دراسات في القرآن الكريم
القرآن آية الله الخالدة

جمال أبو ريا في الجمعة ٢٥ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

قالت: لقد وعدتني سابقاً أن تثبت لي أن القرآن الكريم هو كتاب أنزله ربكم وأنه هو كلامه لفظا ومعني، ولكن قبل كل هذا أود أن أسألك سؤالاً مهماً ألا وهو:

 
إنني أسمع من الدينيين كثيراً أن صدق القرآن ينبع من إعجازه، فهناك ما يسمونه بالإعجاز العلمي والمنظومات العددية والإعجاز البياني والتشريعي... الخ.... فإذا سلمنا جدلاً ووافقناهم (كملحدين علي ذلك)، ألا يبقي سؤال منطقي جدير بالطرح يثبت عدم منطقيتهم فيما يقولون عن &aUacute;ن هذا الكتاب.... إن ما يقولونه يا عزيزي لا يعدو أن يكون افتراء علي ربهم الذي يدعون أنهم مؤمنين به.....!!..
 
قلت: أرجو أن توضحي لي ماذا تقصدين بالضبط وما هو السؤال المنطقي الذي يدور بخلدكم كملحدين بهذا الصدد....!!...
 
قالت: إذا كان المسلمون يدعون أن صدق القرآن الكريم ينبع من إعجازه كما قلت سابقاً متمثلاً ذلك فيما تحمله آياته من شتي الإعجازات.... إذن فما بال القرون السابقة التي عاصرت القرآن الكريم والتي كانت لا تعرف أي أسرار علمية أو عددية وما إلي ذلك... ، فإذا كانت هذه الآيات التي يدعيها المسلمون والتي تحمل تلك الإعجازات في العصر الحديث هي الدليل علي صدق القرآن الكريم، إذن فما دليل صدق القرآن عند هؤلاء الغابرين الذين كانوا لا يملكون تلك الوسائل..؟؟... هل القرآن نزل لأقوام دون أقوام آخرين....؟؟.. هل هذا منطق..؟؟. ثم لماذا لم يكن القرآن الكريم من تأليف محمد بن عبد الله أو ورقة بن نوفل أو بحيرة الراهب...؟؟..!!
 
قلت: بادئ ذي بدء أحب أن أصحح لك معلومة مهمة جداً ألا وهي أن ما تسمينه إعجازاً أنت ومعظم المسلمين فهو ليس كذلك، فأنتم مخطئون جميعاً في التسمية، إذ أن كلمة (((إعجاز))) هذه لم ترد في القرآن الكريم ولو لمرة واحدة، أما البديل الصحيح لها فهو (آية)، إذ أن هناك آيات ذات إشارات علمية (وليست إعجازات علمية)، وهناك آيات تحمل منظومات عددية (وليست إعجازات عددية)....وهكذا...
 
ثم أرجو ألا تنسي أن دليل صدق القرآن الكريم يتمثل في أربعة أشياء وهي: (آياته التي تحمل تلك الإشارات وغيرها- أسلوب الآيات التي تم صياغة القرآن بها- دقة حفظه علي مر السنين- بُعده تماماً عن الذات المحمدية وآل البيت الكرام والصحابة)، لذا فإن دليل صدق القرآن الكريم موجود في كل عصر من العصور وبالتالي فهو حجة عليهم منذ نزوله وحتي قيام الساعة.... وسوف أوضح لك تلك النقاط التي غابت عنكم كملحدين مجيباً عن سؤالكم المنطقي حقاً والذي يحتاج إلي إجابة شافية ولكن بعض المسلمين قد تغافلوا عن ذلك تماماً..!.
 
