الدين والدولة والعقد الأجتماعي

عمرو اسماعيل في الجمعة ٠٨ - ديسمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً



بمناسبة التعديلات الدستورية وأزمة تصريحات وزير الثقافة وما ظهر فيها أن هناك وصاية علي وشك أن تفرض علي الدولة والشعب وحرية الرأي والتعبير في مصر .. أعيد صياغة مقال كتبته من قبل عن علاقة الدين بالسياسة وعن حاجتنا لعقد اجتماعي جديد ..
فمن الطبيعي وليس ضد العقل ولا الدين أن يكون للناس رغم تدينهم مواقف سياسية متعارضة، بل وأن يكون لنفس الشخص الواحد موقفين متعارضين بعد أن تظهر له ضرورة التغيير، هكذا كانت نظرة المسلمين إلى موقف عائشة رضي الله عنها أثناء أحداث الفتنة الكبري في صدر الاسلام .. فهي من نادت لقد كفر نعثلا .. اقتلوا نعثلا .. ثم انضمت الي الفريق المعارض لسيدنا علي ابن أبي طالب .. و الفرق المتصارعة في هذه الفتنة لم تكفر بعضها البعض .. واعتبر المؤرخون المسلمون أن تصارعهم هو موقف سياسي لا يقلل رغم تقاتلهم من قيمتهم الدينية و قيمتهم الروحية في نفوس المسلمين..هكذا نظر المسلمون الأوائل الي الصراعات السياسية في الفتنة الكبري ..
ولكن للأسف منذ حيلة رفع المصاحف علي أسنة الرماح طلبا للتحكيم وهروبا من الهزيمة العسكرية التي كانت وشيكة لمعسكر معاوية ابن أبي سفيان .. هذه الحيلة التي هي في الأصل حيلة سياسية ابتدعها داهية العرب السياسي عمرو بن العاص .. أخذ الأمر منحي آخر .. وزاد الخوارج الطين بلة و هم من القراء السابقين في الإسلام حيث اعتبرهم خصومهم خوارج عن الجماعة .. منذ هذه اللحظة بدأت فكرة التكفير نتيجة اختلاف المواقف السياسية تظهر ويزداد تأثيرها السيء في عالمنا..
لقد سقط الخوارج مع من أخرجهم من جماعة المسلمين في مشكلة النظر للسياسة من منظار الدين. فتحول الانتماء الحزبي إلى انتماء ديني، والخطأ السياسي إلى خلل في العقيدة والمعارضة إلى شق عصا الطاعة والتأييد إلى سنة وجماعة.
منذ هذه اللحظة بدأ الخلط بين ماهو سياسي وماهو ديني ولهذا تحول الخليفة إلى ظل لله في الأرض، وأضحت طاعته جزآ لا يتجزأ من الدين وعصيانه خروجا قد يقتضي الحد الشرعي بقتل من يفكر في ذلك .. كما تحولت أحزاب كثيرة إلى أحزاب إسلامية ترفع شعار الحل الإسلامي، وترفع شعار السيفين مع كلمة أعدوا في وجه خصومهم السياسيين رغم كونهم مسلمين أو مؤمنين حتي لو كانوا غير مسلمين .. لقد اعتبرت هذه الجماعات .. جماعات الاسلام السياسي وعلي راسها جماعة الإخوان المسلمين .. منافسيها من الأحزاب الأخري في عملية سياسية سلمية ,, وكأنهم أعداء الله .. كما تؤكد الآية التي أخذوا منها كلمة واحدة مع شعار السيفين " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخبل ترهبون به عدو الله وعدوكم " وهو منحي ينذر بعواقب وخيمة تؤدي الي انتشار العنف بأبشع صوره .. لقد نجحت جماعات الاسلام السياسي برفعها شعارات دينية في معارك سياسية بحته .. تصوير الأمر علي أنه صراع ديني .. من ليس معها .. أو من يصوت ضدها .. وكأنه خرج عن الدين وعن الملة .. هو عدو الله وعدو المسلمين .. كما يؤكد شعار الجماعة الرسمي .. تماما كما أدت حيلة رفع المصاحف علي أسنة الرماح ألي آثار مازلنا نعاني منها الي الآن .. وتماما كما أدي شعار الخوارج " وما الحكم إلا لله " الي سفك دماء المعارضين بدم بارد رغم إجماع المسلمين علي ورعهم وتقواهم وعلي رأس هؤلاء سيدنا علي ابن أبي طالب .. إمام المتقين ..فهل يجوز أن يدعي إنسان أو جماعة أو حزب أنه يتحدث باسم الله، وهل من المنطق أو العقل أو الدين أن نصف أفكارا انطلقت من الدين على أنها الدين نفسه أو من النص على أنها النص ذاته.
