المقريزي شاهد على العصر
لمحة عن تطبيق الشريعة السنية فى الدولة المملوكية (2 )

آحمد صبحي منصور في الثلاثاء ١٢ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

1 ـ السلطان المؤيد شيخ " متوفى 824 هـ " كان من أبرز السلاطين البرجية الذين حكموا الفترة الثانية من الدولة المملوكية ، وكانت الأحوال فيها سيئة بوجه عام لأن الظاهر برقوق الذي أسس تلك الفترة البرجية المملوكية استحدث مظالم جديدة أصبحت سياسة عامة للدولة من بعده ، وكان من معالم تلك السياسة الشراهة في جمع المال من الناس بأي كيفية ، وبيع الوظائف لمن يستحق ومن لا يستحق ، وبذلك أصبحت الرشوة أو " البرطلة " سنة شرعية للدولة المملوكية ، فمن يرد وظيفة رسمية عليه أن يدفع رشوة للسلطان وحاشيته ثم بعد ذلك يتقاضى من الناس أضعاف ما دفعه ويسرق وينهب ما شاء ، وإذ تضاعفت أمواله وأشتد ظلمه عزله السلطان وصادر أمواله واعتقله ، وربما أوكل به الزبانية فعذبوه حتى يستخلصوا منه أمواله المخبأة .
كان ذلك من الملامح الأساسية التي سارت عليها الدولة المملوكية البرجية بعد عهد الظاهر برقوق والتي سار عليها خلفاؤه من بعده وكان من منهم صاحبنا السلطان المؤيد شيخ الذي حكم مصر والشام والحجاز ثماني سنوات وخمسة أشهر وثمانية أيام ومات يوم الاثنين 9 محرم 824 هـ .

2 ـ وكان هذا السلطان مزيجا من الخير والشر ، وربما كان أقل السلاطين نصيبا من حنق المقريزي ، فالمقريزي أعظم مؤرخي مصر في العصور الوسطى – عاش في عهد جملة من السلاطين وصب عليهم جام غضبه وهو يؤرخ لهم ، وكان نصيب المؤيد شيخ من ذلك اقل من كثيرين ، إذ عدد المقريزي محاسنه ومساوئه فقال عنه " وكان شجاعا مقداما يحب أهل العلم ويجالسهم ويجل الشرع النبوي ويذعن له ، ولا ينكر على من طلبه منه إذا تحاكم إليه أن يمضي من بين يديه إلى قضاة الشرع " يعني إذا كان الحكم يتعلق بالسياسة ومرجعة إلى السلطان وطلبوا من السلطان أن يتنازل عن حقه في إصدار الحكم وأن يرجع ذلك إلى قضاء الشرع وافق على ذلك ، وكانت العادة أن يتدخل السلاطين حتى في أحكام الشرع ، بل أن يتدخل حاجب الحجاب في مصادرة حق القضاة في أحكامهم الشرعية ، وكثيرا ما كان المقريزي ينقم على هذا الظلم ، ولكنه هنا يعد من محاسن المؤيد شيخ أنه كان يتنازل عن سلطاته السياسية في القضاء ويخولها لقضاة الشرع إذا طلبوا منه ذلك .
وأكثر من ذلك يقول المقريزي " بل يعجبه ذلك وينكر على أمرائه معارضة القضاة في أحكامهم ، وكان غير مائل إلى شيء من البدع وله قيام في الليل إلى التهجد أحيانا " أي لم يكن يحب البدع ، وكان يقوم الليل متهجدا ، وتلك نادرة من نوادر السلاطين المماليك البرجية لا نجدها إلا عند السلطان قايتباى في أواخر القرن التاسع.
وبعد هذه المناقب والمحاسن استدار المقريزي يعدد المساوىء القبائح التي كانت شيئا عاديا في السلاطين وقتها ، فقال عنه " إلا أنه كان بخيلا مسيكا يشح حتى بالأكل ، لجوجا ، غضوبا ، نكدا ، حسودا معيانا – أي شديد الحسد والحقد على اصحاب النعمة – يتظاهر بأنواع المنكرات ، فحاشا ، سبابا ".
ثم عدد المقريزي بعض المظالم التي أحدثها أثناء صراعاته مع خصومه المماليك حين كان أميرا على الشام وحتى بعد أن تولى السلطنة " لكثرة ما كان يثيره من الشرور والفتن أيام نيابته بطرابلس ودمشق ، ثم ما أفسده في أيام ملكة من المظالم ونهب البلاد ، وتسليط أتباعه على الناس يسومونهم الذلة ويأخذون ما قدروا عليه .. "

