سيدنا فرعون !!

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ٠٥ - ديسمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً

استمعت الى صديقى الحزين وهو يقول:ـ
وصل المهندس الزراعى إلى قريتنا ليتولى الإشراف على الجمعية الزراعية فيها.. كان يرتدى قميصا رخيصا وبنطلونا متواضعا ، وكان سيادته أكثر تواضعا من مظهره .. كان مرتبه أقل من عشرين جنيها ولكنه كان يتحكم فى أصول مالية وعينية ومادية تصل الى مليون جنيه ويشاركه فى الإشراف عليها كاتب الجمعية وأعضاء الجمعية الزراعية المنتخبون، وهم من كبار القرية ورءوس العائلات فيها . وكان كاتب الجمعية من أبناء القرية الذين فاتهم قطار التعليم فعمل قبانيا يقوم بوزن المحاصيل والعمل لدى إدارة التسويق التعاونى ، ثم إستقر أخيرا فى العمل كاتبا فى الجمعية الزراعية بمرتب يصل الىعشرة جنيهات ولكن بإمكانيات للسرقة والنهب تزيد على مئات الجنيهات شهريا .. وكان سيادته لايتكاسل ولايتهاون فى رفع مستوى دخله الشهرى ، يعاونه فى ذلك إثنان من أعضاء الجمعية ، وهما لايتخلفان عن حضور السهرات الممتعة إياها فى  نظير سكوتهما عن سرقات السيد كاتب الجمعية، أما الأعضاء الثلاثة الآخرون فقد كانت لهم تسهيلات اخرى عينية يستفيدون منها فى دعم أرضهم بالتقاوى والبذور والمبيدات وسائر الخدمات الأخرى وتقريبا بدون مقابل ..
وكان هذا هو الحال حينما وصل السيد المهندس الزراعى مشرفا يتحلى بإبتسامته الودود وبهندامه المتواضع وجيوبه الخالية .. وفى الواقع فقد قوبل بإحتفال وتكريم يناسب مكانته ، وكان السيد كاتب الجمعية والسادة الأعضاء هم الذين رحبوا به ، وكل منهم يطمع فى ان يضع السيد المهندس فى جيبه.
ووجد السيد المهندس الزراعى كل التسهيلات متاحة أمامه؛ كان معه فى جيبه خمسة جنيهات إقترضها لينفق منها ويدبر حاله الى أن يأتى له أول مرتب من وظيفته الجديدة ، وكان العجيب أن تلك الجنيهات ظلت فى جيبه كما هى إلى أول الشهرالتالى، مع أنه وجد السكن الملائم والطعام الساخن والطازج ثلاث مرات يوميا، والسهرات الممتعة والرفاق الذين تسابقوا فى مسامرته .
كان السيد المهندس الزراعى قد تخرج فى إحدى كليات الزراعة لا يفهم كثيرا عن الزراعة إلا من خلال الكتب والمحاضرات النظرية ، ثم دخل الجيش وظل فيه سنوات إستطالت بعد النكسة، الى أن خرج من الجيش وقد نسى كل ماتعلمه فى الكلية ، ثم فوجىء بتعيينه فى قريتنا ، فترك مدينته ذات الأضواء وجاء لأول مرة يكتشف الريف المصرى ، فوجد فى انتظاره كاتب الجمعية ورفاقه فتعلم على أيديهم أصول الشغل ، وكان لهم تلميذا نجيبا . عرف من السيد كاتب الجمعية كيف يختلس المبيدات وكيف يخلطها بالماء وكيف يزور الحسابات وكيف تزداد مديونيات الفلاحين وكيف تتضاعف حقوق الجمعية الزراعية نحوهم ، ثم كيف يتم التعامل مع الحاج لطفى أكبر تجار المنطقة والوسيط الذى يقوم عن الفلاحين بالتوريد والذى يشترى منه الفلاحون كل ماينبغى أن يصل اليهم عن طريق الجمعية بالدعم ، ولكنهم يشترونه منه بالسعر المضاعف ، وحتى الإعتمادات المالية للمقاومة ووسائلها اليدوية والكيماوية تعلم كيفية الإختلاس فيها ، وكيفية تسوية الحسابات الرسمية لتكون ناصعة البياض لا يشوبها الشك ، وعليها توقيعات الفلاحين وبصماتهم وأختامهم .