عودة الثقة المفقودة

كمال غبريال في الجمعة ٠٢ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

حلمنا مع رواية توفيق الحكيم عام 1933 بعودة الروح، ثم عدنا بعد هزيمة 1967 وافتضاح زيف مشروع النهضة الناصري، لنقرأ لتوفيق الحكيم في ذكرياته السياسية عام 1974 عن عودة الوعي.. الآن ونحن على مشارف العقد الثاني من الألفية الثالثة، مازالت "الأمة المصرية" بأمس الحاجة لعودة الروح إليها، لتنهض من حالة الانكسار والهزيمة المتغلغة في العقول والنفوس، وما ترتب عليها من إحساس مهيمن بهوان يجعلنا في حالة توجس دائم من كل ما ومن حولنا، ما لابد وأن يستدعي آلية دفاعية، تتمثل &Y; في العداء والرفض والاستعلاء على ذلك العالم الذي يعمق لدينا الشعور المرير بالدونية!!
نحتاج أيضاً إلى "عودة الوعي" بذاتنا كأمة، كانت يوماً ما ذات حاضر مجيد وحضارة، ثم فقدنا وعينا وهويتنا، على وقع ضربات دهر لم يرحمنا، ولم نكن أهلاً لمنازلته ورد صروفه، فبعد أن دخلت المسيحية مصر، لتزرع في المصريين العداء لماضيهم، فيسعون جهدهم لهدمه ومحوه كما لو كان وصمة عار، ويودعون جذور لغتهم بإهمال أبجديتها واستبدالها بالحروف اليونانية، ومعها كل تراثنا الفكري والحضاري، مشيعين إياها باللعنات والاحتقار، باعتبارها عصور وثنية جديرة بالتبروء منها، والتوبة النصوح عن الانتماء إليها.. بعدها أغار جراد الصحراء العربية على حقولنا، ليلتهم الأخضر واليابس، ويلتهم معه هويتنا، مستكملاً ما بدأ قبل ستة قرون من تدمير للروح المصرية الأصيلة، لينقطع ما بيننا وبين مصرنا أم الحضارة، ونتمسح في هوية مقفرة جرداء لا خير فيها ولا ماء.. هكذا بدأنا السير في طريق منحدر كأن بلا نهاية، فقدنا فيه مقومات ثروتنا الحضارية، وفقدنا معه وعينا بذاتنا.. من نحن، وماذا نريد.. فقدنا الوعي بالزمن، وبما يحدث حولنا من متغيرات، وجلسنا كما قال نزار قباني "نطقطق عظم أرجلنا"، ونجتر حكايا الزيف والأوهام، نستعيض بها عن واقع لا يكف عن التدهور يوماً فيوماً!!
لكننا الآن ومنذ نصف قرن على الأقل، بجانب انكسار الروح وغياب الوعي، قد افتقدنا "الثقة".. الثقة في أنفسنا وفي حكامنا ونظمنا.. افتقدنا الثقة في كل شيء وأي شيء، وانطرحنا على أعتاب المدعين الحديث باسم الإله، نركب معهم النوق ونشرب بولها، ونمسح جباهنا بزيوت تنضح من أيقونات مشنوقة على الجدران، أو نهتف لأطياف نورانية لا وجود لها إلا في مخيلاتنا المضروبة بالهلاوس، مجترين أناشيد عدمية، نهرب بها من بؤس حياتنا، إلى حياة أخرى قد نجد فيها إنصافاً ربما كنا لا نستحقه!!
ثقة الإنسان الفرد بذاته، وثقته بحكامه ونظام حكمه، أمران يبدوان وكأن لا علاقة لأحدهما بالآخر، رغم أنهما فرعان لجزع واحد.. فلكي تثق بالآخرين يلزمك بداية أن تثق بذاتك، لكي تنطلق من هذه القاعدة، ليتشكل بموجبها حكمك على الآخر.. بعدها يلزمك أن يكون هذا الآخر، الذي هو في حالتنا هذه الحاكم جديراً بالفعل بما هو منوط به من مهام، وجدير بثقة لابد منها ليستقيم خطوه في القيام بتلك المهام.