والآن سوف أجيبك فيما يتعلق بشأن الأولين منذ بداية نزول القرآن الكريم وحتي بداية عصر العلم حيث لم تكن قد ظهرت آيات ذات إشارات علمية أو منظومات عددية... الخ، فانتبهي معي:
 
القرآن ليس من تأليف محمد أو ورقة بن نوفل أو بحيرة الراهب:
وذلك لأن القرآن بشكله وعباراته وحروفه وما يحتوي عليه من علوم ومعارف وأسرار وجمال بلاغي ودقة لغوية هو مما لا يدخل في قدرة بشر أن يؤلفه... فإذا أضفنا إلي ذلك أن النبي الكريم محمداً صلي الله عليه وسلم كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم في مدرسة ولم يختلط بحضارة ولم يبرح شبه الجزيرة العربية فإن احتمال الشك واحتمال إلقاء هذا السؤال يغدو مستحيلاً.. والله يتحدي المنكرين أمثالكم كملحدين ومشركين ممن زعموا أن القرآن مؤلف: (...قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (يونس 38)، أي استعينوا بالجن والملائكة وعباقرة الإنس وأتوا بصورة من مثله وما زال التحدي قائماً ولم يأتي أحد بشئ (وسوف نوضح إن شاء الله تلك النقطة بالتفصيل فيما بعد) وإذا نظرنا إلي القرآن بحياد وموضوعية فسوف نستبعد تماماً أن يكون النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم هو مؤلفه.
 
إذ لو كان عليه الصلاة والسلام هو مؤلفه لبث فيه همومه وأشجانه ونحن نراه في عام واحد يفقد زوجته خديجة وعمه أبا طالب ولا سند له في الحياة غيرهما.. ومن ثم فكانت فجيعته فيهما لا تقدر.. ومع ذلك لا يأتي لهما ذكر في القرآن ولا حتي بكلمة واحدة، وكذلك يموت ابنه إبراهيم ويبكيه ولا يأتي لذلك خبر في القرآن الكريم... ، إذن فالقرآن الكريم معزول تماماً عن الذات المحمدية.... ثم لماذا نذهب بعيداً... إذ أن لفظ (محمد) قد كان أقل ذكراً من ناحية العدد من بقية أولي العزم من الرسل وهم موسي ونوح وإبراهيم وعيسي.... (ونلاحظ أن لفظ موسي قد كان أكثر ذكراً من أي نبي آخر في القرآن الكريم، فقد ذكره الله تعالي فوق المائة مرة)....!!.. فكيف يكون النبي الكريم سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم هو مؤلف القرآن الكريم...؟؟..!!..
 
بل إن هناك آيات قد تأتي مناقضة لما يفعله سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم وما يفكر فيه... وأحياناً تنزل الآية معاتبة له كما حدث بصدد الأعمي الذي انصرف عنه النبي إلي أشراف قريش: (عَبَسَ وَتَوَلَّى*أَن جَاءهُ الْأَعْمَى*وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى*أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى) (عبس 1- 4).
 
وأحياناً تنزل الآية تنقض عملاً من أعمال النبي: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ*لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (الأنفال 67- 68).
 
وأحياناً يأمر القرآن سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم بأن يقول لأتباعه ما لا يمكن أن يقوله لو أنه كان يؤلف الكلام تأليفاً: (قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ...) (الأحقاف 9).
 
وبالطبع فلا يوجد نبي يتطوع من تلقاء نفسه ليقول لأتباعه لا أدري ما يفعل بي ولا بكم... لا أملك لكم بل ولنفسي ضراً ولا نفعاً، إذ أن هذا يؤدي أن ينفض عنه أتباعه، وهذا ما حدث، فقد اتخذ اليهود هذه الآية عذراً ليقولوا: (ما نفع هذا النبي الذي لا يدري ماذا يفعل به ولا بنا.. هذا الرجل لا جدوي فيه...!!..)
 
وبالطبع فإنه من المنطقي جداً أن يمدح نفسه ويذكر اسمه ويقول أنه سيد ولد آدم صراحة في القرآن لو كن هو مؤلفه، ألا توافقيني في تلك النقطة.....؟؟...!!...
 
