وعظ السلاطين فى رؤية بحثية منهجية (6 )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٤ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

1 ـ موضوع ( وعظ السلاطين ) جديد وبكر فى مجال البحث ، ولم تيسره أبحاث سابقة للمتخصصين . وعدا هذا فهو يقف فوق المشكلة الهامة التى تواجه أى باحث فى التاريخ الاسلامى ، وهى فحص الروايات التاريخية وتمييز الكاذب منها والصادق .
فهناك روايات تاريخية حقيقية فى وعظ السلاطين تعبر عن أحداث وعظ حدثت فعلا ، حيث ووجه السلطان المستبد بكلمة حق . وهناك روايات مصنوعة تم ادخالها فيما بعد فى تاريخ الخلفاء ـ أى بأثر رجعى ـ وربما لم تكن موجودة تلك الروايات فى المصادر التاريخية الأولى للخلفاء والسلاطين ، ولكن تم وضعها بعد موتهم بقرون لتحمل وعظا مباشرا للسلطان القائم ومن سيأتى بعده ( لعل وعسى ) يتعظ .
التمييز بين الرواية الحقيقية والرواية المصنوعة هو مهمة الباحث التاريخى .

2 ـ ولأن البحث فى وعظ السلاطين يبدأ من تاريخ الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة فهو كالعادة يتعامل مع حقل ألغام ، لأنهم الذين خرجوا بالمسلمين من شريعة الاسلام بارتكابهم الفتوحات و الحروب الأهلية التى قسمت المسلمين و أقامت لهم الأديان الأرضية.
وتلك هى الأزمة الكبرى فى البحث التاريخى للمسلمين عموما ، وفى بحث (وعظ السلاطين ) على وجه الخصوص. إذ تبين أن كبار الصحابة والخلفاء الراشدين انفسهم حين أوقعوا المسلمين فى أكبر الكبائر : الفتوحات و الفتنة الكبرى ـ لم يتعظوا بالقرآن الكريم ،مع أنهم هم الذين كانوا يتصدرون الوعظ.

3 ـ ولقد حظر الدين السنى التعرض لتاريخ الصحابة فى الفتنة الكبرى ومنع نقدهم عبر أحاديث كاذبة نسبوها للنبى محمد عليه السلام تنهى صراحة كقولهم (الله الله فى أصحابى ، لا تأخذوهم غرضا بعدى ) .وفى نفس الوقت زيفوا أحاديث أخرى ترفعهم وتدعو الى تقديسهم جميعا مثل : ( أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) وأحاديث تقيم لجماعات منهم حفلات التكريم ، مثل (العشرة) المبشرون بالجنة ، و(الستة ) الذين توفى عنهم النبى وهو عنهم راض ، و(أصحاب بدر ) الذين قيل لهم (إعملوا ماشئتم ) فهم مغفور لهم . أوتعطى أفرادا منهم ألقابا ضخمة ، مثل ( الصديق ) و( الفاروق ) و ( ذو النورين ) ( باب مدينة العلم ) ( حوارى رسول الله ) ( أمين هذه الأمة ) ( حبر هذه الأمة ) و ( سيف الله المسلول ) وحذيفة ( الذى يعرف سرائر المنافقين ).الخ ..

وبالاضافة الى حظر نقد الصحابة الكبار ومنع بحث الفتنة الكبرى فقد ارتفعوا بالفتوحات الى قمة الاسلام ، ليس فقط بتجاهل عرضها على القرآن الكريم ، بل بصناعة أحاديث تسوغها و (تؤسلمها ) مثل حديث ألبخارى ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا ..).
ولم يلتفت أحد الى تناقض هذا الحديث الكاذب مع تشريعات القتال الدفاعى فى القرآن وتشريع عدم الاكراه فى الدين وحرية المعتقد ، أى يتناقض مع أكثر من ألف آية قرآنية فى تقديرنا .
بل وصل الكفر بالقرآن ببعضهم الى أن يجعل حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا..) (ناسخا ) أى مبطلا وملغيا لآيات القرآن الكريم التى تعارضه.
علاوة على تلاعبهم بآيات التشريع الاسلامى باسطورة النسخ التراثى ليؤكدوا على أن الاسلام انتشر بالسيف.
والحقيقة المرة أن الذى انتشر بالسيف ليس الاسلام الحق الذى لم تعرفه تلك الأمم المفتوحة ، ولكن الذى انتشر بالسيف والاحتلال هو الأديان الأرضية المشوهة التى نشرها أولئك الذين ناقضوا الاسلام بالغزو والاعتداء والظلم والسلب و النهب والاسترقاق والسبى .

