتغنى بها القرّاء فى مناسبات العزاء وعلى القبور . هذا بينما الذى يتم تطبيقه فعلا هو ما يعرف بالشريعة التى يعتبرونها الاهية سماوية بينما هى مجرد اقوال فقهاء من البشر ، مؤسسة على الاختلاف فى الاصول وفى الفروع والتفصيلات بحيث لا يمكن ان تصيغ منها مادة قانونية مجمعا عليها .
هنا تكمن الأهمية الكبرى فى علم المنطق الحيوى ، لو يمم وجهه صوب القرآن الكريم وحده يحلل من خلاله المصالح الحقيقية ، ومنها ينظر الى تراث المسلمين ومذاهبهم وتشريعاتهم بالتصحيح . وبنفس القدر تكمن خطورة أن يقوم المنطق الحيوى بالخلط بين النقيضين .
6 ـ على إن الانصاف يقتضى الاعتراف بأننا نظلم د . رائق النفرى ومدرسته لو إعتبرنا هذا نقدا ومأخذا نأخذه عليه . للأسباب التالية :
6 / 1 : فهذا شىء طبيعى ومنتظر فى بداية تقعيد وتأطير أى علم جديد . ليس منتظرا من الرائد ( رائق ) ومدرسته فى هذه المرحلة سوى اكتشاف صلاحية المنهج بتطبيقه على عينات ونماذج . وظيفة الجيل التالى هى الوصول الى اكتشاف القواعد الكلية التى تنطبق على كل الحالات ، والوصول الى الاستقراء العام ، وتحديد المحترزات و الاستثناءات و الشواذ وكيفية التعامل معها، وهل لهذه الاستثناءات قواعد ثابتة أم متحركة .
أى نفس ما سار عليه اختراع ما يسمى بالنحو وقواعد اللغة العربية ، بدأ باستخلاص القواعد من نماذج من القرآن والشعر الجاهلى و نطق الأعراب الخلّص فى البوادى ثم دخل مرحلة الاستقراء والتعميم على كل كلام اللغة العربية ، بأن يظل الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا ..الخ ، وفى هذه المرحلة فى العصر العباسى الثانى ظهرت مشكلة ( الشذوذ ) أو الاستثناءات التى تخرج عن القاعدة بين مدرستى الكوفة والبصرة النحويتين ، وهل يتم الاعتراف بهذا الشذوذ أن يتم تأويله و عدم الاعتراف به .
هذا هو المسار الطبيعى . لا يقلل من ريادة أبى الأسود الدؤلى أن الخليل بن أحمد الفراهيدى اكتشف وتعمق أكثر منه ،بل يظل أبو الأسود الدؤلى رائدا للخليل ، كما لا يضير الخليل بن أحمد ان يسجل تلميذه سيبويه فى (الكتاب ) ما لم يقله استاذه الخليل ..وهكذا ..وبالتالى لا يضير رائق أن يأتى تلاميذه من بعده بجديد لم يعرفه ، بل أقطع أن هذا ما يتمناه رائق فى ضوء ما لمسته فيه من محبة للحقيقة وسعى لها .
6 / 2 : إتجه رائق ومدرسته الى تطبيق المنطق الحيوى فى مجالات عدة ، أهمها الاسلام والمسلمين والقرآن ، من خلال مقايسة منطقية ترجع اساسا الى الجوهر وهو المنطق ، وتأخذ من ميادين الحياة والفكر تجليات للتطبيق . وموضوع الاسلام له خصوصية وحساسية ، لا يمكن فى ضوئها إرضاء جميع الأطراف من مذاهب وملل ونحل . من هنا يحرص على ان يدخل الى موضوع القرآن بعيدا عن المعالجة الدينية كأى شيخ ، ولكن كمشتغل بعلم المنطق . ولسنا هنا فى مجال التمحيص والنقاش فى ماهية وجدوى هذا الطرح ولكن نرى فيه مخرجا ذكيا للخروج من تلاليب الصراعات المذهبية والطائفية للمشتغلين فى الحقل (الاسلامى ) على المستويات الفكرية والسياسية والاجتماعية . من هنا نفهم حاجته للانتقاء والاختيار ، مع عدم التعمق بل ـ عدم الدخول ـ فى الخلافات والمسائل الخلافية . بل إنه يعتمد أحيانا مصطلحات التراث ومقولاته التى ترضى الأغلبية تجنبا للمشاكل ، ولا ترضينا نحن أهل القرآن ـ مثل مقولة ( القرآن حمّال أوجه ).
6 / 3 : ولأنه عالم منطق أساسا ، وقد اتخذ من الاسلاميات وقراءة القرآن ميدانا له يقايسه بالمنطق الحيوى فمن الظلم له أن نطالبه نحن ـ أهل القرآن ـ باتباع مناهجنا فى البحث القرآنى . ليس فقط لأنه فى مرحلة الريادة وتجربة التطبيق للمقايسات ، وليس فقط لأن مناهجنا تعبر عن أقلية الأقلية بالنسبة لعدد القرآنيين فى مواجهة الأغلبية الكاثرة والمتنفذة ، ولكن لسبب أهم ، وهو أنه فى هذه المرحلة من الريادة فى تاسيس علم المنطق الحيوى يكون صعبا ومرهقا التعمق فى فهم وتطبيق مناهج البحث القرآنى التى يسير عليها أهل القرآن ، والتى على أساسها تم نشر المئات من أبحاثهم .
