الحكمة
الحكمة

زهير قوطرش في الأحد ١٠ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً




الحكمة .
قال الله عز وجل :
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ 2-269


ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا 17-39


وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن&uْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ 31-12


وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ 38-20

استوقفتني كثيراً معاني كلمة الحكمة .وكنت دائماً أسأل نفسي ما هو هذا الخير الكثير الذي يحرزه من أوتي الحكمة. وهل الخير هو من الخير المادي أم المعنوي؟
وهل أولو الألباب هم من الذين أوتوا الحكمة؟
وهل الأنبياء والرسل هم الحكماء فقط؟

عدت إلى تفاسير السلف رحمة الله عليهم , فقد اجتهدوا لعصرهم ما فيه الكفاية ,وقدموا لنا خيارات ,نستطيع البناء عليها أو رفضها ,فهم لم يدعوا القدسية والمطلق بما قدموه لنا. لكن التقديس حصل نتيجة جهل السلف ,ونتيجة خلطهم ما بين النص الآلهي والفعل البشري في تناول هذا النص.
وهذه بعض الأمثلة في تناول معنى الحكمة ,كما وردت في الموروث .

ابن كثير

وَقَوْله " يُؤْتِي الْحِكْمَة مَنْ يَشَاء " قَالَ عَلِيّ بْن أَبِي طَلْحَة عَنْ اِبْن عَبَّاس يَعْنِي الْمَعْرِفَة بِالْقُرْآنِ نَاسِخه وَمَنْسُوخه وَمُحْكَمه وَمُتَشَابِهه وَمُقَدَّمه وَمُؤَخَّره وَحَلَاله وَحَرَامه وَأَمْثَاله

الطبري


الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى : { يُؤْتِي الْحِكْمَة مَنْ يَشَاء وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ : يُؤْتِي اللَّه الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل مَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده , وَمَنْ يُؤْتَ الْإِصَابَة فِي ذَلِكَ مِنْهُمْ , فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا . وَاخْتَلَفَ أَهْل التَّأْوِيل فِي ذَلِكَ , فَقَالَ بَعْضهمْ : الْحِكْمَة الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه فِي هَذَا الْمَوْضِع هِيَ الْقُرْآن وَالْفِقْه بِهِ

القرطبي
أَيْ يُعْطِيهَا لِمَنْ يَشَاء مِنْ عِبَاده . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي الْحِكْمَة هُنَا , فَقَالَ السُّدِّيّ : هِيَ النُّبُوَّة . اِبْن عَبَّاس : هِيَ الْمَعْرِفَة بِالْقُرْآنِ فِقْهه وَنَسْخه وَمُحْكَمه وَمُتَشَابِهه وَغَرِيبه وَمُقَدَّمه وَمُؤَخَّره . وَقَالَ قَتَادَة وَمُجَاهِد : الْحِكْمَة هِيَ الْفِقْه فِي الْقُرْآن . وَقَالَ مُجَاهِد : الْإِصَابَة فِي الْقَوْل وَالْفِعْل

مما تقدم وهذا رأي شخصي فأني أرجح تفسير الطبري قوله "يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ,ومن يؤتي الإصابة في ذلك منهم ,فقد أوتي خيراً كثيراً" والله أعلم.

أعود إلى سؤالي .هل أولو الألباب هم من الذين أوتوا الحكمة .؟
أولو الألباب هم أصحاب العقول الراجحة ,وهم في هذه الحياة الدنيا كثر. والإنسان العاقل ,هو الإنسان الذي أشتغل على نفسه ,من خلال العلم قراءة وتدبراً ,أو من خلال تجربة الحياة الغنية بالتجارب العملية. فكم من العقلاء مررت بهم وهم من الأميين . وقد كنت أستغرب أن بعض هؤلاء الأميين كانوا بالفعل, والقول ,من الحكماء .لهذا والله أعلم أنه ليس كل عاقل حكيم ,لكن كل حكيم عاقل .

