أزمة الإنسان الشرقي

كمال غبريال في الإثنين ٢٨ - ديسمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

ترجع المواجهة الشاملة الجارية الآن بين شعوب الشرق والعالم الغربي والسائرين على منواله، إلى ما هو أبعد من منظومات الأفكار والأديان والعقائد، وأعمق من خلافات مادية، على قضية هنا أو هناك. . هو خلاف في منظور رؤية الإنسان وموقفه من الكون وحقائقه.
الموقف الأولي للإنسان البدائي من الوجود كان محكوماً بالخوف. . خوف من الحيوانات الضارية ومظاهر الطبيعة، وحين اكتسب بعضاً من الخبرات المحدودة في التعامل مع محيطه الحيوي. . كانت تلك الخبرات بمثابة تأقلم وتوافق مع &Cceالكون، ومصالحة تنتقص من الخوف، ومن العداء الذي تولد عنه. . ولكي يعظم الإنسان من هذه المصالحة، لجأ إلى حيلة أخرى، تمثلت في تجاوز هذا الواقع، عن طريق الميتافيزيقا، بتخيل كائنات غير مرئية، يستمد منها العون، على تطويع ما يعجز عن تطويعه.

بدأ الإنسان بعبادة ما كان يخشى من مظاهر كونية، فعبد قوى الطبيعة والحيوانات، وكلمة "عبادة" مشتقة في اللغة العربية من الاستعباد، بمعنى إقرار الإنسان بعبوديته، أي خضوعه لتلك القوى، وهي علاقة دافعها الخوف والعداء، وتهدف لاتقاء شر ما يعبد، ومنها صارت كلمة "تقوى" مرادفة لكلمة "إيمان" في استخداماتنا حتى الآن.
بالإضافة إلى العنف الذي يترتب على موقف الخوف والعداء مع العالم، هناك نتائج أقل حدة. . كأن  يكون موقف الإنسان من العالم سلبياً، فيقتصر همُّه على تأمين نفسه من المخاوف التي تسكنه، وذلك بتأمين متطلباته الشخصية. . ورغم أن هذا المبدأ وحده كفيل بدفع مسيرة البشرية للأمام، إلا أن الفرق شاسع بين سلوك الإنسان المعادي للعالم، وبين سلوك المحب والمتصالح معه. . فالأول سيحاول الأخذ من العالم، ولا يضع في اعتباره ما يترتب على أسلوبه من أضرار للآخرين أو البيئة مثلاً، في حين أن المتصالح مع العالم، سوف يسلك في سعيه الطرق التي تؤدي لتعمير العالم، لذا نجد المجتمعات التي يسودها توجه العداء للكون، يكون رجال السلطة والأعمال والصفوة فيها من الانتهازيين والطفيليين، يدمرون الحياة وهم ينتزعون منها ما يريدون، ولا تكون الجماهير أفضل حالاً، فقط قدرة الفرد العادي على التدمير أقل، لكن بالنظر إلى المجموع، يكون حجم التدمير الناتج عن ممارسات القاعدة أكبر.

في حين أن المجتمعات التي يسودها توجه المصالحة تزدهر، خلال سعى الأفراد لتحقيق مصالحهم الخاصة، وهي بالتحديد المجتمعات التي تعتمد الانطلاق بداية من الفرد الحر وليس المجموع، والحادث أن الفرد المحب للكون، تتضمن منظومة قيمه واهتماماته قيمة تحسين وتعمير الكون، كجزء عضوي من قيمة تحقيق صالحه الخاص، فيكون سلوكه لتحقيق مصالحه مرتبط ومشروط بصالح عموم محيطه الحيوي.
من الممارسات التي تنطلق من عداء وجودي أيضاً، الاتجاهات النسكية التي تضطهد الجسد الإنساني وتضعفه، تحت زعم تقوية الروح، وما قد يصاحب تلك الممارسات من أفكار تطهرية، تحط من شأن الجسد واحتياجاته الفسيولوجية والبيولوجية، باعتبارها احتياجات دنيئة، يستحسن التعالي عليها، للانطلاق إلى عالم الروح، فهنا العداء للكون يأخذ صورة محاولة التطهر منه، فهذه النزعات تخاصم العالم والجسد، بزعم الالتحاق بعالم علوي متطهر من الجسدانية والمادية، والأمر أشبه بفيل يعادي طبيعته وتكوينه، أملاً في أن يتحول إلى عصفور، لتكون النتيجة أنه لن يصبح هذا ولا ذاك.