4 ـ وبتوالى القرون والأجيال تحول كبار الصحابة من شخصيات تاريخية بشرية الى آلهة فى أديان المسلمين الأرضية ، فالخلفاء الراشدون مع كبار الصحابة أهم آلهة الدين السنى ، اما الشيعة فقد قسموا الصحابة الى آلهة وشياطين ، جعلوا عليا وذريته آلهة ، وفى المقابل جعلوا آلهة الشر خصوم (على ) السياسيين ، من أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير و عمرو ومعاوية وأبى هريرة ..الخ .وهو نفس الأسس الدينية لعقائد فارس القديمة (آلهة الخير والنور ، وآلهة الشر و الظلام ).
وبتوالى الأجيال تأكد فى ( جينات ) أتباع الدين السنى تقديس الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة، كما ترسخ فى (جينات) أتباع الدين الشيعى تقديس آل البيت بالمفهوم الشيعى.

5 ـ وتعين علينا أن ندفع الثمن .
فإذا ناقشنا تاريخ الخلفاء الراشدين من داخل التراث السنى ـ فقط ـ ومن خلال ما كتبه المؤمنون بالخلفاء والصحابة وبالاحتكام الى القرآن الكريم جاء الرد بالهجوم البذىء، ولاحقتنا اتهامات التكفير والدعوة للقتل . مع أن الأمر غاية فى البساطة لكل ذى عقل سليم ، فالفتوحات الحروب الأهلية تناقض الاسلام وفق تشريع القرآن،ولكنها (الجينات) التى تشربت الافك السنى والشيعى طيلة 14 قرنا ، وتعلمته وعاشت وماتت عليه .

6 ـ أكثر الردود علينا تهذيبا ـ ليس التكفير ـ ولكن التمنى .
التمنى بأن تكون كل هذه الأحداث التاريخية مزيفة ، أى يكون هناك ابوبكر وعمر وعثمان وعلى وعمرو ومعاوية والزبير وطلحة وعائشة..الخ ، ولكن بدون الفتنة الكبرى والفتوحات . (إذن ماذا سيتبقى من تاريخهم) ؟
لا يمكن لنا أن نفرض أمنياتنا على التاريخ . علينا أن نبحث التاريخ الموجود كما هو ، وكل ما نفعله أن نثبت بالبحث التاريخى ان هذه الرواية صحيحة أو كاذبة.
وحتى الرواية الكاذبة لا نتعامل معها بالانكار التام ، ولكن نعتبرها كاذبة من وجهة نظرنا ، أى قد تكون صحيحة من وجهة نظر أخرى لباحثين آخرين ، لهم أدلتهم وحججهم .
وحتى لو كان ثمة إجماع على أن تلك الرواية باطلة وليس هناك أى دليل على صحتها فليس لنا أن نتعامل معها بالبتر التام لأنها وإن كانت (كاذبة ) فيما تتضمنه من أخبار وأقوال عن تلك الشخصية التاريخية فإنها ( صادقة ) فى التعبير عن رؤية من سبكها وصنعها لتلك الشخصية التاريخية ، وهى ( صادقة ) فى التعبير عن ثقافة العصر الى صيغت فيه تلك ( الاكذوبة ).