ومن أصدقائه الجدد أعضاء الجمعية عرف خبايا البلد والصراعات التى تحتدم بين عائلاتها ، وأستفاد بها ولعب عليها. ثم عرف ماهو أكثر، عرف أن فلانا له علاقة بفلانة ، وأن زوجة فلان سيئة السمعة ، وأن ... وأن ...ولم يمض عليه بضعة شهور حتى كان يدخل البيوت فى النهار ثم أتيح له بعدها أن يدخلها ليلا وأن يصل الى حيث لا يصل اليه إلا رب البيت . والحقيبة المتواضعة التى قدم أول مرة بها احتفظ فيها ببنطلونه وقميصه ووضعها فى دولاب فاخر فى حجرة النوم الخاصة به فى قصره الفاخر الذى إشتراه على قطعة من أراضيه فى أجمل موقع بالقرية .والكاتب الذى تعلم منه أصول المهنة إستقر فى زنزانة بائسة بأحد السجون بعد أن ثبتت عليه تهمةالإختلاس بعد بلاغ رسمى قدمه ضده المهندس الزراعى ..وحل محله موظف جديد قادم من بلد بعيد يحمل معه دبلوم تجارة وليس له من الأمر شىء. وأصبح المهندس هو فرعون القرية والحاكم بأمره فيها.
( 2 )
نشرت هذا المقال فى جريدة أحرار بتاريخ 16 / 3 /1992.
وهو يصور الواقع الذى عاش فيه الريف المصرى فى الستينيات والسبعينيات حين كانت الجمعيات الزراعية تستعبد الفلاح و تتحكم فى الأرض الزراعية. بالطبع كان الغرض منها نبيلا وهو حماية الفلاح من الاستغلال, ولكن تحول الهدف النبيل الى فساد واستغلال، لم يقع نتيجة لمؤامرة اجنبية ، وأنما قام بالفساد كبار القرية و صغار كبار الموظفين. هذا يطرح قضية هامة لعملية الاصلاح فى مصر. لقد جربت مصر النظام الاشتراكى الذى كان يلامس الشيوعية فى كثير من التفصيلات و التطبيقات ، ومنها الجمعيات الزراعية . وبينما أحرز هذا النظام نجاحا جزئيا فى أوربا الشرقية ولا يزال ناجحا فى الصين فانه فشل فى مصر. وجربت مصر التحول الى الرأسمالية اقتصاديا والانفتاح و سياسة السوق، ونجح هذا النظام فى أوربا الشرقية ، وأفلح جزئيا فى الصين وروسيا. ولكنه فشل تماما فى مصر وتحول الى نهب عام وفساد عام وغلاء وبطالة واحباط ويأس . ونتساءل :
1 ـ لماذا تنجح البلاد الأخرى فى الاشتراكية وفى الرأسمالية وتفشل فى مصر كل التجارب وكل النظريات ؟
الجواب فى عنوان هذا المقال( سيدنا فرعون). قصدت بهذا المقال سنة 1992 أن أقول أنه مع وجود الفرعون ـ أى الاستبداد ـ فلا يمكن النجاح لأن الاستبداد الفرعونى هو أساس الفساد. وظهر واضحا أن البيئة المصرية نفسها هى التى تقوم بانتاج الفرعون. هى التى تصنعه وهى التى تخضع له وتعبده. البيئة المصرية تتكون من أقلية فاسدة و أكثرية غائبة صامتة. الأقلية الفاسدة هى التى تلعب دور الحاشية ، وهى التى تصنع الفرعون ، تعلمه أصول الفساد ، وتدله على الخبايا والأسرار ، وتصنع له هالة حتى يصبح مثل ( عجل أبيس ) الذى يلتهم الأخضر واليابس وتقوم الحاشية بمشاركته فى التهام الأغلبية المقهورة السكتة الصامتة.فى عصرنا الراهن تتصارع أقليتان ؛ احداهما فى الحكم ، والأخرى تسعى اليه باسم الدين. والفارق بسيط بين أقلية تلبس (الكاب ) العسكرى وأخرى ترتدى العمامة. والذى يجمع بينهما هو الرغبة فى الثروة والسلطة والتحكم فى الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى الذى يعيش تحت الصفر.