”الثقة" في الذات أو في الآخرين لا يمكن أن تتوفر ما لم يكن محل التقييم جديراً بها بالفعل.. فالرتوش والتجميل المتعسف، سواء لصورة الذات أو للآخر، لا يمكن بأي حال أن يبني علاقة تبادلية صحية، بل كلما أمعنا في التجمل والتجميل، كلما ازدات طبيعة العلاقة انهياراً.. هنا يبز سؤال: كيف ننمي ثقة الناس في أنفسهم؟.. هل يمكن أن ننجح في زرع ما نريد ببث أناشيد تعظيم الذات، على وزن نشيد أم كلثوم "وقف الخلق جميعاً ينظرون كيف أبني قواعد المجد وحدي"؟!!.. أم أن هذا المنهج بالتحديد هو الطريق نحو السقوط، حين نكتشف سريعاً وفي أقرب اختبار وهم ما نتصوره في أنفسنا، كما حدث بعد هزيمة 1967، واكتشفنا أن ما كنا نظنه أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط، قد تحولت إلى فلول هاربة حافية على رمال سيناء الملتهبة؟!!
نعم الثقة بالذات حالة نفسية، لكنها ليست حالة وهم أو توهم معلقة في الفراغ، فهي تحتاج للاستناد إلى مقومات مادية حقيقية، وإلا ستكون وبالاً على الإنسان، لأنها قد تدفع به إلى الهلاك، إذا ما خاض مغامرات غير محسوبة كما في الحالة الناصرية.. الارتفاع بمستوى معارف ومهارات الإنسان الفرد والارتقاء النوعي بها هو البداية التي لا مهرب منها.. فالملايين من خريجي المدارس والجامعات المصرية، والذين يحملون شهادات لا تعبر بأي حال عن كفاءتهم وجدارتهم، لن تفيد معهم أي تلقينات تحقنهم بإيمان مصطنع بالذات.. فليس لنا أن نتعجب مثلاً من خريجي كليات الطب، التي لم يكتسب الخريجون منها غير ورقة مسودة بسطور لا تعبر عن أي قدر حقيقي من الكفاءة العلمية والطبية، حين نراهم الأكثر سلفية وتخلفاً حضارياً، ونرى نقابتهم وقد أصبحت معقلاً وواجهة لقوى التطرف في المجتمع، بل وأصبحت ظهيراً داخل مصر، لمنظمات الإرهاب الإقليمية من فلسطين ولبنان حتى الشيشان.. فانعدام القدرات صنو للهروب إلى السلفية، والتسلح بالعداء والكراهية للحضارة وصناعها!!
كم من حامل لشهادة بكالوريوس أو دكتوراه وقف وسط الجموع حول أحد الكنائس المصرية حتى الفجر وهو يهتف: "بص شوف العدراء بتعمل إيه"، وكم من هؤلاء أيضاً هتف مع الهاتفين "بالروح بالدم نفديك يا سيدنا"، لمجرد أن سيدهم تحدى القضاء المصري، ليحكم الإغلاق على الأقباط في زنزانة الطائفية والمفهوم الديني المتخلف للدولة المصرية، التي تعد الآن ولاشك عاهة وسط الدول في عالم الألفية الثالثة!!