كان السلطان المؤيد شيخ مزيجا من الشر و الخير إلا أنه كان يمتاز على أعوانه بأنه كان أكثرهم خيرا . والمقريزي يعترف بذلك حين يقول أنه كان ينكر على أمرائه معارضتهم للقضاة في أحكامهم وذكر المقريزي بعض مآثره في حكم الشام من التصدق ورفع بعض المظالم ، ولكن السلطان المؤيد شيخ في نهاية الأمر لا يستطيع إلا أن يكون سلطانا مملوكيا ، أي قاسيا جائرا مهابا بين أصحابه وألا التهموه .

وفي سنة 820 كان السلطان المؤيد شيخ غائبا عن مصر يقوم بجولة في الشام ، واتيح لإتباع السلطان في القاهرة ومصر أن يمارسوا ما شاءوا من الظلم ، وبذلك ظهر أن السلطان كان أقلهم في ظلم الرعية ، وأن وجوده بينهم كان يمنعهم من ذلك الظلم الفظيع .
ومن الطبيعي أن السلطان شيخ يتحمل الوزر في اختيار هؤلاء الظلمة في تلك المناصب ، ولكنها كانت سياسية مملوكية ثابتة أن يحصل على المناصب من يستطيع شراءها ثم يكون من حقه أن يظلم الناس ما شاء لكى ينال بالظلم والعسف أضعاف مادفع من جيوب الناس ..
وتلك هى الشريعة السنية كما طبقها المماليك فى عصر المؤرخ المقريزى. وننقل من تاريخ ( السلوك لمعرفة دول الملوك : القسم الأول من الجزء الرابع ) شهادة المقريزى على عصر السلطان المؤيد شيخ المملوكى.

موجز أنباء الظلم

1 ـ المقريزي بعد أن تحدث عن غيبة السلطان المؤيد شيخ في الشام وعن وصول مبعوث منه ينبيء دخول السلطان إلى حلب أخذ يصف معاناة الناس من ظلم كبار الموظفين الذين ينطبق عليهم المثل الشعبي " غاب القط العب يا فار .. "

يقول المقريزي في أحداث شهر ربيع الأخر 820 " فيه قدم قاصد السلطان – أي مبعوث السلطان – يبشر بقدومه حلب .. وأهل هذا الشهر – أي جاء هلال هذا الشهر وبدأ ـ وفي جميع أرض مصر .. من أنواع الظلم ما لا يمكن وصفه بقلم ولا حكايته بقول من كثرته وشناعته " ثم بدأ في تفصيل الأنباء بعد ذلك الموجز البشع ..
تفصيل الأنباء :
المحتسب :
يقول عن المحتسب الذي يشرف على الأسواق : " فالمحتسب بالقاهرة والمحتسب بمصر كل ما يكسبه الباعة مما تغش به البضائع وما تغبن فيه الناس يجبى منهم بضرائب مقررة لمحتسبي القاهرة ومصر وأعوانهما ، فيصرفون ما يصير إليهم من هذا السحت في ملاذهم المنهي عنها ، ويؤديان منه ما استدانوه من المال الذي دفع رشوة عند ولايتهم . ويؤخرون منه بقية لمهاداة أتباع السلطان ليكونوا عونا لهم في بقائهم " .
فالباعة يغشون البضائع ويظلمون الناس في البيع وبدلا من أن يقوم المحتسب بوظيفته الشرعية في الضرب على أيديهم فإنه يأخذ منهم الرشاوى ويكون شريكا لهم فيما يأكلونه من أموال الناس بالباطل ، وتلك الرشاوى التي أخذت اسم الضرائب كان المحتسب ينفقها في ثلاثة وجوه ، في المعاصي ، وفي تسديد الديون التي أخذها ليدفعها من قبل رشوة كي يحصل على ذلك المنصب ، ثم في تقديم رشاوى . أخرى لحاشية السلطان كي يظل في هذا المنصب .

