عودة البرادعى وملء الرُبع الخالى

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٠ - فبراير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

فى المؤتمر السنوى الذى نظمه معهد بروكنجز (Brookings) فى العاصمة القطرية، لمنتدى أمريكا والعالم الإسلامى، أثير موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما يبدو أنه تراجع من إدارة الرئيس أوباما عن دعم الحُريات السياسية، والغزل مع الأنظمة العربية المُستبدة، لدرجة جعلت بعض المُشاركين العرب يتحسّرون على إدارة سلفه، جورج بوش.

ومن الذين تحدثوا فى منتدى هذا العام كل من وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلي&aumينتون، والسيناتور جون كيرى، رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، والطيب أردوغان رئيس الوزراء التركى، والشيخ حمد بن جاسر آل ثان، رئيس وزراء ووزير خارجية قطر.

وضمن ردّها على ما أبداه بعض المُشاركين حول التراجع الأمريكى فى قضيتى الديمقراطية وحقوق الإنسان، أكدت هيلارى كلينتون استمرار التزام بلادها فى القضيتين. ودلّلت على ذلك بتوقيع بروتوكول مع مصر، أثناء جولتها الراهنة، لاحترام «حُرية التعبير». وحاورها أحد المُشاركين بأن بُلداناً مثل مصر تحكمها أنظمة استبدادية، كثيراً ما تسارع إلى توقيع مثل هذه المواثيق الحقوقية، ولكنها دائماً تكون أول من ينتهكها، ولذلك فليس المهم هو «حق حُرية التعبير»، ولكن الأهم هو «الحُرية بعد التعبير».

وردّت هيلارى كلينتون، بأن هناك توازناً دقيقاً لا بد من مُراعاته مع الأنظمة الصديقة مثل مصر وماليزيا لتعدد الملفات العالقة بين الولايات المتحدة وبينهما.

وخلال المُناقشات التالية وفى الكواليس، لاحظ عديدون أن مقولة عدم التواؤم بين الإسلام والديمقراطية، والتى شاعت لعدة عقود، قد دحضها المسلمون عملياً خلال الثلاثين سنة الأخيرة. فثلاثة أرباع المسلمين فى العالم (١.٤ مليار نسمة) يعيشون فى ظل حكومات منتخبة ديمقراطياً.

وهى جميعاً محكومة بأنظمة ديمقراطية، حيث تجرى فيها انتخابات دورية، يتم فى أعقابها تداول السُلطة سلمياً، وهكذا نكون بصدد ثلاثة أرباع مسلمى العالم.

ولحسن الحظ، كانت هذه البُلدان ذات الأغلبية المسلمة، مُمثلة فى منتدى أمريكا والعالم الإسلامى خير تمثيل إما برؤساء جمهوريات، أو رؤساء وزراء، أو زعماء أحزاب مُعارضة. وتحدث بعضهم بإسهاب، مثلما فعل رئيس الوزراء التركى الطيب أردوغان، ونائب رئيس ماليزيا الأسبق د. أنور إبراهيم.

واتضح من هذه المُداخلات الآسيوية المسلمة، أن أغلبية المسلمين فى عالم اليوم ليسوا فى الوطن العربى، رغم أن الإسلام قد ولد فى قلبه، وهو الجزيرة العربية. وصحيح أن الإسلام قد انتشر منها فى كل الاتجاهات خلال القرون العشرة التالية، إلا أنه مع القرن العشرين كان مسلمو جنوب شرق أسيا الأعظم تكاثراً. ثم فى العقود الثلاثة الأخيرة أصبحوا الأكثر ديمقراطية. وهم مع السنغال ومالى وماليزيا ونيجيريا يكوّنون الثلاثة أرباع. ويظل السؤال ماذا عن الرُبع الرابع الخالى من الديمقراطية؟

إن تعبير الرُبع الخالى (Empty Quarter) هو أصلاً مُصطلح جغرافى، يُشير إلى الركن الجنوبى الشرقى من الجزيرة العربية، ويقع حالياً ضمن أراضى المملكة العربية السعودية. وقد أطلق عليه الجغرافيون هذا الاسم لأن هذه المساحة كانت جرداء، لا ماء فيها، ولا زرع ولا ضرع، ولا سُكان. وظلت هكذا منذ بداية الخليقة إلى منتصف القرن العشرين. فكانت اسماً على مُسمّى. وفقط فى الخمسين سنة الأخيرة، مع اكتشاف النفط فيها، وامتداد الطُرق، بدأ يقصدها الناس للعمل ثم للإقامة فيها. أى أنها لم تعد خالية. وأصبح تعبير الرُبع الخالى بالنسبة للجزيرة العربية اسماً على غير مُسمّى.