نأتي إلي نقطة مهمة جداً بهذا الصدد، ألا وهي أن النبي محمد كان يحب زوجاته وابنته فاطمة حباً شديداً، ومع ذلك فلا نجد في القرآن ذكراً لأسماء هؤلاء النساء الفضليات، بل ولم نجد في القرآن كله اسماً لأي امرأة سواء كانت من آل البيت الكرام أو من الأمم الغابرة اللهم إلا السيدة مريم رضي الله تعالي عنها وهذا بالطبع لحكمة بالغة وهي أن الله تعالي قد جعلها وابنها (سيدنا عيسي عليه السلام) آية للعالمين.....
 
لو كان القرآن الكريم من تأليف النبي الكريم محمد صلي الله عليه وسلم أو ورقة أو بحيرة لذكر جميع الأنبياء الذين ذكرتهم التوراة التي بين أيدينا الآن... ولكن هذا لم يحدث، فقد ذكر القرآن الكريم أسماء خمس وعشرين نبياً، ثم أخبرنا بعد ذلك أن هناك رسلاً قد قصصهم علينا ورسلاً أخر لم يقصصهم علينا.. وهذا إن دل علي شئ فإنما يدل أول ما يدل علي أن قصص هؤلاء الأنبياء والتي ذكرها القرآن الكريم لكفيلة لهداية كل من يبتغي الهدي دون إطالة أو إسهاب لا يفي بالغرض.....
 
لو كان القرآن الكريم من تأليف سيدنا محمد أو ورقة بن نوفل أو بحيرة لما قال بكل ثقة (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر 9)، ثم تمر الأيام والشهور والأعوام تترا فإذا بالناس جميعاً يشهدون في كل عصر ومصر تطابق جميع نسخ القرآن الكريم بنفس الرسم والتشكيل والتلاوة فتصدق الآية تمام الصدق لتكون حجة علي المكذبين ولتقطع ألسنة المكابرين المعاندين الذين يحاولون أن يشككوا في مصداقية القرآن الكريم ليرتد كيدهم إلي نحورهم فينقلبوا خائبين أو: (غُلِبَتِ الرُّومُ*فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ*فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ*بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (الروم 2- 5) أو: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ....) (الفتح 16).... الخ فتتحقق نبوءتهم (أي محمد وورقة وبحيرة) في كل آية من الآيات السابقة وكأنهم يعلمون الغيب.....!!...
 
ثم إن هذا الكتاب العظيم قد صنع هذا الرجل العظيم ولا يجوز أن نعكس الوضع فنقول (أن هذا الرجل العظيم هو الذي صنع هذا الكتاب العظيم)، فحينما نقرأ في التاريخ نجد الأساطين في الكثير من التخصصات ولكنهم لا يجمعون بين أكثر من تخصص إلا في القليل النادر (حينما نجد أن أحدهما يجمع بين تخصصين مثلاً) أما أن يكون هذا المتخصص أبرع من دوركايم (في علم الاجتماع)، وكارل ماركس (في علم الاقتصاد)،  وهتلر (في علم السياسة والحرب التكتيكية)، وسيبويه (في علم النحو)، وغيرهم في آن واحد علي الرغم من أميته وعدم معرفته بالقراءة والكتابة قبل نزول الوحي عليه وقد بلغ من الكبر عمراً لا بأس به...هذا بالطبع أمر مستحيل الحدوث إلا في حالة واحدة وهي أن يكون هذا الرجل نبي مؤيد بوحي من عند الله تعالي، وبداهة لم يكن من الممكن أن يصنع النبي القرآن الكريم ثم يكون أبرع من هؤلاء الأساطين الذين ذكرتهم سابقاً.... بل من دواعي العقل أن يسلم المرء بأن هذا الكتاب قد صنع هذا الرجل العظيم...!!..
 
إن النبي محمد صلي الله عليه وسلم نبياً بجميع المقاييس ولا يمكن أن يكون غير ذلك إطلاقاً، وقد شهد بذلك منصفوا المستشرقين الغربيون منهم والشرقيون سواء من أسلم منهم أو من لم يُسّلِم علي حد سواء....
 