ظلم القضاة
ويأتي المقريزي للقضاة ، وكان في الدولة المملوكية أربعة من قضاة القضاة يمثلون المذاهب الأربعة ولكل منهم نائب أي قاض في كل منطقة بالقاهرة وبالمقاطعات .. ويبلغ عدد أولئك القضاة المحليين – أو النواب – نحو المائتين ، يقول المقريزي عنهم " وأما القضاة فإن نوابهم يبلغ عددهم نحو المائتين ، ما منهم إلا من لا يحتشم من أخذ الرشوة على الحكم مع ما يأتون – هم وكتابهم وأعوانهم – من المنكرات ولا يغرم أحد الرشوة بمثله فيما سلف ، وينفقون ما يجمعونه من ذلك فيما تهوى أنفسهم ، ولا يغرم أحد منهم شيئا للسلطنة ، بل يتوافر عليهم فلا يتخولون في مال الله تعالى بغير حق" –أي لا يحسنون القيام بالحق على مال الله " – ويحسبون أنهم على شيء ، بل يصرحون بأنهم أهل الله تعالى وخاصته افتراء على الله سبحانه " .
وهذه شهادة المقريزي على رفاقه الذين تولوا منصب القاضي ، وصفهم بأخذ الرشوة – وبالتالي بالظلم في إصدار الحكم ، ثم ينفقون ذلك المال الحرام في المعاصي التي لم تكن معهودة من قبل ، ثم يعتبرون أنفسهم أولياء الله وأحباءه ..!!
فإذا فسد قضاة الشرع فكيف كان رجل الشرطة ؟

فساد الشرطة
1 ـ والوالي في ذلك العصر كان يعني مدير الأمن فى العاصمة أو المقاطعات ، وكان هناك والى القاهرة وحدها ، وربما يكون والى ( القاهرة ومصر) فيما يعرف الان بالقاهرة الكبرى ، ثم ولاة النواحى ، أى الأقاليم .
يقول المقريزي : " وأما والي القاهرة ووالي مصر وغيرهما من سائر ولاة النواحي فإن جميع ما يسرق من الناس يأخذونه من السارق إذا ظفروا به ، فلا يأتون بسارق معه سرقة إلا أخذوها منه ، فإن لم تكن معه السرقة ألزموه مالا وتركوه لسبيله ، وقد تيقن أنه متي عثر صانع عن نفسه – أي دفع رشوة – وتخلص " .
إذن هو مفهوم جديدا في محاربة الجريمة ، أن يعاقب السارق بأن يسرق البوليس منه المسروقات ويطلق سراحه ، أى إن السارق الأكبر وهو نظام الحكم والمسئولين فيه يسرقون من صغار (الحرامية ).
2 ـ وفي ذلك العصر كان تطبيق عقوبة السرقة وهي قطع اليد، فكيف كان يحدث ذلك؟ حدثنا يا شيخنا المقريزي ..
يقول المقريزى " وصار كل من يقطع من السراق يده إنما يقطع لأحد أمرين : إما لقوة جاه المسروق منه ، أو عجز السارق عن القيام للولاة بالمال " أي ينفذ قطع يد السارق في حالتين إذا سرق من شخص ذي نفوذ أو إذا لم يكن معه مال يقدمه رشوة ..!!
الحرامى الجوعان يقطع يده كبار الحرامية .. ويبدو أنها عادة مصرية عريقة ؛أن يتحكم الحرامية الكبار فى القانون وتطبيقه ..