وللبحث التاريخى مناهجه وضوابطه وقواعده ، مع أن الكتابة فى التاريخ أصبحت هواية لكثير من العاطلين ، وأدى تردى مستوى التعليم فى الجامعات وسهولة النشر على الانترنت لأتاحة الفرصة لكل من هبّ ودبّ أن يفتى ويهرف بما لا يعرف، بل وأن يتصدى بالهجوم على المتخصصين لمجرد أنه لا يعرف الجديد الذى يكتبونه ، فهو عدو لما يجهل وهو عدو طالما يجهل،وهو فى كل الوقت عدو للعلم ، حريص على جهله ، رضى بجهله ورضى عنه جهله.
أمثال هؤلاء لا توجد صلة رحم بينهم وبين مناهج البحث التاريخى وضوابطه وأصوله ، فهم لا يعرفون البحث التاريخى ولا يعرفهم البحث التاريخى .
وبينما يعترف الباحث التاريخى بأن بحثه مجرد وجهة نظر فإن أولئك الجهلة يعتقدون فى جهلهم أنه الحقيقة المطلقة التى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
والواقع بالنسبة للباحث التاريخى أن تظل استنتاجاته وتقييمه للروايات التاريخية فى دائرة الحقائق النسبية والظنية ، لأن روايات التاريخ كله ، تدخل ـ بفرض صحتها ـ فى دائرة الحقائق النسبية التى يترجح فيها الصدق ، ولكن يظل فيها احتمال الكذب .
ومن هنا فلا مجال لمعرفة الحق اليقينى و التاريخ الحقيقى للبشر إلا يوم القيامة عند نشر كتاب الأعمال الفردى لكل فرد وكتاب الأعمال الجماعى لكل مجتمع ومجموعة عاشت مع بعضها فى نفس المكان والزمان . وستكون تلك الكتب مرئية للجميع : ( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ ) ( الحاقة 18 )( يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) ( الزلزلة 16 : 18 )

7 ـ بالحقيقة النسبية يختلف التاريخ ـ كعلم بشرى ـ عن الدين .
الدين الحق يقوم على الحق المطلق الذى يجب وينبغى الايمان به والتسليم به، كما يشعر المؤمن ايمانا حقا بالقرآن الكريم .
الدين البشرى يقوم على الافتراء والكذب ، ولكنه يتسلل الى عقل المؤمن به يحجبه عن رؤية الحق والتمييز بينه وبين الباطل ،بل يجعله يقلب الحق باطلا والباطل حقا ، وبالتالى تكون أكاذيب الدين الأرضى حقا مطلقا فى قلوب أتباعه، وتتحول الحقائق المخالفة لتلك الأكاذيب باطلا مطلقا .
وفى الحالتين ففى المطلق الدينى لا مجال للتوسط ، فإما أن تؤمن به كله وإما أن تكفر به كله ، ليست هنا منطقة رمادية،أو حقائق نسبية ،أو صواب يحتمل الخطأ وخطأ يحتمل الصواب.

8 ـ ولأن الدين الأرضى يقوم على تقديس وتأليه الأشخاص ، وتحويلهم من شخصيات تاريخية بشرية الى آلهة وكائنات علوية فإن البحث التاريخى فى هذه الشخصيات التاريخية يعتبر تطاولا على الآلهة وعيبا فى ذواتهم المقدسة وتنزيلا لهم من مقام الالوهية الى حضيض البشرية.
ويتعرض للتكفير ذلك الباحث التاريخى الذى جرؤ على سب تلك الآلهة والعيب فى ذواتهم المقدسة ،أى اتهامه بالكفر بذلك الدين الأرضى والخروج على ملته ، فالمفترض فيه الايمان بتلك الالهة وسموها فوق سمات البشر ، وألاّ يقترب من تاريخهم إلا بالتحميد والتقديس ونفى كل نقيصة بشرية لأنهم ( كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ).