كما أنه من المعلوم بداهة أيضاً أن القرآن لو كان من تأليف ورقة أو بحيرة لذكرا اسميهما صراحة في القرآن أو علي الأقل لأشادا بنفسيهما وبأمجادهما من باب الفخر كما كان يحدث مع شعراء الجاهلية مثلاً كالفرزدق وغيره.....!!...
 
وأخيراً فإذا كان القرآن الكريم ليس من تأليف محمد بن عبد الله أو ورقة بن نوفل أو بحيرة الراهب، إذن فمن باب أولي ألا يكون من تأليف أي شخص آخر، وعليه فهو ليس بقول بشر إطلاقاً....!!..
 
قالت: إن هناك بلغاء علي مر التاريخ قد جاءوا بما هو أروع بلاغة من القرآن وهذا بشهادة بعض المسلمين أنفسهم، وسوف أعطيك مثالاً علي ذلك، فشعر امرؤ القيس به الكثير من البلاغة التي كاد يجمع علماء اللغة العربية علي أنها أعظم وأروع من بلاغة القرآن
 
قلت: هذا غير صحيح إطلاقاً، فالقرآن الكريم ذو أسلوب متفرد تماماً وغير مسبوق في عباراته وآياته، وبالطبع فلم يستطع امرؤ القيس أو غيره أن يأتي ولو بحديث مثل القرآن ولن يستطيع... وقد نبه الله تعالي علي ذلك في هذا الكتاب العظيم فقال: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور 34)..... أجل، إن امرؤ القيس من أبلغ الشعراء الذين عرفهم العرب إن لم يكن أبلغهم علي الإطلاق، ولكن بلاغة القرآن الكريم من نوع آخر مختلف تماماً عن أي بلاغة أخري، وبالتالي فمن المؤكد أن امرؤ القيس سوف يفشل تماماً في مباراته للقرآن بلاغياً مهما أوتي من فصاحة أو حتي حاول أن يقلد الأسلوب الذي تفردت به آياته العظيمة، هذا علي الرغم من أن الرجل لم يحاول مباراة القرآن ولكنه مجرد فرض، وخطأ المسلمين الذين زعموا ذلك هو أنهم قارنوا بلاغة القرآن الكريم ببلاغة الشعر والنثر العاديين ولم ينتبهوا إلي كونها بلاغة من نوع فريد تماماً لا يمكن مضاهئته من قريب أو بعيد..... فلو نظرنا مثلاً في العبارة القرآنية لوجدنا أنها جديدة منفردة في رصفها وغنائها ومعمارها، ليس لها شبيه فيما سبق من أدب العرب ولا شبيه فيما أتي لاحقاً بعد ذلك... حتي لتكاد اللغة تنقسم إلي شعر ونثر وقرآن... فنحن أمام كلام هو نسيج وحده لا هو بالنثر ولا بالشعر... فموسيقي الشعر تأتي من الوزن ومن التقفية، فنسمع الشاعر بن الأرص الأسدي ينشد:
 
أقــــفــــــر من أهلـــه عبيد...... فليــس يبـــدي ولا يعــــيد
 
فهنا تخرج الموسيقي من التشطير ومن التقفية علي الدال الممدودة فهي موسيقي خارجية.... أما موسيقي القرآن الكريم فهو موسيقي داخلية... (والضحي*وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحي 1- 2)، فنلاحظ أنه لا تشطير ولا تقفية في العبارة السابقة، ولكن الموسيقي تقطر منها..من أين..؟؟....إنها الموسيقي الداخلية، ثم أرجو أن تنتبهي إلي تلك الآيات: (إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ*تَنزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ) (القمر 19- 20)، ونلاحظ هنا أن الآيات قد تناولت تهديداً، وبالتالي فقد وجدنا أن بناء العبارة ونحتها قد تحول إلي جلاميد صخر وأصبح للإيقاع آلة نحاسية تصخ السمع، فكل كلمة من الكلمات (صرصراً- منقعر) كأنها جلمود صخر.
 
