طز فينا جميعا!

محمد عبد المجيد في الجمعة ١٠ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أوسلو في 10 ابريل 2009

طرحتُ من قبل سؤالاً عنْ الحدِّ الأقصىَ الذي يمكن أنْ يفعله مباركٌ بالمصريين حتى يستثير نخوةَ الغضبِ فيهم!

ثم اكتشفت أنَّ الغضبَ دفاعاً عن العِرْضِ والشرفِ والكرامةِ ولقمةِ العيشِ يمكن أنْ يحرك الحيوانات والجيفةَ والموتىَ والجمادَ وأكثرَ القبائلِ تخَلّفاً في مجاهل أفريقيا أو غابات الأمازون، لكنه يقف عند الحدودِ المصريةِ ولا يتخطاها!

وعندما وافق مبارك علىَ طلبِ الاسرائيليين بضربِ حُدودِ بلادِِه، وباختراق المجال الجوّي لمطاردة أعدائهم، كان يعلم أنه لو طلب من إسرائيلَ ضربَ جيشه فلن يغضب جنرالٌ مصريٌّ واحدٌ من أبطالِ العبور لأنَّ روحَ أكتوبر هَرَبَتْ واستبدل بها مباركٌ فيلاتٍ وامتيازاتٍ وأموالا ومعيشةً رغداً، ووضع أمام قادةِ جيشه العصا والجزرة .. معاًّ!

كانت رسالة المصريين إلىَ شبابِ 6 ابريل صريحةً وواضحة: أيها الشباب المتهوّر الطائش، لماذا تحبون بلدَكم، وتعشقون ترابَها، وتطالبون بتغييرِ طاغيتها، وتبحثون عن الطهارةِ في وطنٍ هربت منه الملائكةُ منذ وقتٍ طويل؟

أغلب الظن أنَّ مبارك استدعى ابنه مساء ذلك اليوم وأسمعه كلماتٍ تقطر ثقةً وعنجهية وغطرسة وطاووسية: ألم أقل لك من قبل بأنك لو استوردت ملايين من العصى، وأمرت بوضعها في مؤخرات شعب أم الحضارات لما صاح غضباً واحتجاجاً من ثمانين مليونا إلا عدة مئات يتولى رجالُ الأمن التعاملَ معهم في الميادين العامة؟

أشعر بغثيان وغضبٍ وقرَفٍ وحُزنٍ لو نزلَ علىَ جَبَلٍ لتصَدّع وتطاير هباءً منثورا!

طز فينا جميعا فنحن لا نستحق العيشَ فوق سطحِ الأرض، ولا نستحق الدفـنَ تحتها، وكم وددت بعد خيانة المصريين في 6 ابريل أنْ يعود ممدوح إسماعيل، ويشتري عبّارات تسع ثمانين مليوناً ويمخر بها عُباب البحرِ الأحمر، ثم يثقبها، وأنا على يقين من أنَّ الذين لن يتعرض لهم سمكُ القرش سيمتنعون عن التظاهر والغضبِ والاحتجاج!

طز في كل المعارضين، وأنا منهم، وفي كل من شهد عصرَ مبارك.

طز في الصحف القوميةِ والوطنيةِ والمعارِضةِ والفضائيات ونقابات الصحفيين والأطباء والمهندسين والعمال ...

طز في كل الجامعات المصرية ورؤسائها وعمدائها وأساتذتها ومدرجاتها وطلابها وكتبها وملازمها..

طز في رجال الدين الاسلامي ورجال الدين المسيحي والمثقفين والمفكرين والقضاة والمحامين والدستورِ الذي يحمي الوطنَ والمواطنَ، والشرطة التي تحمي المواطن..

طز في الأزهر الشريف، وفي الإخوان المسلمين ومرشدِهم العام، وفي الأقباط، وفي اللادينيين ..

طز في الحزب الوطني الحاكم، والناصري، والوفد، والتجمع، والكرامة، والعمل، والغد، وكل الميني أحزاب الأخرى، وكل أعضائها وقياداتها والمؤيدين لهم ومعارضيهم!

طز في معرض الكتاب، وفي كل أنواع الثقافات ومكتبة الاسكندرية ودور النشر والمطابع، وفي الأدباء والشعراء والمصلحين ..

طز في كل رجال الدين الذين يظهرون على الفضائيات ويحدثوننا عن الحجاب والنقابِ واللحيّة وأخلاق الصحابةِ ما لم يربطوها بالثورة والتمَرُّدِ والغضبِ والاحتجاج والمظاهراتِ ورفض طاعة الطاغية وكل رجاله ..

طز في جيش مصر البطل، وفي كل قادته الكبار والصغار، وفي الثكنات العسكرية، وفي الأسلحة والتدريب والمدارس الحربية، وفي النياشين وأنواط الشجاعة والأوسمة، مالم تكن تلك الشجاعة مواجهة الطاغية، والخروج عليه، ورفض أوامره، وعصيان توجيهاته...

طز في أجهزة الأمن وشعار الشرطة في خدمة المواطن أو الشعب، فكلها في خدمة رجلٍ واحدٍ يطعمها وتفترس خصومَه، يخيفها فتغتصب أعداءَه، يتوعدها فتهدد الشعبَ، يسيطر عليها فتعبده من دون الله ..

طز في كل مسلم وقبطي يصلي لله ولا يغضب لكرامته، يخاف من الأمن أكثر من خشيته الله، عز وجل ..

طز في كل مَنْ حَجَّ البيتَ الحرامَ أو بيت لحم، أو زار المسجدَ الأقصىَ أو كنيسةَ القيامة، فهو لن يعود كما ولدته أمه فالتوبة مقرونة بالغضبِ والتظاهر والخروج أفراداً وجماعات ضد الحاكم دفاعاً عن روح الله فيه ...