ولقد حدث نفس الشيء في الأديان الأخري في العصور الوسطي.. المشكلة أن العالم كله انتبه الي هذه المشكلة وتأثيرها الضار علي علي المجتمعات وتطورها،، بينما نحن كمجتمعات وليس أفراد لم ننتبه الي خطورة الأمر.. ألم تجند الكنيسة في تلك العصور آلافا مؤلفة من البسطاء وشحنتهم بعقائد القتل وسفك الدماء، فعانت منهم الإنسانية نفس معاناتنا من الإرهاب الآن ؟ ما الذي جعل الشاب المسيحي في العصور الصليبية يقطع القفار مغامرا بحياته؟ إنه المفهوم الخاطيء للدين والعقيدة التي إذا رسخت في قلب ميت وعقل فارغ دمرت صاحبها وما حوله.،، أنه نفس الأمر الذي يجعل شاب في مقتبل عمره يفجر نفسه في سيارة مفخخة فيقتل نفسه ومعه العشرات ممن قد لايكون لهم أي ذنب أو علاقه بالقضيه التي يعتقد هذا الشاب أنه يدافع عنها..
إن تسييس الدين وإفراغه من قيمه الروحية والإنسانية وتحويله إلى رصيد رمزي للدعاية السياسية أدي إلي تحول الفكر الإسلامي إلى مجرد شعارات جوفاء يغيب فيها العلم وينكمش الفكر الخلاق، و حتي الآن لم تستطع الحركات السياسية الإسلامية إبداع فكر أوسع مدى من فكر أجدادنا العظام، وإبداع فكر يضاهي في عقلانيته الفكر السياسي الغربي الحديث،
إننا للأسف لم نستفيد رغم كثرة الحديث عن السلف وضرورة اتباعهم من وضوح رؤيتهم في عدم الخلط بين ماهو سياسي وما هو ديني..
عنما تولي أبو بكر الصديق الخلافة .. فهم المسلمون الأوائل هذا الأمر علي حقيقته .. خلافة سياسية وليست دينية .. خلافة مدنية تستطيع استيعاب حقيقة أن لها معارضين .. لا تقلل معارضتهم لها .. من تدينهم وورعهم .. لم يبايع بعض خير صحابة الرسول وأهل بيته أبو بكر من أول وهلة .. ورغم ذلك لم يدعي أحد أنهم خرجوا من الدين أو الملة .. ومن الأنصار الذين كان لهم مكانة كبيرة عند رسول الله (ص) وفي قومهم من مات دون أن يبايع أبا بكر .. ورغم ذلك لم يتهمهم أحد في دينهم .. وذلك لأن المسلمين العقلاء في ذلك الوقت كانوا يفهمون أن الطابع المدني للنبي والطابع النبوي متوازيين و ليس مندمجين كما يتصور ذلك كثير من فقهاء الإسلام السياسي، وهو ما حدا بعقلاء الصحابة والصحابيات إلى التمييز بين البشري والنبوي في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم، و هناك أحداث كثيرة رواها لنا التاريخ تؤكد بأن تصرفات النبي السياسية كانت وليدة نظره واجتهاده ما عدا تلك التصرفات التي أمر بها بالوحي، فكان ذلك منه دليلا على مدنية التصرف السياسي وارتباطه بالاجتهاد البشري..