ولا أريد أن أطيل بشأن هذا المقام، فهناك الكثير من الكتب المتخصصة البالغ عدد صفحاتها بالمئات والتي تتكلم عن الأسلوب الفريد للقرآن الكريم الذي لم ولن يأتي أي بشر بمثله...
 
هذا ما يتعلق بإجابة سؤالك السابق، أليس هذا الكلام من المعقولية التي تؤدي بدورها إلي الإقناع التام...؟؟.. أريد أن أسمع رأيك بصراحة حتي أعرف مدي جدوي مناقشتي معك، فإن لم تقتنعي فأخبريني حتي أكف فوراً عن المناقشة ولكل منا في النهاية قناعته الشخصية التي لا يستطيع أن يفرضها علي أحد.
 
قالت: لا أستطيع أن أنكر معقولية هذا الكلام ولكن مازالت هناك أشياء تختلج في صدري وسوف أشعر بضيق شديد إن لم أجد لها إجابة شافية... علي العموم فأنا قد استرحت كثيراً لما أدليت به.. وإليك المزيد من الأسئلة إن لم تكن قد مللت مني....
 
قلت: بكل سرور يا عزيزتي فتفضلي واسألي ما شئت...
 
قالت: لقد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك وبكل ما تملك من أدلة منطقية أن الأولين الذين لم يعاصروا التقدم العلمي والذين لم يشهدوا تطابق آيات القرآن مع أحدث ما وصل إليه العلم يمكنهم أن يؤمنوا بالقرآن من خلال أدلة أخري مختلفة تماماً عما تسمونه بالإشارات العلمية والمنظومات العددية وما إلي ذلك، وبذلك يكون (أي القرآن الكريم) حجة علي جميع الناس في جميع العصور... أما سؤالي الآن فهو متعلق بمدي تطابق الآيات وموافقتها مع أحدث النظريات العلمية والمنظومات العددية التي يدعي المسلمون أنه قد تم اكتشافها مؤخراً في عصر الكمبيوتر، فهل هذه كلها حقائق أم أنها لا تعدو أن تكون مبالغات أو ربما أكاذيب يريد المسلمون بها نصرة دينهم الذي وجدوا عليه آباءهم وخصوصاً وأنني قد قرأت لبعض المسلمين أنفسهم أن الإشارات العلمية في القرآن هي مجرد أسطورة افتعلها بعض العلماء المسلمين ليضربوا بها عصفورين بحجر، أما العصفور الأول فهو نصرة دين آبائهم، وأما العصفور الثاني فهو التربح من الدين بأي شكل أو وسيلة غير عابئين بالأمانة العلمية مبررين ذلك بأنه (كذب لهذا الدين لا عليه)..!!..وبهذا فإنهم يستغلون سذاجة الدهماء من المسلمين ليأكلوا أموالهم بالباطل...!!.... فأرجو أن أعرف ما هي الحقيقة بالضبط وما مدي صدق هذا الكلام من كذبه..؟؟.!
 
قلت: بالطبع فإنك سوف تجدين في كل ميدان مبالغات وأكاذيب وشطحات وما إلي ذلك، ولكن هذا لن يغير شيئاً من حقيقة الموضوع الذي يتم الكذب أو المبالغة من أجله، فهؤلاء الكذابين لا يمثلون إلا أنفسهم فقط وتدني ثقافتهم التي نشأوا فيها... أجل، إن هناك إشارات علمية ومنظومات عددية بالقرآن الكريم، وقد أضحي ذلك حقيقة لا خيالاً، ولكن الموضوع له ضوابط يجب أن يتبعها الباحث حتي يتم في ضوئها تقنين الكلام عنه بموضوعية دون حياد عن الحق، فلا كذب عليه أو حتي له.... لقد قال الله تعالي في كتابه الكريم: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ....) (فصلت 53)، وقال أيضاً: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (النمل 93)، وأيضاً: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) (الأنبياء 37).... فكل هذه هي وعود الله تعالي للناس بأنه سيريهم آياته في الآفاق والأنفس وذلك في كل زمان ومكان إلي قيام الساعة، كما قال من لا أعبد إلا هو: (لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأنعام 67)، فسوف يأتينا مستقر هذا النبأ إن عاجلاً أم آجلاً، لذا فكل ما علينا ألا نخوض فيما ليس لنا به علم وأن نؤمن بالله تعالي حق الإيمان به دون شك أو خوض أو إسفاف....!!..
 