أثناء زيارتي قبل سنوات مضت إلى جنوب السودان الشمالي ,أثناء الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب,و في إحدى القرى النائية ,دعانا أحد الأخوة من أهل المنطقة إلى طعام العشاء في بيته .بكل سرور لبيت دعوته ,وذلك لفضولي الكبير لمعرفته من كثرة ما دار حوله من الكلام الحسن.
بيته كان من البساطة بحيث يشعر الضيف فوراً بالجو الأخوي .مساحة الصالون قدرتها حوالي المائة متر مربع . أغلب الحضور كانوا من أهل القرية الفقراء .أخذنا أماكننا بينهم ,بعض الشباب قدموا لنا مشروب الكركديل البارد.وكان بين الشباب رجل عمره مابين الكهول والشيخوخة .وكان مشمراً عن ساعديه ويقوم بخدمة الضيوف بابتسامة رائعة ووجه يطفح بالرضا والحب . سألت عنه أحد المرافقين لنا في رحلتنا هذه.أخبرني أنه هو صاحب الدعوة وصاحب الدار .ما أن انتهى من خدمة الضيوف ,حتى جلس إلى جانبي مرحباً بأجمل عبارات الترحيب الصادقة ,ودار بيننا الكثير الكثير من الأحاديث ,تنوعت في الدين والسياسة المحلية والعالمية ,حدثني عن الشعر الشعبي .وعن نشاطه العملي والإنساني.صدقاً توقعت أن هذا الإنسان خريج عدة كليات أدبية وعلمية .حدثني عن الزراعة وعن محطات الضخ ,وكيفية عمل المضخات وهكذا .... في النهاية فوجئت بأنه بالكاد يستطيع القراءة والكتابة .يحفظ الكثير من الآيات القرآنية,ويلتزم بالتطبيق العملي لما جاء فيها من معاني .مجلسه اليومي عشرات الفقراء ,يعلمهم ويثقفهم .ويوجههم في حياتهم العملية ,الشباب يعتبرونه من علماء المنطقة .
سألته من أين لك كل هذا العلم وهذه الحكمة ؟,لأن كل كلمة أو جملة ترددها هي بمثابة حكمة رائعة . من أين لك  كل هذا؟.
نظر ألي وقال لي بهدوء ,يا أخي لو كانت الحكمة بالعلم والتجربة في الحياة فقط , لكنت أكثر الناس بعيداً عن الحكمة .
لفت نظري هذا القول الرائع ,وسألته فوراً ....لماذا لم تقل لي ... لكنت أجهل الناس؟
سؤالك في محله يا أخي . قال جملته وغرق في صمت ,ثم رفع رأسه وقال لي .
العلم .....عكسه الجهل.
لكن الحكمة .... لا يمكن أن يكون الجهل عكس الحكمة .
عكس الحكمة .... الجهل ,والغضب ,والتسرع ,والتكبر ,وعدم الصدق في القول والفعل , ...... وأستطيع أن أعدد ألاف الصفات القبيحة التي هي تصح في مقام عكس الحكمة.
سألته : لم تجبني من أين لك كل هذه الحكمة ؟ أجابني ...صدقني لا يد لي في اكتسابها ....هي من عند الله عز وجل.

خرجت من عنده , وشعرت أنه أجابني عن كل أسئلتي التي لطالما حرت في أمرها عن أصل الحكمة . وخاصة قوله: أنها من عند الله. لهذا قال الله تعالى أنه يؤتي ....أي أنه يمنحها لبعض من عباده الذين خصهم بها.
أجمل حكمة سمعتها منه .عندما سألته رأيه بحكم الترابي الذي كان يحكم السودان آنذاك.
نظر إلى وصمت ....دقائق وأنا أنتظر الجواب. سألته ...لم تجبني يا أخي !!!!!
ابتسم وأردف قائلاً حكمته الرائعة "الصمت أحياناً أقوى من الكلام"
كُثر هم الذين مروا في حياتي .رجال علم ,ومنصب.يحملون شهادات متعددة في اختصاصات متنوعة .علماء وذوي كفاءات عملية في مواقعهم .وحتى على موقعنا هذا  من أمثال هؤلاء .أخوة أعزاء ....لكن سبحان الواهب ينقصهم الحكمة في القول والكتابة.

اجمالي القراءات 28656