ولم يكن الصحابة الكرام بعد وفاة الرسول ينظرون إلى أبي بكر بوصفه رمزا دينيا بل كانوا يتعاملون معه بصفته ممثلا مدنيا للدولة الوليدة ... ولهذا حارب أبو بكر مانعي أعطائه الزكاة وليس منكريها مع أنهم يقولون أشهد أن لا إله إلا الله؟ وكان عصيانهم متمثلا في رفض إخراج الزكاة للخليفة؟ مع أننا الآن في العالم الأسلامي وافقناهم ولا نخرج الزكاة للحاكم بل نخرجها لمن يرتأي كل منا أنه يستحقها.. لقد كان قرار الحرب قرارا سياسيا شجاعا وليس له بالدين من حيث شرعية الحرب أي علاقة ..
و هكذا نظر المسلمون الآوائل إلى حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أرضاه.
وظهر هذا التصور المدني للحكومة الإسلامية بأوضح مايكون في عهد عثمان وبعده والذي خرجت عليه غالبية أهل الكوفة والبصرة ومصر ورأوا في سياسته تحيزا ما لأهله من بني أمية، كما أن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وبعض كبار الصحابة من أمثال طلحة والزبير ومعاوية خرجوا على علي ولم يغفروا له انضمام قتلة عثمان إلى جيشه، كما خرج عليه الخوارج لأنه –في نظرهم - لم يحكم بكتاب الله (لاحظ النبرة الدينية في تصور الخوارج للحكم والذي لا يختلف عن تصور كثير من أبناء الحركات الدينية المعاصرة الذين يرفعون شعار الحكم بما أنزل الله، أي أن الخوارج كانوا يمثلون التصور الديني للممارسة السياسية، في حين كان الخلفاء يمثلون الاتجاه المدني في الحكم..)
لقد آن الأوان لهذا الدين أن يكون رحمة للعالمين ومصدرا للهداية الروحية والنفسية بدل أن يكون إيديولوجيا سياسية ستضره أكبر ضرر من حيث نظن أننا نخدمه ونقويه. وآن للأحزاب الإسلامية أن تتحول إلى أحزاب مدنية تسعي الي تحقيق العدل والعدالة الاجتماعية من خلال برامج سياسية في عملية تنافس سياسي مدني .. مثلها في ذلك مثل أي تجمع سياسي بدل رفع شعارات تضر أكثر مما تنفع من قبيل الاسلام هو الحل وشعار السيفين وأعدوا .
لقد آن الأوان أن يكون هناك عقدا اجتماعيا بين كل الأحزاب والجماعات السياسية في اي دولة عربية وإسلامية وخاصة في مصر بين هذه الأحزاب و بين الشعب.. علي أنه لا يوجد حزب أو جماعة تملك الحقيقة المطلقة أو الحق الدائم في الحكم..
أن تكون هناك نصوصا واضحة في هذا العقد عبر دستور واضح تضمن عدم استيلاء أي فصيل سياسي على الحكم مدى الحياة وبعد الممات، أي أن تكون هناك ضمانات يوافق عليها الجميع ويعلن التزامه بها أمام الشعب.. وتحميها قوة القانون وقوة القوات المسلحة.. أن تداول السلطة هو دوري وسلمي من خلال السماح بوجود كل التيارات السياسية.. علمانية او يسارية او ليبرالية أو ذات مرجعية أسلامية علي الساحة.. وأن الشعب هو الذي يختار بينها بعد أن تكون جميع هذه التيارات قد أخذت فرصتها المتساوية إعلاميا في اقناع الشعب ببرنامجها.. وأن وصول أي فصيل منها الي الحكم لايعني أنه ألاصلح مطلقا بل يعني أعطاؤه الفرصة لتطبيق برنامجه والشعب هو الذي يحكم علي مدي نجاحه او فشله.. والشعب هو الذي يقرر استمراره او اعطاء الفرصة لحزب آخر..