ولن أتكلم في الآيات التي تحمل الإشارات العلمية أو المنظومات العددية، فهناك مئات بل آلاف الكتب التي تتكلم عن ذلك سواء كانت تتبع الضوابط اللازمة لذلك أم التي تبالغ وتشطح عن جادة الصواب، ولكنني سوف أكتفي هنا بالإشارة إلي بعض الآيات علي سبيل المثال لا الحصر، فمثلاً إذا نظرنا إلي الآية الكريمة: (وأرسلنا الرياح لواقح) (الحجر 22) فإننا نجد أنهم كانوا يفسرونها علي المعني المجازي بمعني أن الرياح تثير السحب فتسقط أمطاراً فتلقح الأرض بمعني (تخصبها)، ثم عرفنا اليوم أن الرياح تسوق السحب (إيجابية التكهرب) وتلقي بها في أحضان السحب (سالبة التكهرب) فيحدث البرق والرعد والمطر.... أما إذا نظرنا مثلاً إلي الآية: (فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء.....) (الأنعام 125) فإن العلماء لم يكتشفوا هذا التشبيه العلمي البليغ إلا حينما صعدوا إلي الفضاء وعرفوا أن كمية الأكسجين تقل كلما ارتفع الإنسان عن سطح الأرض، الأمر الذي يسبب ضيقاً في التنفس تختلف شدته باختلاف مقدار هذا الصعود... فسبحان الله العظيم....
 
أما من حيث المنظومات العددية فسوف أكتفي بتوجيه الباحثين في هذا الموضوع إلي قراءة بعض الكتب التي تتكلم عن الرقمين (19، 7)، وقد أشار القرآن الكريم إلي الرقم الأول (19) وأشاد به في قوله: (عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ*وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ* كَلَّا وَالْقَمَرِ* وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ* وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ* إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ* نَذِيرًا لِّلْبَشَرِ* لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) (المدثر 30- 37).
 
ومن هنا يتضح بالطبع أن تلك الآيات من سورة المدثر تشيد بهذا الرقم وعدته التي أخبرنا عنها بأنها إحدي الكبر ونذيراً للبشر لمن شاء منهم أن يتقدم أو يتأخر، مما يدل علي أن لهذا الرقم شأن عظيم يوماً ما وقد ظهرت إرهاصاته كمنظومات عددية يجب دراستها كظواهر فقط دون البحث عن السبب أو الكيفية.....
 
وإن شاء الله تعالي سوف أشرح تلك الضوابط وهذا المنهج الذي ينبغي اتباعه حتي يكون الكلام عن هذا الموضوع بما يرضي الله تعالي دون غلو أو مغالاة....
 
قالت: وماذا عن الآيات غير المفهومة في القرآن حتي الآن مثل الحروف المقطعة في أوائل السور وبعض الآيات الأخري التي لا يمكن تفسيرها لأنها تدخل في نطاق الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالي مثل: (....وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء...) (هود 7).. فكيف أنزل ربكم هذه الآيات عسيرة الفهم في كتاب ميسر للذكر...؟؟.. ألم يقل الله تعالي أن هناك آيات بينات وآيات مبينات ولم يذكر أن هناك آيات غامضات (مثلاً) في القرآن الكريم لأنه قال عنه أنه ميسر للذكر وتفصيل لكل شئ....؟؟... الا تري معي أن هناك ثمة تناقض ظاهر في ذلك.... برجاء الإيضاح من فضلك..
 
