حضرة جناب العمده

فوزى فراج في الأحد ٠٥ - نوفمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً

قرأت فى الجرائد المصريه فى الايام السابقه , ان وزير الداخليه قد اصدر الامر (بتعيين) عددا من العمد ( جمع عمدة), ولما كنت متخلفا فى معلوماتى السياسه عن مصر بسبب غيابى عنها لعده احقاب, وكانت معلوماتى التى عفا عليها الزمن, ان العمده يتم انتخابه من قبل هؤلاء الذين سوف يكونون تحت عموديته ان صحت هذه الكلمه, فقد تعجبت, وسألت البعض, فقيل لى ان النظام قد تغير منذ سنوات طويله, وان العمد يتم تعيينهم من قبل وزير الداخليه, وعندما سألت عن الأسباب التى ادت الى هذا التغيير, لم اصل الى نتيجه مقنعه, واعتبرت ان هذا القرار شأنه فى ذلك شأن الاف القرارات العشوائيه التى تتخمر عن اذهان لايعلم مدى علمها أوجهلها الا الله و لايعلم اسبابها الا الله, اما الشعب , فليس من المهم ان بعرف السبب الذى من اجله يصدر القرار, اى قرار, وعليه ان يعيش ويحمد الله سبحانه وتعالى انه لازال يعيش.

وقد حاولت ان ابحث فى الانترنيت عن اسباب الغاء الانتخابات ولم يساعدنى الحظ ان اجد جوابا على ذلك, ثم حاولت البحث لأجد مثلا
,
ما هى الشروط المطلوبه التى يجب ان تتوافر فى العمده لكى يتم اختياره, فلم اجد ذلك ايضا, وحاولت ان اجد موقعا لوزارة الداخليه المصريه لعلى اجد الاجابه على تساؤلاتى, فوجدت موقعا "بدائيا" لايليق بشركة حتى من الدرجه العاشره فما بالك بوزارة الخارجيه المصريه, وحاولت البحث به لعلى اجد بعض المعلومات عن الشروط او الأليات التى تتخذ من كلا الجانبين ,اى الشخص الذى يود ان يكون عمدة ووزارة الداخليه المسؤله عن ( توظيفه) حيث انها وظيفه يرأسها وزير الداخليه نفسه, اليس هو الذى يصدر القرارات بالتعيين, و بعد ان استهلكت جهدا ووقتا كافيا, لم أجد بالموقع اى اشاره الى هذا الموضوع, بل لم احد بالبحث عن كلمة عمدة ان الكلمة نفسها موجودة بأى تركيب على الموقع, سواء عمده, عمدة , او العموديه, او العمودية ........الخ

لم يكن انتخاب العمده على ايامنا يجرى بطريقة "انتخابية واعيه", لم يكن مرشحى المنصب يخرجون فى حمله دعائيه او يعلنون عن برنامج انتخابى محدد مثل ان يقول المرشح , اذا انتحبتمونى فسوف اوفر لكم السماد والتقاوى بأسعار ارخص من القري الاخرى او اننى سأجعل مياه الرى متوافرة لكم طوال العام او ان سيكون لكل منكم الحق فى زراعة ارضه بالمحصول الذى يروق له بصرف النظر عن ما تأمر به الحكومه او ان الجمعيات التعاونيه
الزراعية
سوف تتعامل معكم بأمانه وسوف تصرف لكم مستحقاتكم خلال ايام من توريدكم للمحاصبل......الخ من الوعود التى قد ( تجرى ريق) الفلاحيين الناخبين, لم يحدث اى من هذا, فى الحقيقه لم يكن هناك اى اعلانات او ملصقات او اى ميكروفانات ولقاءات او مساجلات بين المرشحين, ولكن كانت المسأله  تبدأ بكلمه يتبادلها المرشح مع اقاربه, الذين هم بدورهم يتبادلونها مع اقاربهم وجيرانهم ومعارفهم , وبالطبع يقوم المرشح بعمل عدد من العزومات ويذبح ذبيحه وتطلع الصوانى محمله بالاكل على "الدوار" وتبقى حفله كبيره , كلما كبرت الحفله وتعددت الوان الطعام والشراب كلما اعتبر المرشح اقوى من الاخر, يجدر ان نقول ان المسأله لم تكن اطلاقا مسأله كفاءه المرشح او ثقافه المرشح اوسن المرشح او خبرة المرشح او اى شيئ اخر يمكن لحضرات القراء التفكير فيه , ولكن اهم شيئ يتحدث به الجميع هو من اى عائله يكون ذلك المرشح.

