استعمركم
استعمركم فيها

زهير قوطرش في الثلاثاء ٣٠ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً




استعمركم فيها.

قال الله تعالى :

"وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ" هود –61


آية كريمة ,صحيح أنها خاطبت قوم صالح وثمود لكنها في نزولها الأخير على نبي الرحمة (ص) أصبحت خطاباً إلى البشرية جمعاء ,لو تدبرنا في معانيها ,وخاصة قوله عز وجل "واستعمر&;كم فيها"لوجدنا أن فلسفة الاستعمار (الاعمار)بالنسبة لبني أدم ترتبط ارتباطاً وثيقاً كون الإنسان خليفة الله على الأرض. الخالق جعل الإنسان خليفة ,ومن ثم استعمره فيها لكي يعمرها, أي جعلنا عمّارها .وحتى نتدبر في معاني هذه الآية لابد لنا من العودة الى كتب التفسير للوقوف على ما توصل إليه السلف.

يقول الطبري رحمة الله عليه.


وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا يَقُول : وَجَعَلَكُمْ عُمَّارًا فِيهَا , فَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ : أَسْكَنَكُمْ فِيهَا أَيَّام حَيَاتكُمْ , مِنْ قَوْلهمْ : أَعْمَرَ فُلَان فُلَانًا دَاره , وَهِيَ لَهُ عُمْرَى . وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْل التَّأْوِيل . ذِكْر مَنْ قَالَ ذَلِكَ : 14111 - حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عَمْرو , قَالَ : ثَنَا أَبُو عَاصِم , قَالَ : ثَنَا عِيسَى , عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد فِي قَوْل اللَّه : { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } قَالَ : أَعْمَركُمْ فِيهَا * - حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى , قَالَ : ثَنَا أَبُو حُذَيْفَة , قَالَ : ثَنَا شِبْل , عَنْ اِبْن أَبِي نَجِيح , عَنْ مُجَاهِد : { وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا } يَقُول : أَعْمَركُمْ


السلف جزاهم الله خيراً في تحليلهم لمفهوم الاستعمار في الأرض , حيث تشابهت التفسيرات المتعددة في شرح معنى استعمركم فيها ,لهذا أخذتُ للتقريب ,تفسير الطبري .ومفهوم استعمركم فيها عنده كما ورد ذكره سابقاً أي أسكنكم فيها أيام حياتكم وجعلكم عمّاراً فيها.
في الحقيقة ,عند تدبر الآية في عصرنا هذا ,يتوسع المفهوم ,وخاصة تفسير واستعمركم فيها .
أولاً- لابد أن نسأل أنفسنا ,هل يعقل أن الخالق ,خلق الكون وجعل الإنسان خليفة له ,وطلب منه عمارة الأرض بدون أن يزوده بمشروعه الإلهي لعمارة هذه الأرض ...,هل ترك الإنسان على سجيته.... , حيث قال له عز وجل أسكن فيها وعمرها كما تشاء!!!!!!. وهل العمارة للأرض هي عمارة ما دية فقط ,؟أم أن العمارة فيها تتطلب تنظيم الحياة الاجتماعية والسياسية بشكل تتحقق معها العدالة والقسط , الى جانب التقدم العلمي في كل المجالات.
صحيح أن دور الإنسان في العمارة هو الدور الأساسي والأول ,لكن هل يستقيم هذا الدور بدون الاستهداء بتعاليم الله ,وخاصة عند النظر الى ظواهر الخلق ,واستخدام ما سخره الله عز وجل له من خلال مناهج التجريب والتقصي .فدوره أي الإنسان في عمارة الأرض لابد أن ينطلق من وحي الخالق ,ليكون الهادي له في حركته.وهذا تم فعلاً من خلال الرسالات السماوية .فالوحي في هذه الحالة هو أصل منهجه أي منهج الإنسان في عمارة الأرض
( مادياً واجتماعياً) .

الفلسفة المادية ,جعلت من الإنسان حيواناً ناطقاً ,واقتصرت على هذا المفهوم .وكونه ناطقاً ..فقد تطور لديه مع الزمن والتجارب العضو المادي الذي هو مصدر المعرفة والتطور (المخ).أي أن المخ برأيهم هو أعلى مراحل تطور المادة . وهو القادر وحده على عمارة الأرض ,بدون تدخل قوى خارجية.أي في ما معناه اقتصار الإنسان على المنهج التجريبي الحسي لوحده للمعرفة والعلم في كل المجالات.

لا يمكن لنا أن ننكر دور الإنسان ومقدرته ,ولا يمكن لنا أن ننكر دور المخ الإنساني المادي في عملية التفكير والإبداع وعمارة الأرض.لكننا في الوقت نفسه ,نشهد من خلال ما جرى ويجري في الحياة الدنيا ,أن الابتعاد عن منهج الخالق عن الوحي في عمارة الأرض ,أدى في النهاية الى ظهور الفردية بين البشر والتي منها تولدت الأنانية والمصلحة الخاصة ,وتحولت المجتمعات بعد ذلك الى مجتمعات سعت وتسعى الى تحسين مصالحها الخاصة على حساب شعوبها أو على حساب الشعوب الضعيفة .أما المشروع الإلهي في العمارة ,هو مشروع يقوم على التمكين والسلطان على الأرض ,ومرتبط بجملة قيم سماوية تقوم على الصلاح والإصلاح وعدم التلويث والفساد.
والإنسان هو الذي سينفذ مشروع عمارة الأرض,لهذا لا يمكن له تأدية هذا الدور بدون الإتباع للمنهج الإلهي , وإلا ستزداد عنده فكرة التمركز حول الذات ,ونتيجتها ستزداد النزعات القومية والمصلحية والفردية كما نشهد ذلك في عالمنا اليوم,وهي إشكالات لا يمكن تجاوزها إلا بالرجوع الى التوحيد ,حيث أن الله عز وجل هو مركز وسيد الكون وهو الخالق لكل شيء ,وهو العليم بكل شيء, والإنسان مخلوق ناقص مخلوق ليموت وهنا تكمن حكمة الخالق في عمارة الأرض ,بحيث يتم انجاز المشروع الآلهي عبر أجيال متعاقبة ,تتدافع في حال وجودها ,ليبقى بعد التدافع الأصلح مما أنجزته في مسيرتها القصيرة ,لتخلق بعد ذلك تراكماً معرفياً ,ينتقل من جيل الى جيل ليكمله ويزيد عليه . لهذا أنزل له الهداية و القوانين الربانية الثابتة الصالحة على مدى العصور وحتى نهاية الكون ,حتى يستطيع عمارة الأرض بمنهج رباني ,مادياً واجتماعياً ..وسوف يرجع هذا الإنسان المنفذ للمشروع الإلهي الى خالقه ,ليقدم له فاتورة العمل والانجاز وعندها إما الثواب وإما الجزاء.والله أعلم

اجمالي القراءات 56841