قلت: ليس هناك ثمة تعارض أو تناقض كما تتصورين، إنه مجرد التباس في الفهم لا أكثر، أما إذا نظرت إلي الموضوع بحيادية وموضوعية لوجدت أن ذلك لا يجافي المنطق، بل هو المنطق بعينه..!!.... فهل نحن قد أحطنا بهذا الكون الرحيب علماً ومعرفة..؟؟.. أليس الذي خلق هذا الكون هو الذي أنزل إلينا القرآن الكريم... إذن فلا غرو أن تكون هناك آيات لها حكمة بالغة خافية عنا حتي الآن لا نعلمها أو تكون هناك آيات لن نعرف ما هي الحكمة منها ولا تأويلها إلي يوم القيامة.....!!..
 
إن الحروف المقطعة التي وضعها الله تعالي في تضاعيف كتابه العزيز قد يكون وضعها لحكم نعلم بعضها والآخر لا نعلمه، فهناك من خاض في الكلام عن تلك الحروف بما لا يعدو اجتهادا شخصيا من الباحث ككونها حروف عربية من جنس ما عرفتم من اللغة ولكن لا تستطيعوا أن تأتوا بكلام مثل كلام القرآن المكون من تلك الأحرف وهكذا.... ومنهم من قد غالي في الحديث عنها .... كما أن من الباحثين من ارتد عن الإسلام بحجة أن الله تعالي لم يكن لينزل كتاباً غير مفهوم المعني متناسين ومتجاهلين حكمته وحجته البالغة علي عباده.....!!..
 
إن كل ما علينا كمسلمين مؤمنين بالقرآن الكريم ألا نجادل فيه، صحيح أن هناك محاولات ينبغي للمسلم أن يجريها ليستزيد نوراً وتفقهاً في كتاب الله تعالي ولكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال ألا يتجاوز حدوده ويقحم نفسه فيما ليس له فيه وأن يتأدب مع الله تعالي ولا ينسي أن الله تعالي هو الذي منّ عليه بنعمة البحث والتفقه في كتابه فيجب أن يستغلها أحسن استغلال.....
 
ويكفي المسلم أن يؤمن بالحروف المقطعة واضعاً في اعتباره أمرين في منتهي الأهمية:
 
أما الأمر الأول: هوأن الله تعالي قد وضع تلك الحروف ليفتن بها الناس حتي يميز الخبيث من الطيب فيعلم من المؤمن بها (فلا يعلق إيمانه علي فهمها) من المجادل فيها الذي يجهل إيمانه مشروطاً بفهمها وإلا فلا.....!!..
 
وأما الأمر الثاني: هو أن الله تعالي قد أنزل القرآن الكريم لجميع الناس في كل زمان سواء كان سابقيهم أو لاحقيهم وفي كل مكان، فربما يكتشف من بعدنا أسرار تلك الحروف مصداقاً لقوله تعالي: (خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)(الأنبياء 37)
 
إن من سنن الله تعالي إظهار بعض آياته في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، وقد يحجبها عن الغافلين المكابرين انتقاماً منهم، لذا فعلي المسلم ألا يتعجل الأمور ويصبر لحكم ربه ويملأ قلبه باليقين حتي يفوز برضوان الله تعالي وسعادة الدارين.
 
قالت: إذن فما سر التحدي الذي جاء في القرآن الكريم بشأن عدم استطاعة الإنس والجن بالإتيان بمثل هذا القرآن، ثم بعد ذلك بالإتيان بعشر سور فقط، ثم بعد ذلك بالإتيان بسورة واحدة، ثم بالإتيان بمجرد حديث مثل القرآن.... ما هي العظمة الموجودة في القرآن دون غيره من الكتب والتي تجعل الإتيان بكل ذلك خارج استطاعة الإنس والجن ولو تظاهرا أو تضافرا معاً لكي يأتوا بما أوضح ربكم في الآيات المختلفة في القرآن.... لقد وعدتني قبل ذلك في هذا الفصل أنك سوف تبين هذا لاحقاً، لذا فأرجو تنفيذ ما وعدتني به.
 
قلت: وأنا عند وعدي بما قلت، وسوف أوضح ذلك إن شاء الله تعالي في الفصل القادم فأرجو أن تتابعيه معي إن أردت ذلك.
اجمالي القراءات 14221