3 ـ أما حالة الولاة في الأقاليم والأرياف فكانت أسوأ .. كانوا قطاع طرق بصريح العبارة ولكن يرتدون الزى الرسمي للدولة وينهبون باسمها ، يقول عنهم المقريزي " ويزيد ولاة البر (أى الأقاليم ) على والى مصر والقاهرة بأخذ من وجدوا معه غنما أو أبلا أو رقيقا من الفلاحين أو العربان وغيرهم ، فإذا صار أحد ممن ذكرنا في أيديهم قتلوه واستهلكوا ماله .. " أي لا يكتفي الوالي في الإقاليم والريف بنهب المال وإنما يقتل صاحب المال حتى لا يشكوه !!

4 ـ وأعوان الوالي كانوا أكثر فسادا وإجراما منه ، يقول عنهم شيخنا " ومع هذا فلأعوان الولاة في أخذ مال الناس أخبار لم يسمع قط بمثل قبحها وشناعتها ، حتى إنه إذا أخذ شارب خمر غرم المال الكثير ، وكذلك من ساقه سوء القضاء إليهم من المتخاصمين فيغرم الشاكي والمشكو المال الكثير بقدر جرمه ، بحيث تبلغ الغرامة آلافا كثيرة " .

5 ـ وأين تذهب هذه الأموال المنهوبة ، يقول شيخنا " وجميع ما تجمعه الولاة كلهم من هذه الوجوه لا يصرف إلا في أحد وجهين : إما للسلطنة مصانعة – أي رشوة – عن أقامتهم في ولاياتهم ، أو فيما تهواه أنفسهم من الكبائر والموبقات ، وينعم أعوانهم بما يجمعونه من ذلك ، ويتلفونه إسرافا وبدارا في سبيل الفساد ، ويتعرض الولاة لمقدميهم ويأخذون منهم المال حينا بعد حين " !!
أى ينفقون ما يجمعون من المال السحت فى دفع رشاوى للكبار، وفى المجون .ويصادر اللص الكبير أموال اللص الاقل منه مكانة فى الوظيفة .
فساد القضاء السياسي
وبالاضافة للقضاء العادى الذى يتخصص فى الحكم فى منازعات الأفراد كان هناك القضاء السياسى حيث جرى العرف فى العصور الوسطى أن من حق السلطان ـ ومن ينوب عنه ـ معاقبة من يشاء ولو بالقتل تحت شعار (سيف الشرع ) ، وهو ما تعيش مصر تحت سياطه الان ، ولكن تحت عنوان مختلف هو ( قانون الطوارىء) وهو سيف أخر فى يد مباحث أمن الدولة . أى أعاد العسكر المصرى شريعة العسكر المملوكى التى كانت سائدة فى العصور الوسطى ..
وكل عام وانتم بخير.
ونعود لشيخنا المقريزى .
كانت قضايا أمن الدولة في يد من يسمي وقتها بحاجب الحجاب وأعوانه من الحجاب . والويل لمن يكون مطلوبا عنده .. أو أن يأتي به حظه السيئ إلى ديوانه.
يقول المقريزي " وأما الحجاب فإنهم وأعوانهم قد انتصبوا لأخذ الأموال بغير حق من كل من يشكو إليهم وكل مشكو عليه ، فما من أحد من الحجاب إلا وفي بابه رجل يقال له رأس نوبة يضمن له في كل يوم قدرا معلوما من المال يقوم له به " أي أن الحاجب يفرض على رئيس مكتبه – بتعبير عصرنا – مقدار معينا من المال وعليه أن يدفعه له ، ويقسم رأس النوبة أو رئيس المكتب ذلك المبلغ على أعوانه – وهم النقباء ، وأولئك النقباء يأخذون تلك الأموال من الناس ، ويطلق على تلك الأموال لقب " الإطلاق "، ومن يأتي به حظه التعس إلى أبوابهم يقع فريسة في أيديهم يستصفون أمواله بتلك الغرامات المالية وإلا كان الهلاك نصيبه ظالما كان أم مظلوما .
ونائب الغيبة – أو الذي يقوم عن السلطان أثناء غيابه – يفعل مثلما يفعل حاجب الحجاب .. ويسير نفس طريقته ..
ظلم الاستادار
والاستادار كان يعني ذلك الموظف الذي يقوم على الشئون المالية للقصور السلطانية وما يدور فيها من إيرادات ومصروفات ولوازم للطعام وغيره ، وتحت تصرفه جيش من الموظفين .. وكانت سلطات الاستادار تضيق وتتسع حسب رضي السلطان عنه.
وحين سافر السلطان المؤيد شيخ في رحلته للشام أتيح للاستادار أن يمارس الظلم كما يحلو له ، فتجول فى الريف ينهب كيف شاء..
