القضاء المصري

شريف هادي في الجمعة ٠٥ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ أن بدأت خطوات الأولى في عالم النيابة العامة والقضاء كنا جميعا نتداول فيما بيننا مقولة شهيرة (آفة القضاء المحضرين والخبراء) ، وكانت وقتها هذه المقولة تعبر وبحق عن الحال المتردي للنظام القضائي المصري الذي إعتمد على كل من المحضرين والخبراء لتسهيل سير العدالة ، فالمحضرين هم المنوط بهم تسليم الإعلانات القضائية ، فالمدعى عليه والمتهم لا يكون ملزم بالدفاع عن نفسه إلا من لحظة إعلانه ، كما أنه لا يفقد الحق في درجة كاملة من درجات التقاضي إلا إذا ثبت إعلانه لشخصه ول&atiم يحضر ، كما أن قانون المرافعات المصري أهتم أهمية قصوى بالاعلانات القضائية وبالمواعيد التي يجب تنفيذ الاعلانات خلالها بل وبالإجراءات الواجب إتباعها من المحضرين عند قيامهم بالإعلان القانوني ، كما أن جهاز المحضرين هو الجهاز المختص بتنفيذ الأحكام القضائية بدأ من إعلانها حتى إتخاذ الخطوات الجادة لتنفيذها.
ورغم الأهمية البالغة للمحضرين في النظام القضائي المصري على وجه الخصوص فقد أغفل القانون أحوالهم لوقت كبير ، كانت حركة التقاضي تتطور بتطور الشعب المصري من ناحية وبالتقدم الذي يشهده العالم من ناحية أخرى ، إلا أن طبقة المحضرين ظلت مهمشة ومهملة ، بل وينظر لمهنتهم على أنهم ضمن الخدم والحاشية ، كما أن مصاريف الانتقال لتسليم الإعلانات والقيام بالتنفيذ ظلت جامدة لم تتغير منذ سنة 1928 وحتى الثمانينات من القرن الماضي ، وكان قانون المصاريف القضائية المصري يحسب الجنيه على أنه ألف وحده تسمى (المليم) ، وتجد نص القانون يحسب مصاريف الانتقال لإعلان صحيفة الدعوى المدنية داخل حدود المدينة 12 مليم ، وخارج حدود المحافظة 18 مليم ، وهكذا.
فعدم توافق الدور الذي يقوم به المحضر مع مركزه في أدنى السلم الاجتماعي ، وعدم معقولية المقابل المادي لما يقوم به من أداء ، جعل جهاز المحضرين يتفنن في تعذيب ذوي المصالح بنفس القدر الذي يتفنن به في زيادة دخلة باللعب على كل الحبال وإستخراج الأموال من جيوب التعساء الذين يلقيهم حظهم في طريقه ، ولك أن تتخيل محضر يكتب محاضر إنتقال وهمية ، يقر فيها أنه تقابل مع الشخص المذكور وسلمه عريضة الدعوى ثم بعد ذلك يلقي بالصورة المفروض أنه سلمها في عرض الشارع ، أو محضر ينتقل لتنفيذ حكم قضائي ، ثم يفتح جيوبه للمنفذ ضدهم وينصحهم بالاستشكال في مواجهته لوقف التنفيذ وليذهب النظام القضائي كله للجحيم.
والخبراء ليسوا أسعد حالا من المحضرين ، ورغم أن المحكمة هي الخبير الأعلى ، وأن رأي الخبير مهما كان مهما فهو إستشاري ، ولكن في حقيقة الأمر فإن أكثر من تسعة وتسعون بالمائة من القضاه يأخذون بتقارير الخبراء ، ويقبلونها ، ويعاني الخبراء من قلة المؤهلين منهم مع كثرة القضايا المحالة إليهم ، وقلة العائد المادي وكثرة الإغراءات التي يقدمها الخصوم وأصحاب الضمائر الميتة من المحامين ، وقد دب الفساد في الجهاز كله.
لذلك كانت المقولة وبحق أن آفة القضاء المحضرين والخبراء ، وكان لزاما على الدولة وقد عرفت موطن العلة وبيت الداء أن تعمل على تصحيح الأوضاع لضمان نظام قضائي سليم ، ولكن ما حدث أن محاولات إصلاح الأوضاع كانت محاولات دائما خجوله ولا تفي بالغرض ، فمثلا بدأ تعين خريجي كليات الحقوق في منصب المحضرين بعد أن كان التعيين مقصورا على حملة الدبلومات التجارية المتوسطة والثانوية العامة ، ولكن فات النظام أن هذه الخطوة خلقت حقدا بين المحضرين وأمناء السر على القضاة ووكلاء النيابة العامة ، وإحساس بالظلم ، ذلك لأن التعيينات في الجهاز القضائي تتم بالواسطة وليست بالكفاءة ، تم تغيير قانون المصاريف القضائية ومصاريف الانتقال ولكن ظل دون المستوى ولا يفي بمتطلبات الانتقال الحقيقية للمحضرين.
وما حدث حقيقة أن سرى الداء في كل الجسد القضائي ، فقد دب الفساد سريعا في أمناء السر زملاء المحضرين ثم إنتقل إلي ضعاف النفوس من المحامين ، ولم يلبث أن دب في الجسد القضائي كله بوجود وكلاء للنيابة غير مؤهلين وقضاة مرتشين ، بالاضافة للتدخل السافر للسلطة التنفيذية في عمل القضاه