9 ـ فإذا كانت أدلة الباحث قوية ساطعة تأتى من داخل الدين البشرى نفسه ومن خلال أقوال أئمته أنفسهم ، ثم يعرضها على كتاب الله محتكما اليه ، ومعولا على التعقل والمنطق، هنا يأتى الهروب من الحق بالتمنى ، تمنى أن يكون كل ذلك افتراء وكذب حتى لا يشّوه الصورة المقدسة للكائنات العلوية .
وهذا التمنى علاوة على أنه أحلام يقظة مضحكة فإنه يعبر عن عقيدة ( المطلق ) فى الجينات المتأثرة بالدين الأرضى قرونا طويلة .
فالمطلق هنا هو الالغاء التام للتاريخ لأنه يشوه صورة الكائنات العليا .
فطبقا لقاعدة ( المطلق ) : إما وأما ، فعليك أن تختار بين واحد من إثنين :
• إما أن تكفر وتتعامل مع تلك الكائنات العلوية على أنها ليست كائنات علوية بل بشر سفليون مثلنا يخطئون ويصيبون، وقد أخطأوا خطأ شنيعا هم مسئولون عليه ، وبالتالى يتم تنزيلهم من سماء التقديس و التبجيل الى أرض التاريخ الذى يتعامل مع بشر .
• وإما أن تؤمن بهم وتلغى التاريخ لهم طالما فيه ما يمس قدسيتهم ، فتظل قدسيتهم مصانة.
وفى إلغاء التاريخ لا بد من إلغاء البحث التاريخى إلا أن يكون فى تكريس التقديس والتبجيل والرد على ( الملحدين ) الذين يتجرأون على مقام اصحاب القداسة.

10 :يزيد من محنة أتباع الدين الأرضى أن الحكم على تلك الآلهة البشرية يأتى أيضا بطريقة إما وإما ،أى إما أن يكونوا أئمة فى الكفر أو آلهة معصومة من الخطأ.
هتلر مثلا لم يتمسح بدين الله جل وعلا حين فتح البلدان واسترق الشعوب وسلبها ونهبها ، لذا يظل فى دائرة الاجرام العادى . أما أن تقتل شخصا بريئا وتسبى زوجته وابنته وتسترق أطفاله وتزعم أن هذا هو ما يأمرك به رب العزة فأنت فى حضيض المعصية وأكبر عدو لله جل وعلا . فكيف إذا قتلت ليس فردا واحدا بل ملايين ؟ وكيف إذا سبيت واستعبدت ملايين من الأطفال والنساء وقمت بتشريد ملايين الأسر المسكينة وقلت إن هذا هو الجهاد الاسلامى ؟ !..
المخرج للسنيين من هذه المحنة هى استعمال الخيار الآخر (إما :الأخرى ) أى باعتبارهم فوق النقد ، وآلهة لا تخطىء لتقطع الطريق على كل من يفكر ويستعمل عقله ويحتكم الى رب العزة فى القرآن الكريم .

11 ـ الذين يعبدون تلك الآلهة السنية لا يهتمون بحق الله جل وعلا ، ولا يهمهم رفع الظلم عن رب العزة ،ولا يأبهون بالتقديس الواجب له.
فما فعله الخلفاء الراشدون من الفتوحات (بالذات ) هو ظلم لرب العزة قبل أن يكون ظلما لملايين البشر فى آسيا وأفريقيا ، لأنهم نسبوا هذا الظلم لله جل وعلا برغم أن الله تعالى أعلن أنه لا يريد ظلما للعالمين وأنه جل وعلا لا يحب المعتدين. ثم إن ما فعله الخلفاء الراشدون كانوا فيه الأئمة لمن جاء بعدهم من الخلفاء غير الراشدين ، إذ تأسى بهم الأمويون وغير الأمويين فى الفتوحات وقتل المسلمين فى حروب أهلية تمسكا بالسلطة أو للوصول اليها .
ويتمنى الارهابيون فى عصرنا فعل نفس الشىء ، ولأنهم يعجزون فهم يلجأون الى القتل الجماعى العشوائى للمدنيين . والمثل الأعلى لهم هم الخلفاء الراشدون ..

12 ـ ومن هنا يأتى عملنا بالاصلاح السلمى للمسلمين بعرض تاريخهم وتراثهم على القرآن الكريم .وبهذا الاصلاح يتم تدمير التقديس لآلهة المسلمين حيث لا اله الا الله جل وعلا ،فله وحده التقديس والتمجيد والتعظيم . وبهذا الاصلاح تعود ىالشخصيات التاريخية الى حقيقتها شخصيات بشرية ضمن أحداث تاريخ بشرى . وبتكسير الأصنام العقلية والمعنوية لا تكون هناك حجة لتقديس حاكم مستبد يقتدى بالصحابة أو (يقتدى ويهتدى بالنجوم ) فى الظلم والاستبداد والتعدى والبغى.