كانت مغامرات الإنسان الميتافيزيقية الأولى إذن مقاربات عدائية للكون المادي والبيولوجي، الذي يسعى للتغلب عليه عبر التجاوز، عبر عدائه للقوى التي يفرط في إعلان خضوعه لها، اتقاء لشرها واستجلاباً لنفعها، فاستعان الإنسان بآلهته لتدمير أعدائه من البشر والحيوانات، كما كان يُرضي عدائية تلك الآلهة نحوه (التي هي انعكاس لعدائيته نحوها، ولنلاحظ أن التصورات البدائية عن الآلهة تصورها بصورة رهيبة) بتقديم ترضيات من ذبائح بشرية، تحولت مع الوقت إلى بديل حيواني، ثم صارت الترضية بمجرد أداء مجموعة من الطقوس، مهمتها إرضاء الآلهة، بغض النظر عن معناها أو مناسبتها لواقع الحال.
بامتداد مسيرة الحضارة كان العقل ينمو، وتزداد معه قدرة الإنسان على التحكم في مقدرات حياته، فيتضاءل الخوف، ويتضاءل معه النهج العدائي للكون، وتمتد المصالحة إلى الرؤى الميتافيزيقية، ليدخل فيها المنحى العقلاني التصالحي، الذي وصل ذروته في مبادئ السيد المسيح، وهي التي تبنتها الشعوب الغربية، التي لم يكن مصادفة أنها الشعوب التي فعّلت ملكاتها العقلية، فهذا مرتبط عضوياً بذاك.

لكن معدل نمو الوعي العقلي وبالتالي العقلانية لم يكن متساوياً بين جميع الشعوب، بذات قدر عدم تساويه بين أفراد المجموعة أو الشعب الواحد، ما ترتب عليه اختلافات بين موقف الشعوب والأفراد من الكون، ودرجة توظيفهم للعقل في فهمه، كذا في مقاربتهم للميتافيزيقيا أو الأيديولوجيا، لينتج عن ذلك انقسام البشر إلى معسكرين رئيسيين:
• معسكر العداء مع  الكون، الذي يوظف الدين والأيديولوجيا توظيفاً عدائياً.
• ومعسكر المصالحة المعتمد على العقل، والذي يقارب الدين والأيديولوجيا مقاربة تصالحية.
ليس الأمر هنا أمر توعية دينية أو تنويرية، لاكتساب المعسكر العدائي إلى معسكر المصالحة، فرغم أن مثل تلك المحاولات تساهم في إيقاظ وتنمية القدرات العقلية، إلا أن الأساس هو في إجمالي موقف ورؤية الإنسان إلى العالم، إن كانت رؤية عدائية أو تصالحية، فالخلاف غير مرتهن باعتماد تفسيرات معينة للنصوص، سواء كانت أيديولوجية أو دينية.
ليس من المتصور بالطبع أن نجد في الواقع العملي من يعادي أو يصالح الكون بصورة مطلقة، إذ يتوزع الناس على العديد من النقاط بين النقيضين، ونلاحظ مثلاً أن آلهة مصر القديمة كانت أغلبها مسالمة ومتصالحة مع البشر، بقدر ما تمكن المصريون من التصالح مع محيطهم الحيوي، ما مكنهم من تأسيس حضارتهم، ما يختلف عن العدائية التي تغلب على علاقة آلهة البداوة بالمؤمنين بها، ففي الصحارى المقفرة كان البدو وآلهتهم قساة، يعتمدون الغزو والإغارة كموقف من الكون، وليس فقط كموقف من جيرانهم. . لكننا لا نستطيع أن نثق تماماً في قاعدة.

لا نقول بأن تنمية العقل والاعتماد عليه يؤدي حتماً إلى موقف تصالحي، لكن العكس صحيح، فالموقف التصالحي من العالم لا يتأتى إلا بتنمية مقدرة الإنسان على التعامل مع حقائق الوجود، وهو ما لا يتحقق إلا بإعمال العقل وتنمية قدراته، بمعنى أن العقل شرط ضروري ولكنه غير كاف لضمان توجه المصالحة، فقد كان العقل وراء الأيديولوجيات الشيوعية والنازية والفاشية، كذا فكرة القومية العربية.
كما عرفت البشرية عداوات الحروب الدينية ومحاكم التفتيش في أوروبا والحروب الصليبية، وتعاني الآن من الإرهاب والقتل باسم الدين، لنخلص من هذا بأن حملات التوعية والتنوير ليست كافية للقضاء على شيوع المواقف العدائية، كذا الرخاء الاقتصادي المتحقق بعوامل خارج إنتاج الإنسان الفرد. . قد يكون ما سبق عوامل مساعدة على تحقيق المصالحة، لكن البوابة الأساسية لينتقل الإنسان من موقف الخوف والعداء للوجود، إلى موقف التوافق والمصالحة، هو تنمية قدراته الذاتية عبر تدريب ملكاته العقلية ومهاراته العملية، ليشعر بجدارته وقوته الذاتية في مواجهة الوجود ومظاهره . . عندها لن يحاول تجاوز العالم بالغرق في الغيبيات، ليحقق عن طريقها ما يعجز عن تحقيقه، أو بتفجير نفسه أو عزلها، للانتقال إلى عالم آخر، ينعدم فيه الخوف الذي يسكن جوانحه، ويجد فيه كل ما يتوق إليه، ولا سبيل لتحقيقه في العالم المادي.

أزمة الإنسان الشرقي إذن ليست مجرد التخلف الاقتصادي، ولا مجرد الاشتباك في عداء وكراهية متبادلة مع أمم قوية، لكنها بالأساس هي أزمة ضعفه، الذي يولد عنده الخوف ومن ثم العداء للكون، وكل ما عدا ذلك، هي نتائج ثانوية مترتبة عليها.

اجمالي القراءات 10281