وفي رأئي أن الخلل بدأ عندما قررت الدولة بعد مذبحة القضاء إعتبار كلية الحقوق من كليات القاع التي يلتحق بها الحاصل على أدنى الدرجات العلمية في الثانوية العامة ، فدخل الكلية التي تحتاج إلي نوعية من الدارسين يتم إعدادهم للقيام بعملية الاستنباط في كتابة مذكرات الدفاع والمرافعات أو في كتابة حيثيات الأحكام أو حتى في إتخاذ القرارات المصيرية بناء على الاطلاع على أوراق القضايا ، وهي عملية تحتاج إلي مستوى ذكاء مرتفع مع قابلية على التعلم وحب للقراءة والاطلاع ، أقول دخل الكلية نوعية مختلفة من الدارسين ممن لا يحبون القراءة أصلا ، وينخرطون في العملية التعليمية إرضاء للأهل وحفاظا على المركز الاجتماعي ، وهؤلاء قل فهمهم وإنعدم تحصيلهم ، وتم تعويض ذلك عند معظمهم بالغش لضمان النجاح ، ثم بعد إنتهاء الدراسة تعمل الواسطة عملها في توجيه بعض الخريجين للعمل بالنيابة العامة والبعض الآخر للعمل في القضاء ، والباقين في المحاماة ، ولك أن تتخيل قاضي أو وكيل نيابة أو محامي (غشاش) بل ويعتمد على الواسطة ليأخذ حق غيره ، ماذا ستكون النتيجة؟
إنعدمت الكفاءات بين الوكلاء والقضاة ، وقد عملت في التفتيش القضائي من قبل وكنا نتندر على المستوى الفظيع في اللغة العربية الذي انحدر له القضاة ووكلاء النيابة ، فضلا عن الأحكام والقرارات المخالفة لأبسط القواعد القانونية فضلا عن مخالفتها للمنطق القائم على الفطرة السليمة ، فمثلا هناك قاض أدان المتهم وغرم المدعي بالحق المدني ، وشر البلية ما يضحك ، وآخر أصدر حكما بالبراءة وقام بتغريم المسئول عن الحقوق المدنية.
ثم أن الواسطة والمحسوبية ، بل ودفع مبالغ على سبيل الرشوة أصبحت هي الطريق الصحيح للحصول على المناصب القضائية ذلك فضلا عن التقارير الأمنية ، فأصبح القاضي يدين بمكانته للمال المدفوع كرشوة ولأمن الدولة الذي أنصفه في تقريره ، فسمح للشرطة بالتدخل في عمله ، وهنا فقد المجتمع الضمانة الحقيقية لعدم إستبداد الشرطة ، وتحول القضاة ووكلاء النيابة ليصبحوا مخالب للدولة في التعامل مع الشعب على وجه العموم والمخالفين للنظام على وجه الخصوص ، هذا بالإضافة للقيود الواقعة على القلم الأحمر في يد وكيل النيابة بما يسمى تعليمات النيابة العامة ، ففقد وكيل النيابة حريته في التعامل مع القضايا المعروضة عليه ، فمثلا من تعليمات النباية العامة حبس المتهم بتعاطي المخدرات أربعة أيام على ذمة التحقيق مهما كان إحساس وكيل النيابة ببراءة المتهم وأن القضية ملفقة ، وهذا يجعل لضابط الشرطة سيف معلق على رقبة الشعب فيقوم بتلفيق القضايا وهو يعلم عجز وكيل النيابة عن الإفراج عن المتهم
وأيضا من أسباب إنهيار النظام القضائي كثرة عدد القضايا المعروضة مع قلة عدد القضاة لنظر القضايا ، فيكون مطلوب من القضاة نظر أكبر عدد من القضايا في أقل مدة ممكنة ، فلا يوجد لدى القاضي وقت للاطلاع على القضايا فيكتفي بإصدار الأحكام وخاصة الغيابية من التوصيف الذي كتبته النيابة العامة على وجه الملف دون الاطلاع على أوراق القضية ، فإذا عرفت أن الحالة العلمية للكثير من وكلاء النيابة مذرية جدا ومعلوماتهم لاسيما القانونية ضحلة جدا ، وأن كاتب التوصيف الحقيقي هم أمناء السر بما لديهم من خبرة ، فيكون مصدر الحكم الحقيقي هو أمين السر وليس القاضي أو حتى وكيل النيابة ، فأي ظلم وأي إنهيار أكثر من ذلك ، يبقى أن أقرر أنني عندما أتكلم عن الوكلاء والقضاة والمحامين فأنا أتكلم عن الأغلبية العظمى منهم وليس عن كلهم فمازال هناك شرفاء معقود عليهم الأمل.
وما الحل إذا؟ والحقيقة أن الحل يكمن أولا في تغيير طبيعة الدولة ، فالدولة البوليسية لا تريد قضاءا حرا وعادلا بل تريد قضاءا مسيسا يخدم مصالحها ، فلن يكون هناك حل أصلا طالما أن الدولة لاتريده ، فلو أصبحت الدولة ديمقراطية فستعمل على إعداد كوادر من الوكلاء والقضاة على درجة من العلم والذكاء يؤهلهم للقيام بالمهمة ، كما ستعمل على إصلاح القوانين ومنطقيتها ، وإلتزام الشرطة بوظيفتها في خدمة الشعب سيقلل من عدد القضايا المعروضة ، وستنظر في إصلاح حال أمناء السر والمحضرين والخبراء ، وستتناغم المنظومة ، وحقا عندما قالوا اعرف الحاكم من قاضية ، فلو كان القاضي عادلا فالحاكم عادل ولو كان القاضي ظالما فالحاكم ظالم. 

شريف هادي

اجمالي القراءات 20180