2 ـ كيف النجاة؟
الجواب : أن تتغير الذهنية المصرية من الداخل, المرض فينا نحن، نحن الذين نصنع الفرعون بالتعمد كما تفعل الحاشية وبالسكوت و عدم المبالاة كما تفعل الأكثرية.
3 ـ كيف تتغير الذهنية المصرية وتتحول من السلبية و الخنوع الى الايجابية فى الخير والمطالبة بالحق والوقوف ضد الطغيان ؟
الجواب : بأن نؤمن أنه لا يوجد مخلوق فى هذا العالم يستطيع أن يتحكم فى الموت والحياة والرزق والمصائب والصحة والمرض والقضاء والقدر المقرر سلفا بيد الله تعالى. الله وحده هو الذى قد حدد سلفا موعد ومكان ميلاد كل انسان وموته، ومتى وأين وكيف يأتيه الرزق وتنزل عليه المصائب, ولا يوجد انسان حى يسعى إلا وهو خاضع لهذه الحتميات الأربعة ( ظروف الميلاد و الموت والرزق والمصائب) فاذا كان هذا مقرر سلفا ولا سبيل لتغييره ولا سبيل للفرار منه فلماذا أخاف من بشر مخلوق مثلى ؟ يجب أن أخاف فقط مّمن بيده الموت والحياة والرزق والمصائب، وهو الله جل وعلا.
ان الله جل وعلا لن يحاسبنا على تلك الحتميات. لن يسألنا لماذا ولدت يوم كذا ولماذا كان لونك كذا و ووجهك بهذه الملامح ولماذا كنت فقيرا او غنيا ولماذا وقعت ميتا فى هذا اليوم و لماذا صدمتك سيارة او وقعت لك هذه الحادثة؟؟
الله تعالى سيسأل الناس عما يختارونه بأنفسهم وهو الجانب الأعظم من سلوكيات الناس واعتقاداتهم. سيسألهم عن تقديس البشر والأضرحة والتماثيل والأيقونات وعبادة الطاغوت وعن الظلم والاستبداد وارتكاب الفواحش و الكبائر. وسيسأل الساكتين الراضين بالظلم لماذا سكتوا ولماذا لم يهاجروا اذا تعذر عليهم أن يقاوموا ؟ ( ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ؟)( النساء 97 ) سيسألنا ربنا جل وعلا عما نستطيع القيام به ونستطيع اجتنابه. وعند العجز وعدم التعمد فالغفران الالهى يشمل من يقع ضحية للاكراه والنسيان و عدم القدرة.
لو قام المصريون ـ والعرب والمسلمون وكل المستضعفين ـ بتغيير أنفسهم من الداخل لتغير حالهم . والقاعدة القرآنية تقول ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )( الرعد 11 )
لكن أفلحت الحاشية فى توجيه الاتهامات الى التآمر الأجنبى. وطالما لا نستطيع مواجهة التآمر الأجنبى فلا مناص من السكوت والانحناء. وتحت ( شماعة ) التآمر الأجنبى نام المصريون والعرب والمسلمون وتركوا الفراعنة والحاشية تأكل لحمهم الحى .
والقارىء لهذا المقال سيتفق مع كل ما جاء فيه ما عدا موضوع التآمر الأجنبى. وهذا دليل على نجاح غسيل المخ الذى قام به نظام العسكر و المستبدون ، وشاركهم فيه المتطلعون للحكم من أصحاب العمائم واللحى.
إن تحديد المشكلة هو أساس الحل. والمشكلة هى الاستبداد الداخلى . والحل هو تغيير ثقافة الاستعباد وحلول ثقافة الحرية وحقوق الانسان. هذا هو الاسلام العملى الحقيقى.

اجمالي القراءات 17928