أن الانسان ممثلا في الشعب هو الذي يقرر علي الارض وهو المسئول عنها امتثالا للأمر القرآني الواضح " أني جاعل في الارض خليفة " والله هو الذي يحاسب في الآخرة علي مدي تحملنا هذة المسئولية وليس العكس..
امتثالا لأوامر الله في حرية الاعتقاد والدعوة السلمية :
"ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون" (46 العنكبوت)
"وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ "
" فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ {21} لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ " {22} الغاشية
" وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا "{29} الكهف

هذه الآيات لا تترك أي مجال للشك بأن الاختيار هو الطريق الذي أراده الله لبني البشر وأن لهم حق الاختيار بين الإيمان و الكفر الى أن تقوم الساعة...و أن الله وحده هو الذي سيحكم بين عباده.
أن وافقت التيارات الاسلامية بوضوح وصراحة لا تحتمل اللبس علي مثل هذا العقد.. فأهلا بهم في ساحة التنافس السياسي الشريف.. الذي يحتمل الهجوم علي أفكارهم وبرنامجهم دون أن يعني ذلك اطلاقا هجوما علي الاسلام أو الدين..
نحن نحتاج عقدا اجتماعيا وسياسيا في مصر بين جميع القوي السياسية سواء الحزب الحاكم أو الإخوان أو أحزاب المعارضة نلتزم به وأن استطاعت كل القوي السياسية الفاعلة الوصول الي هذا العقد... فستكون هذه بداية الاصلاح الدستوري الحقيقي.. أما قبل ذلك فنحن ندور في حلقة مفرغة من الاتهامات والاتهامات المضادة..
نحن نحتاج عقدا اجتماعيا بين أتباع كل الأديان في مصر ... أن الدين لله والوطن الجميع .. لكم دينكم ولي دين .. أن الله هو الرحمن الرحيم وهو المحبة .. أن حرية العقيدة وإقامة شعائرها هو حق دستوري وإنساني لكل مواطن مصري .. مسلم أو مسيحي أو حتي من يعتبر نفسه بهائيا ..
"قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدي فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل"(يونس 108)
إن هذه الآية الكريمة تصلح أن تكون أساسا متينا لهذا العقد الإجتماعي بين مواطني مصر .. وكم جمال البنا محقا عندما يقول :
هذا هو ما يجب أن تؤمن به الكنيسة والأزهر والمسلمون والأقباط فلا تثور ثائرتهم أن يسلم مسيحي أو يتنصر مسلم ــ فإن هذا شأن يخص صاحبه وارتداد واحد، أو حتى عشرات، أو حتى مئات عن دينهم لن يؤثر علي دينهم، ولا علي المتدينين به لأن الدين قيم لا يزيد ولا ينقص ولا يتأثر بارتداد البعض عن الإيمان به، ولأن المسيحيين والمسلمين بالمليارات فلن يؤثر عليهم ردة المئات أو الألوف، ولأن الذين ارتدوا قد يعودون من تلقاء أنفسهم عندما يتقدم بهم العمر أو تتغير الظروف.
نحن فعلا نحتاج الي عقد اجتماعي جديد ممثلا في إصلاحات دستورية حقيقية تسوي بين المواطنين علي أساس أن الدين لله والوطن للجميع وتؤكد علي حق التنافس بين الأحزاب والتداول السلمي للسلطة علي أساس مدني سياسي وليس علي أساس ديني ..
لنفصل بين الدين والسياسة حفاظا للدين وقيمته الروحية في نفوسنا .. ومنعا للعنف السياسي الذي هو أمر محتوم عندما عندما لا نستطيع أن نفرق بين ماهو ديني وما هو سياسي كما حدث علي يد الخوارج في صدر الاسلام وكما يحدث الآن علي يد خوارج العصر الحديث القاعدة وأنصار بن لادن .. خيبهم الله جميعا ..
عمرو اسماعيل

اجمالي القراءات 9393