ستة عقود مرت على الشعب المصري، وحكامه يبيعون له الوهم، ويتفنون في خديعته، يساندهم وكلاء الله على الأرض.. فماذا يمكن أن تكون نتيجة ذلك، غير أن يعتقد الشعب تماماً في عكس ما يقولون؟.. فإن طلع عليهم مسئول يعلن خلو البلاد من الوباء الفلاني، فسوف يتطير المصريون من وباء يتفشى وتتكتم عليه الحكومة، وإذا قالوا "لا رفع للأسعار" سارع كل من لديه سيولة بشراء احتياجاته الأساسية، توقعاً لارتفاع وشيك لأسعارها!!.. ألم يسبق أن قال زعيم الأمة عبارة: "ارفع رأسك يا أخي المواطن"، فأكملها ابن البلد الساخر "لكي نقطعها"؟!!.. ربما أحدث مثال يفضح حالة فقدان الثقة في الحكام وفي الذات، تلك الحقيقة الضائعة الآن في حادثة قتيل الشرطة في حي سيدي جابر بالإسكندرية، فلا البيانات الرسمية الصادرة من الجهات السيادية جديرة بالثقة، ولا شهادات الشهود بعكس ما ورد في تلك البيانات أيضاً جدير بالثقة.. هل نذهب بعيداً إذا تذكرنا أن البديل الأوفر حظاً في الانتخابات الرئاسية الماضية، حكم عليه بالسجن لتزوير في الأوراق الرسمية لتأسيس حزبه؟!!.. فنحن جميعاً كما قال نزار قباني "منخورون كالنعال" و"نحن مثل قشرة البطيخ تافهون"، لهذا لا يحترم الحكام شعبهم، بذات قدر عدم احترام الشعب لحكامه!!
لو امتلك حكامنا كفاءة وجدارة حقيقية، تمكنهم من السير بالبلاد في طريق التقدم والرفاهية، ولو شعروا في أعماقهم بهذه المقدرة، لما لجأوا إلى الفساد يؤمنون به مستقبلهم إذا ما اكتشف الناس حقيقتهم، ولما لجأوا إلى الخديعة والكذب على الناس وبيع الأوهام لهم، ليبقوا أطول مدة ممكنة على كراسي السلطة والثروة.
نفس هذا يقال على رجال الأعمال، فرجل الأعمال الذي يثق في قدراته الإدارية، ويثق في مجتمعه ونظمه، لا يمكن أن يختار طريق الفساد والرشوة لتكوين ثروته، فلن ينهج هذا النهج إلا من يستشعر هزال قدراته، فلا يجد لتحقيق حلمه بالثروة غير التلاعب والفساد والإفساد.. كم سمعنا عن مستثمرين جاءوا إلينا، بأمل تأسيس مشاريع استثمارية، وبعدما أنفقوا ما أنفقوا على البنية الأساسية لمشاريعهم، جمعوا أوراقهم وما استطاعوا استرداده من أموالهم ورحلوا، بعدما رأوا أن الطريق المستقيم مسدود أمامهم، وأن المجتمع والجهاز البيروقراطي المصري لا يسمح بالمرور إلى عبر الفساد، فلا يكاد يتبقى لدينا من مستثمرين إلا نوعية مستثمري فسادنا.. فلا يوجد فساد أفراد إلا بذات قدر فساد مجتمعهم ومؤسساته، مع كل الاحترام بالطبع للعديد من رجال الأعمال المخلصين والشرفاء، والذين بفضلهم لم تسقط مصر بعد ولم تشهر إفلاسها!!
هكذا يقودنا تحليلنا لكافة مظاهر التردي في حياتنا إلى افتقاد "الثقة"، ويقودنا افتقاد "الثقة" إلى افتقاد "الجدارة" الشخصية التي تجعل الثقة أمراً ممكناً وحقيقياً، ويقودنا افتقاد "الجدارة" إلى نظام التعليم، الذي أنتج لنا على مدى نصف قرن خريجين لا يتقنون شيئاً، ولا يصلحون لشيء!!
فهل من سبيل لإصلاح لنظام التعليم، لنحوز جدارة تمكننا من معايشة العصر وامتلاك مقومات القوة فيه، ومن ثم نكتسب "ثقة" حقيقية في الذات، وفي حكام يكونون جديرين فعلاً بالثقة؟!!

اجمالي القراءات 9441