كان من الاشياء
التقليديه
المعروفه عادة ان تجرى الانتخابات بين مرشحين اثنين فى معظم الحالات وهم كبيرى اكبر عائلتين فى القريه, ومن النادر ان يدخل ثالث لهما فأن تتحدى كبير احدى العائلتين فتعتبر تلك اهانه لاتغتفر.

ولم تخلو اى من تلك الانتخابات من المظاهر المسرحيه التى يتحدث عنها الناس عادة لشهور طويله بعد الانتخاب, ولم تخلو من العنف والاشتباكات الصوتيه واليدويه وفى بعض الأحيان اطلاق الرصاص فى الهواء كعمليه من عمليات ارهاب الطرف الاخر. وتنتهى الانتخابات ويعلن فوز احد المرشحين, وسط موجات الإعتراض والاتهامات بالتزوير وخلافه, ورغم كل ذلك لم تتغير نتيجه الإنتخابات مرة واحده , ومن يفوز يصبح العمده, وخلال ايام او اسابيع
او شهور
, تعقد لقاءات الصلح و يتدخل ( اولاد الحلال) والصلح خير وعزومه هنا وعزومه هناك, وتعود الامور الى مجاريها حتى تقترب الانتخابات التاليه لمنصب العمده لتتكرر القصة.

كانت من اهم الاشياء ومن مظاهر القوه التى يتمتع بها
جناب العمده هى تركيب التليفون فى دوار العمده, والتليفون فى تلك الايام , قبل المحمول والآلى واللاسلكى , قبل كل ذلك, كان التليفون عباره عن صندوق اسود, وحاشا لله ان يكون غير ذ لك اللون, ولم يكن به قرص للأرقام بل بد صغيره تدير قرصا داخليا لطلب عامل السنترال فى المركز, الذى يتحكم فى جميع خطوط المركز, ويعرف جيدا كل العمد فى جميع القرى التابعه لذلك المركز, وهو الذى يوصلهم ببعضهم ويوصلهم الى السيد مأمور المركز والى المديريه أوالمحافظه نفسها
ان كان هناك امر جلل يستحق ذلك لاقدر الله. كان ذلك قبل ان يتغير نظام عامل السنترال الى سنترال آلى وتغيير جهاز التليفون الى تليفون اكثر تقدما به قرص الارقام لتيسير الاتصال المباشر.

ودوار
جناب العمده كان دائما مشغولا بل من المستحيل ان تجده خاليا الا فى حالة اغلاقه بعد السهرة, فدائما هناك حضرة جناب العمده او شيخ الغفر على الأقل فى حالة غياب جناب العنده, وهناك الكثير من الرفاق والاصدقاء والاقارب , مجتمعين اما فى مجموعة واحده وفى نقاش واحد او احيانا فى مجموعات كل منها فى نقاش مختلف سواء عن السياسه او الرى او المحاصيل او ابن مين اتجوز بنت مين.... الخ, وقد ينقطع النقاش عندما يحضر شيخ الغفر بعضا من الناس الذين اشتبكوا بعضهم البعض الى حضرة جناب العمده ليحل المشكله, وعندما يحدث ذلك, ترى الكل وقد اطبق الصمت عليهم وصوبت النظرات الى حيث يجلس حضرة جناب العمده وكأننا فى قاعة المحكمه, وامامه المتشاكلين وهو يعطى الاذن لواحد منهم بالكلام ثم الاخر, وبالطبع يختلف ذلك المشهد من عمده الى الاخر كما يختلف من حيث مستوى االمشكله وتعقيدها , وينتهى الامر فى معظم الحالات بتعنيف من يقع عليه اللوم ,ثم يصدر حضرة جناب العمده حكمه وهو نهائى لايخضع لأى استئناف. اما الموقف الثانى الذى يستوجب ان يلوذ فيه الجميع بالصمت فهو عندما يدق جرس التليفون, ويلتقط حضرة جناب العمده السماعه ليقول الكلمه العالميه, ألـــــوه , ولا اعرف كيف اصبحت تلك الكلمه من الكلمات الموحده بالإجماع فى الرد على التليفون, الـــــــوه , وقد تتغير كل المناقشات التى كانت تدور بعد ان تنتهى مكالمة حضرة جناب
العمده الى موضوع المكالمه نفسها وتتابعاتها وكيف قد تؤثر فى حياه الجميع فى تلك القريه.