13 ـ ما نكتبه فى نقد (الصحابة المقدسين ) ليس ترفا فكريا منقطع الصلة بالحاضر لأن الحاضر المؤلم البائس للمسلمين هو تكرار غبى لما بدأه الخلفاء الراشدون من خروج عن الاسلام عبر الفتوحات و الفتنة الكبرى .
والعراق الذى شهد معظم ملاحم الحروب الأهلية بين الصحابة والصراع بين السنة و الشيعة لا يزال ساحة لنفس الصراع السياسى والفكرى والعقيدى والحربى بين الشيعة و السنة. الاختلاف الوحيد هو أسماء القيادات ونوعية الأسلحة ، ولكنه نفس الغباء فى الاقتداء بالصحابة ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) .. وياله من هدى ..( ولا هدى سلطان ).!
ونعود الى روايات وعظ ( السلطان ).

14 ـ بدون الاستطراد فى قواعد واصول البحث التاريخى نقول فيما يخص موضوعنا :

*: تدوين التاريخ للسيرة النبوية والخلفاء الراشدين والصحابة بدأ بأثر رجعى تدوينا منظما فى العصر العباسى الأول فى البلاد التى فتحها الخلفاء الراشدون ، وأهمها العراق.
والى العراق وغيره هاجر الرواد الأوائل فى تدوين السيرة و التاريخ للخلفاء ، وأهمهم ابن اسحاق (ت 151 ) والواقدى ( ت 207 ). وقد نقل عنهم محمد بن سعد ( كاتب الواقدى ) موسوعته التاريخية ( الطبقات الكبرى ) فى ثمانية أجزاء.وتوفى ابن سعد عام 230 هجرية.

* : أخذ الرواد الأوائل معلوماتهم التاريخية من خلال الروايات الشفهية التى تناقلتها الأجيال التى عاشت فى المدينة ، حين كانت المدينة مركز صنع الاحداث فى القرن الأول الهجرى ، وقاموا بتسجيلها فى العراق وغيره من الأمصار . على أن هذا التدوين المنظم فى العصر العباسى قد سبقه تدوين متفرق لبعض الرواة . وبالتالى فإن القرن الأول الهجرى هوعصر الرواية الشفهية ، ثم تم تدوين أحداثه بدءا من القرن الثانى الهجرى بأثر رجعى بعد موت أبطال الأحداث.
وظل اللاحقون من المؤرخين ينقلون تاريخ النبوة و الخلفاء و الصحابة نقلا عن الرواد ، ثم يضيفون اليه الكثير مما لم يذكره أولئك الرواد .

* : وكلما تقارب العهد بين المؤرخ والحدث التاريخى الذى يسجله كان التأريخ أقرب للصدق. والعكس صحيح . وبالتالى فان الباحث فى تاريخ الصحابة و الدولة الأموية والذى تمت كتابته فى العصر العباسى لا بد له أن يقارن بين الروايات التاريخية التى كتبها الرواد أمثال محمد بن سعد فى الطبقات أو الطبرى فى تاريخه (عن ابى بكر وعمر مثلا ) بالروايات الأخرى عنهما فى المؤلفات التاريخية المتأخرة فى العصر العباسى الثانى و العصر المملوكى.
وسيجد الباحث كثرة من الروايات لم تكن موجودة من قبل ، وسيجد إضافات للروايات المذكورة من قبل ، وسيجد ميلا أكبر للتقديس والتمجيد تتحول به كتابة التأريخ الى كتابة ( مناقب ).