ولكن أثناء مؤتمر أمريكا والعالم الإسلامى منذ أيام، بُعث تعبير «الرُبع الخالى» من جديد. وفى هذه المرة للإشارة، لا على مساحة جغرافية، ولكن للإشارة إلى رُبع المسلمين المحرومين من الديمقراطية. فأين يعيش هؤلاء؟ ولماذا تخلوا حياتهم من الديمقراطية؟.

إن مُعظم هؤلاء يعيشون فى البُلدان العربية. أى أن الوطن العربى هو الآن الرُبع المُسلم الخالى من الديمقراطية، باستثناء جُزر صغيرة، توجد فيها ديمقراطيات وليدة مثل الكويت، ولبنان، والبحرين، وموريتانيا، وفلسطين.

وهناك مُحيط واسع من الاستبداد، يُحيط بهذه الجزر الصغيرة المُضيئة، ويمكن أن يجرفها، ويمكن العكس. أى أن تتلامس هفذه الجزر الديمقراطية، وتصبح هى نفسها «كتلة حرجة» (Critical Mass)، يتحول بها الوطن العربى كله إلى الديمقراطية.

وإذا كان الوطن العربى هو الرُبع المسلم الخالى من الديمقراطية، فإن مصر فى داخله تمثل ربعاً آخر خالياً من الديمقراطية. فمصر بالفعل هى رُبع سُكان الوطن العربى (٨٠ من ٣٢٠ مليوناً). وطبقاً لمقاييس «بيت الحُرية» (Freedom House)، فإن هناك بُلداناً عربية تسبق مصر فى التحول الديمقراطى وهى الكويت، ولبنان، والبحرين، وموريتانيا، والمغرب، وفلسطين، والأردن.

فهل كانت مصر دائماً رُبعاً آخر خالياً من الديمقراطية فى العالمين العربى والإسلامى؟.

والإجابة هى «لا».. بل إن مصر كانت هى الأسبق فى التحول الديمقراطى، عربياً وإسلامياً، وأفريقياً. فقد بدأت فيها ديمقراطية «مُحتشمة» خلال عهد الخديو إسماعيل، فى ستينيات القرن الثامن عشر مع ولادة أول برلمان مُنتخب (١٨٦٦)... وانقطعت التجربة إلى حين فى ظل الاستعمار البريطانى (١٨٨٢-١٩٢٣)، ثم استؤنفت بعد الحرب العالمية الأولى وظلت قائمة إلى أن وقعت ثورة يوليو ١٩٥٢.

ونحن ندرك الآن أن تلك العقود الثلاثة (١٩٢٣-١٩٥٢) كانت العصر الديمقراطى الليبرالى الحقيقى، غير المسبوق، وغير الملحوق.

ومن هنا يمثل دخول د. محمد البرادعى، إلى مُعترك المُنافسة السياسية على رئاسة الجمهورية إيذاناً بعودة «السياسة» إلى المجتمع المصرى، بعد غيبة ستين عاماً.

إن مثل هذه المُنافسة هى التى تخلق عراكاً سياسياً حقيقياً يبدأ بحركة شعبية لإعادة تصحيح الدستور.

وحسناً فعل د. البرادعى، حينما صرّح بأنه سيسعى مع جموع الشعب المصرى من أجل تعديل الدستور أولاً، ثم دخول المعركة الرئاسية ثانياً. فحتى إذا لم ينجح إلا فى المسعى الأول، فإن ذلك سيكون إنجازاً تاريخياً بامتياز، وستذكره له الأجيال فى المستقبل.

إن المسؤولية الأدبية والسياسية التى تقع على كاهل الدكتور البرادعى هى مسؤولية ثقيلة بلا شك. ولكنها فى نفس الوقت ستكون اختباراً لصلابة الرجل وشجاعته. ومُثابرته فى قيادة الحركة الشعبية التى بشّر هو بها، ليتبوأ مسيرة تغيير مصر إلى مجتمع ديمقراطى، يقوم بريادة العرب والمسلمين فى القرن الحادى والعشرين.

اللهم فاسمع آمين

اجمالي القراءات 8831