يقول شيخنا عنه " وأما الاستادار فإنه أمدهم باعا وأقواهم في الظلم ذراعا ، وأنقذهم في ضرر الناس أمرا ، وأشنعهم في الفساد ذكرا ، وذلك أنه خرج إلى الوجه البحري ففرض على جميع القرى فرائض ذهب ، قررها بحيث أن الجباية شملت أهل النواحي عن آخرهم ، ولم يعف عن أحد البتة . فما وصلت إليه مائه دينار إلا وأخذ أعوانه مائه دينار أخري ، ثم تتبع أرباب الأموال فصادرهم ، وأخذ لنفسه ولأعوانه مالا كثيرا ، ثم طرح على جميع النواحي بعد ذلك الجواميس التي نهبها – " أي الزمهم بشرائها " – فقامت كل واحدة من الجواميس على الناس باثني عشر ألف درهم – " أي فرضها عليهم بسعر باهظ " – وأكثر ما تبلغ الجيدة منها إلى ألفي درهم !! فجبي من الوجه البحري على اسم الجاموس مالا جما ، ثم أنه الزم الصيارفة ألا تأخذ الدرهم المؤيدى – أي العملة المعدنية التي أصدرها السلطان المؤيد شيخ – إلا من حساب سبعة دراهم ونصف وهو محسوب على الناس بثمانية دراهم " أي تلاعب بسعر العملة " والزمهم أيضا ألا يأخذوا الفلوس إلا من حساب خمسمائة وخمسين درهما القنطار وهو على الناس بستمائة درهم .. والزمهم أيضا ألا يقبضوا الذهب الافرنتى – أي الدينار الإفرنجي – إلا من حساب مائتين وثلاثين الدينار وهو معدود على الناس بمائتين وستين ، وإذا صرف لأحد ذهبا يحسبه عليه بمائتين وستين " أي تحكم في سعر العملة في الشراء والبيع كما يحلو له " ثم أنه كل قليل يلزم صيارفته ومقدميه ومباشريها وولاتها بمال يقرره عليهم في نظير ما يعلم أنهم أخذوه من الناس ، وكان كل مرة يصادر أموالهم ، وكان أولئك الأعوان على طريقته في سرقة الناس ، ومع كثرة مصادرته لهم كانوا يعيشون في ترف وينفقون الأموال في المعاصي كما يحكي المقريزي .
بعد أن نهب الوجه البحرى سافر ذلك الاستادار في حملة نهب أخرى على قبيلة لهاتة في الصعيد ، وعاد ومعه الأغنام والبقر والجمال والخيل ، والزم أهل الوجه البحري بشرائها بالسعر الغالي الذي يحدده ، وهى تجاروة مربحة ؛ يسرق من الصعيد ويبيع ما يسرقه لأهل الدلتا ، ثم يعود الى الصعيد يمص دم أبنائه ، يقول المقريزي " وهو الآن يفرض على جميع بلاد الصعيد الذهب كما فرضه على نواحي الوجه البحري " . واستمر ذلك الاستاراد في عمله ينهب الريف ويفرض ما ينهبه على الناس بأغلى الأسعار وشمل ذلك كافة البضائع من السكر والعسل والصابون والقمح ، ولا يكسب درهما إلا اكتسب أعوانه درهما أخر .
ثم التفت الى أهل القاهرة ، فشرع في نوع أخر من الظلم هو أقامة بناء منطقة بين السورين فى القاهرة ، فأخذ مواد البناء من التجار بلا ثمن وسخر الناس في العمل بلا اجر . وجميع ما يكسبه ينفقه في الشهوات وفي الرشوة لأعوان السلطان .
وفي النهاية يقول شيخنا " وقد اختل إقليم مصر في هذه السنة خللا شنيعا يظهر أثره في القابلة – أي في السنوات القادمة – ومع ذلك ففي أرض مصر من عبث العربان ونهبهم وتخريبهم وقطعهم الطرقات على المسافرين وغيرهم شيء عظيم قبحه شنيع وصفه ، والسلطان بعساكره في البلاد الشامية يجول ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : " أن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " . ويضاف إلى ما تقدم ذكره أن الطاعون فاش " أي منتشر " بدمياط والغربية والإسكندرية والإرجاف – أي الشائعات – بالإفرنج متزايد ، وأهل الإسكندرية على تخوف من هجومهم ، وقد استعدوا لذلك ولله عاقبة الأمور " .