وحتى نعطى فكرة سريعة عن منهج القرآنيين البحثى فهم يضعون فاصلا بين الاسلام ( القرآن ) والمسلمين ، ولهم منهجهم فى فهم القرآن كما أن لهم مناهجهم فى فهم واستيعاب وتحليل تراث المسلمين السنى و الشيعى و الصوفى . وبالنسبة للبحث القرآنى فهناك منهج عام يتم به تحديد مفاهيم المصطلح القرآنى فى السياق العام والسياق الخاص ، وتدبر الموضوع بدون وجهة نظر مسبقة فى كل آيات القرآن الكريم ، ثم هناك مناهج قرآنية خاصة فى التعامل مع العبادات و التشريعات والحلال والحرام والتأويل والتفصيل والبيان والتكرار القرآنى والمحكم و المتشابه و فى القصص القرآنى ..الخ .
ليس من المنتظر من رواد المنطق الحيوى فى مرحلة التأسيس الدخول فى تلك التعقيدات المنهجية وتطبيقها قرآنيا للوصول الى استقراء عام تنتهى به مرحلة الانتقاء . يكون هذا مطلبا هاما فى المرحلة التالية .
7 ـ وهذا يطرح مسألتين فى غاية الأهمية :
7 / 1 : ضرورة التعاون بين المدرستين القرآنية والحيوى/ منطقية . مدرسة المنطق الحيوى ممكن ان تستفيد من مناهج القرآنيين فى توطيد دعائم المنهج الحيوى وبلوغه مرحلة التقعيد العام والخروج سريعا من مرحلة الريادة والانتقاء . وأهل القرآن محتاجون الى المنطق الحيوى ليعطيهم مستوى جديدا من الفهم القرآنى يؤكد إدعاءهم بأنهم مهما بلغت اكتشافاتهم القرآنية فلا يزالون على ساحل البحث فى محيط المعرفة القرآنية . ثم إن مناهج البحث هى أساسا من ابتداع علم المنطق ، ولذا فهو ثقافة ضرورية لأى باحث قرآنى جاد ، خصوصا ونحن فى عصر التكنولوجيا ، أو التطبيق العلمى للمعلومات النظرية ، والمنطق الحيوى بما فيه من فقه المصالح هو خير معين وأفضل ما يعبر عن مرحلة التنكولوجيا المعرفية هذه .
7 / 2 : الخوف من توقف مدرسة دمشق عند مرحلة الريادة ، دون تكوين جيل جديد يبنى عليها ويصل الى عمومية الاستقراء والتقعيد . يعزز هذا الخوف تسيد اللاوعى عند المسلمين ، وتسيد السطحية والخرافة الدينية والسلفية الوهابية الكارهة أساسا لعلم المنطق ،بل التى تكره الأشعرى (السنى ) لأنه استعمل بعض عقله ، وتكره أكثر المعتزلة الذين خرج عليهم أبو الحسن الأشعرى . هذه الأغلبية الديماجوجية الغوغائية من الحنابلة و وعاظ القبور هم المتحكمون فى الحياة العقلية والدينية للمسلمين ، يتسللون اليهم عبر الفضائيات و الاذاعات والاعلام والثقافة ومناهج التعليم و ميكروفونات المساجد ، وجلسات النوادى و المصاطب . فى هذا الجو الخانق يمكن كتم الشعاع النابض من مدرسة دمشق لو لم تتطور وتتلاحم مع المدارس العقلية التنويرية الأخرى ، وعلى رأسها أهل القرآن .
فى تاريخ المسلمين الفكرى لنا نموذجان :
نموذج النمو والتطور ، كما حدث فى علوم النحو والصرف واللغة والبلاغة . بدأ الأوائل ثم جاءت أجيال تطور بها العلم ونما وتقعدت قواعده .
نموذج الرواد فقط ، حيث جنح اللاحقون الى التوقف عند عمل الرواد دون إضافة فعلية ،بل مجرد الشرح و التلخيص والتلفيق ، حدث هذا مع الفقه والحديث ، فمن جاء بعد الرواد الأوائل كانوا مجرد تلامذة خاملين غير مبدعين ، لذا تحول أولئك الرواد الى (أئمة ) مقدسين وليس علماء مجتهدين .واستمر هذا حتى اليوم .
انتقلت هذه المحنة الى علوم غير دينية ، تقاعس فيها اللاحقون عن البناء على فكر الرواد فظل الرواد فى القمة يعانون الوحدة والبرودة ، فالخليل بن احمد اخترع علم العروض ، والخوارزمى اخترع علم الجبر وابن خلدون اخترع علم ( العمران ) أو الاجتماع ، والبقاعى اخترع علم المناسبة فى فهم السياق القرآنى . ولم يأت من علماء المسلمين من يبنى على إبداع أولئك الرواد .
لذا تكون ضرورة حتمية ذلك التلاحم بين المدرستين القرآنية والمنطق / حيوية ، أملا فى التطور والتعمق تحقيقا لمصلحة الاسلام والمسلمين .

اجمالي القراءات 18778