يبدو اننى شردت فى افكارى الى الماضى البعيد لأكثر من نصف قرن, واعود الى مسأله اختيار العمده التى بدأت بها, لقد كان العمده كما قلت ينتخب, وان كانت الإنتخابات من قبل ليست مثاليه كما شرحت, ولكنها كانت على الاقل ترتدى ثيابا دستوريه ولربما بإزدياد
ونضوج الوعى الانتخابى والسياسى لأصبحت من مظاهر الديموقراطيه الحقه, ولعلنا لا ننسى ان الانتخابات فى مصر حتى الانتخابات الاخيرة لرئاسة الدوله لم تكن تختلف كثيرا عما وصفته مسبقا من طريقة انتخاب العمده . اذن ما هى الحكمه فى الغاء انتخابات العمد ؟. وهل يقوم وزير الداخليه مثلا بإجراء لقاءات مع من يمنحهم الوظيفه للتحقق من كفاءاتهم قبل منحهم تلك الوظيفه. ام ان الاختيار يتم لمن لديهم واسطه لدى الوزير, وهل يتم تقييم هؤلاء العمد دوريا لمعرفه ان كان اداؤهم مقبولا ام لا وهل هم ملتزمون بشروط الوظيفه, ومن ذا الذى يقيم اداءهم ان كان هناك تقييما . وماذا يفعل السيد وزير الداخليه ان ثبت له ان احدهم لايستحق تلك الوظيفه, ولمن يوجه اللوم على اختيارهو هل يوجهه لنفسه علنا.


والعمده مثله فى ذلك مثل المحافظ وان كان على حيزونطاق صغير, فلماذا يتم تعيين المحافظ بدلا من انتخابه, حيث يقوم رئيس الجمهوريه بتعيين المحافظ , وتعيين الوزراء ورئيس الوزاره , وتعيين رؤساء المؤسسات الصحفيه و و و و بإختصار, بقوم رجل واحد بتعيين كل المسؤلين , رجل واحد ينتظر منه ان يعرف كل شيئ عن كل شيئ , رجل واحد بيده كل مقاليد الامور, فماذا يحدث عندما يخطئ سيادته فى اختياره, من يكون مسؤلا عن ذلك
الخطأ, ولربما يكون من نتيجة ذلك الخطأ خسائرا لا حد لها سواء حسائرا ماليه او حتى خسائرا فى الارواح, من يحاسبه على ذلك, بل من ذا الذى يمكن ان يقول ان سوء اختياره هو السبب. بل الأدهى من ذلك وأمر هو من ذا الذى يستطيع ان يقول ان "الأمور ليست على مايرام", اما ان ساءت الامور الى درجة تقتضى التغيير,  فدائما يوجه اللوم الى المسؤل ولكن من سابع المستحيلات ان يوجه اللوم الى من اختاره ووضعه فى هذا المركز, بل من النادر او المستحيل ان يدفع احد المسؤلين الثمن مهما كبر حجم أخطائه.

رجل واحد يفترض فيه انه "مثالى" فى كل شيئ , انه منزه ومعصوم من الخطأ, انه لايأتيه الباطل من بين بديه او حتى من بين رجليه, رجل واحد لايسأل ولايناقش ولايحاسب, من اين له بتلك السلطه
اللامحدوده,
ومن الذى اعطاه اياها. اهو الله الذى يستمد سلطاته منه؟
كيف للشعب ان يرى كل ذلك وان يدير وجهه الى الجانب الاخر, لعله الشعب الذى لازال حتى يومنا هذا يظن ان فرعون كان الها وانه لا يخطئ ولازال يخر له
ساجدا وعابدا !!!!!!

اجمالي القراءات 15658