وبعد ..
1 ـ فقد كانت العادة أن يذوب المؤرخ نفاقا في السلطان يمدحه بالباطل ويدافع عن مساوئه بكل ما أستطاع ولا يلتفت إلى أحوال الناس في عهده ، كان على ذلك أكثرية المؤرخين قبل المقريزي وبعده ، ولكن كان شيخنا المقريزي فلتة في هذا العصر يستحق أن نفخر به وأن نفاخر به مؤرخي الغرب في العصور الوسطي ..
وبقي أن نذكر أسماء الموظفين الظلمة الذين تحدث المقريزي عن مساوئهم ..
المحتسب في القاهرة هو شمس الدين محمد بن يعقوب الشامي ، والاستادار هو الأمير فخر الدين بن أبي الفرج ، وصاحب الحجاب الأمير سودن قراصقل .. ولاداعى لذكر أسماء قضاة القضاة الأربعة فهم أحقر وأضل سبيلا!!

2 ـ تبقى لمحة إنصاف للدولة المملوكية ، فقد كانت تسير وفق ثقافة العصور الوسطى القائمة على الظلم والاستبداد والاستعباد واستغلال الدين فى خدمة السلطان وفساده، وترى ذلك شيئا عاديا من سنن الحياة . ولكن كان العسكر المملوكى ـ الغريب عن مصر ـ أكثر رفقا بالمصريين من العسكر المصرى الذى حكم مصر وأذلّ أهلها منذ 1952 .
ومع أننا نعيش فى عصر الديمقراطية وحقوق الانسان فلا يزال العسكر المصرى يمارس الاستبداد والفساد والجور والطغيان ويحترف تعذيب المصريين بمثل ما كان يفعل العسكر المملوكى فى القرون الوسطى .
وقد رأينا المقريزى يتمتع بحريته فى نقد السلاطين ، ويهاجم الظلم والظالمين بضراوة ، وتلك سمة عامة فى تأريخه للفترة التى عاشها وكتب عنها شاهدا على عصره، ومع ذلك فلم يتعرض له احد بسوء ، بل خدم الدولة المملوكية وعمل فيها محتسبا فترات ،أى لم يمنع نقده للدولة من أن تعطيه المناصب .
ونتساءل : لو عاش المقريزى فى عصر حسنى مبارك فماذا سيكون مصيره ؟
فى الأغلب سيكون بين نزلاء سجن مزرعة طرة ..أو يستريح بالاختفاء القسرى ..
أهلا وسهلا ..

اجمالي القراءات 13537