*: وطبعا هى ( أكاذيب ) من الناحية التاريخية لأنه تم صنعها فى عصور لاحقة ، ولكن تلك الروايات (الكاذبة ) (تاريخيا) هى أيضا ( صادقة ) (ثقافيا) لأنها تعبر بصدق عن رؤية كاتبها ورؤية عصره لأبى بكر وعمر ، فقد صنع لهما العصر صورة خيالية تعكس التقديس وعبادة الابطال ، وليس لها صلة بالحقائق التاريخية المذكورة من قبل عن أبى بكر وعمر.
وهناك تفصيلات أكثر فى بحث لنا منشور فى هذا الموقع عن (ابى بكر ) فى الفكر السنى.

* : ولا يقتصر الأمر على الخلفاء الراشدين بل يدخل فيه أئمة الفقه والمكتوب فى تاريخهم ثم فى مناقبهم . وفارق هائل بين هذا وذاك .
ونعطى مثلا ساطعا .
المؤرخ ابن سعد كان رفيقا وصديقا لأحمد بن حنبل ، وصمد معه ـ الى حين ـ فى محنة الاضطهاد فى ( خلق القرآن ). ومن واقع المعايشة قام ابن سعد بالتأريخ لصديقه ابن حنبل ، فبلغ كل ما كتبه عنه بضعة أسطر أوجز فيها تاريخه . يقول عنه فى ( الطبقات الكبرى ) : (وتوفي ببغداد في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين ، أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه ، ويكنى أبا عبد الله ، وهو ثقة ثبت صدوق كثير الحديث ، وقد كان امتحن وضرب بالسياط ، أمر بضربه أبو إسحاق أمير المؤمنين ، على أن يقول القرآن مخلوق فأبى أن يقول ، وقد كان حبس قبل ذلك فثبت على قوله ولم يجبهم إلى شيء ، ثم دعي إلى الخليفة المتوكل على الله ، ثم أعطي مالا فأبى أن يقبل ذلك المال ، وتوفي يوم الجمعة ارتفاع النهار ، ودفن بعد العصر ، وحضره خلق كثير من أهل بغداد وغيرهم ‏.‏).
بعد موت ابن حنبل تحول الى إمام وصاحب مذهب فقهى ،بل تحول الى اسطورة تحمل اسمه جماعات ( الحنابلة ) الذين سيطروا على الشارع العباسى بعد قرن من موت ابن حنبل ،ولأن الطبرى خالف ابن حنبل ولم يعترف بإمامته فقد تعرض لمحنة هائلة على أيدى الحنابلة فى اواخر عمره والى أن مات .
ثم جاء الفقيه الواعظ القصاص المؤرخ ابن الجوزى الحنبلى ( ت 597 ) فكتب مجلدا ضخما عن تاريخ (ابن حنبل ) يعكس فيها الصورة التى أصبح عليها (ابن حنبل ) فى معتقدات العصر العباسى الثانى فى القرن السادس الهجرى.
والفارق هائل بين السطور السابقة لابن سعد المعاصر لابن حنبل ، وذلك الكتاب السمين لابن الجوزى فى مناقب ابن حنبل و مآثره و الرؤى التى رؤيت فيه بعد موته. إن معظم ما نقله ابن الجوزى فى مناقب ابن حنبل مجرد (أكاذيب ) تاريخية ، ولكنها (صادقة ) فى تصوير اعتقاد ابن الجوزى وعصره فى (ابن حنبل ).

15ـ فى تطبيق هذا على موضوعنا ( وعظ السلاطين ) سنجد نوعين من الروايات ، أحدها يبدو صادقا لاتساقه مع العصر الذى يعيش فيه السلطان وطبيعة هذا السلطان ، ويبدو الآخر منتحلا وكاذبا لمناقضته للسياق التاريخى لعصر السلطان وشخصية السلطان ، ولأنه قد يبدو محملا بأوزار المبالغات والكرامات والخوارق ، مما يستحيل حدوثه . ولكن كانت ثقافة العصور الوسطى تؤمن بامكانية حدوثه .
وأسس البحث التاريخى هى التى تقرر ما هو الصحيح وما هو الزائف .
وما نقرره يبقى وجهات نظر ، أى هو صواب يحتمل الخطأ ، أو خطأ يحتمل الصواب .
والله تعالى هو الأعلم .

اجمالي القراءات 14151