طز في كل من تخلى عن شباب 6 ابريل وقال بأنهم طائشون ومتهورون وفاشلون وحمقى ومخرّبون، فهم أولاد وبنات المصريين الذين خانهم وتخلى عنهم وعرّىَ ظهورَهم وباعهم آباؤهم وأمهاتهم وأعمامُهم وأخوالهم وأحبابُهم ومعلموهم وأساتذتهم وآباؤهم الروحيون في المسجد والكنيسة ..

طز في كبار رجال الدولة من الطاغية مبارك وابنه إلى مجلس الشورى ومجلس الشعب وكل من أمسك القلم أو ظهر في التلفزيون ..

كتبت من قبل مقالا قلت فيه بأنَّ اللهَ لن يقبل من المصريين صلواتهم، أما الآن فأقول بأنَّ اللهَ لن يغفر يوم القيامةِ لمصريٍّ عاش عهد مبارك ولم يتمَرَّد ويغضب وينضم إلىَ أيّ حركة، سريةٍ أو جهريةٍ، لقلبِ نظام الحكم الفاجر والفاسد والعفن والنتن...

طز في كلِ مصري لا يزال جهازُهُ العصبيُّ يعمل بكامل قوته!

طز في الفضائية المصرية والأرضيات، وفي ( البيت بيتك) و ( صباح الخير يا مصر ) و ( العاشرة مساءً ) و ( القاهرة اليوم )، ضيوفاً ومُقدّمي برامج ومهندسي صوتٍ وضوءٍ وديكور ...

طز في كل مصري يقول بأنَّ الوقتَ لمْ يَحِنْ للتغيير، وأنَّ البديلَ لمبارك هو الجحيم، وأنَّ الشعبَ غيرُ مهيأٍ لمرحلةٍ جديدة، وأنَّ التغييرات ينبغي أنْ تتوسع مِنْ القاعدة فتأتي نتائجُها الايجابية ولو بعد عدة قرون، فهؤلاء جهاز حماية الطاغية ولو كانوا في الظاهر منحازين للشعب..

طز في كل العاطلين عن العملِ الذين لم يغضبوا، ولم يخرجوا مطالِبين برأس مبارك رغم أنهم لا يجدون قوت يومهم..

طز في الكتبِ المدرسيةِ والجامعيةِ وفي الفنون السينمائيةِ والمسرحيةِ وفي كل الفنانين والمخرجين وكاتبي السيناريو ...

طز في كل ناصحٍ للاخلاق القويمةِ والحميدة، وفي دُعاة التديّن والاصلاح والصدق والصلاة والصوم ما لم يربطوها بكرامة العيش والحرية وازاحة الطاغية وايقاف صور المهانة ومطاردة أي رجل أمن وأسرته وأهله وأحبابه إذا ثبَتَ أنه عذّب مواطناً أو انتهك حُرّمَته وشرَفه وعفته...

كانوا يقولون لماذا لا يعود المعارضون المصريون من الخارج وينضموا إليهم، فلما جاءهم النداءُ من الداخل وَلوّا مدبِرين، بل كانوا على مبعدة أمتار معدودة من الغاضبين الشباب، فكانوا ينظرون إليهم كأنهم قردة في حديقة الحيوانات يقفزون ويلعبون ..

لو أنَّ ما فعله مبارك بشعبنا المصري فعل مثله مع قطيع من الماشية أو جثث متعفنة أو مع حشرات لثارت، وغضبت، واطاحت به وبابنه وبكل من يدعمه!

طز في كل من يذهب إلى عمله أو مدرسته أو جامعته، وفي كل من يجلس في البيت أو يذهب إلى المقهى أو السينما ولم يغضب بعد ..

طز في كل من يقوم لصلاة الفجر، ويصلى ساعتين أو أكثر، ولم تجعله صلاته غاضباً علىَ مبارك وناقماً على حُكمه، وداعياً إلى الخروج ومطاردة الذين جعلوا قفاه يتورّم من أيديهم القذرة.

طز في كل من يبحث عن حُجّة أو عُـذر أو تحليلٍ أو تبرير لتأخيـر غضبِ المصرييـن سبعة وعشرين عاما.

طز في كل مـن يكذب على الله، ويستخرج من الديـن أوامرَ أو توّجيهات في طاعةِ الطاغية أو الحاكم الظالم أو المستبد، فطاعة مبارك لا تختلف كثيرا عن عبادة الشيطان!

طز في كل من لا يطارد الأرقُ جفونَه، ومن ينام هادئاً، ومن ينتظر حتى يأتي أمرُ الله، فأمرُ اللهِ أتىَ للمصرييـن مراتٍ كثيرةً ورفضوه!

حُجّة يملكها إبليس تعادل كل انتصاراته على قوى الخيـر في تاريخ علاقته ببني آدَم، وسيقول لرب العزةِ يوم القيامة بأنَّ أسهلَ معاركِه كانت في مصر خلال حُكم مبارك، بل انحاز المصريون للشيطان ضد الله رغم ادّعائهم الكاذب أنهم الأكثر تمَسُّكا بالدين من بيـن كل شعوب العالم.

طز في كل من يقرأ مقالي هذا ولم يحترق جهازه العصبي أو يختنق صدره أو ينظر إلىَ المرآة ويحتقر نفسَه، أو يبصق على كل القيم التي تعلمها ما لم تكن منها حالة الغضب عما يحدث في بلده.

طز في الصحافة الورقية والإلكترونية والمنتديات والمواقع والعِلْم والتقدم والإنترنيت وكل أنواع المعرفة التي لم تحَرّك المصري شبراً واحداً ناحية الغضب على من أنكروا كرامَته وشرَفه وقيمَته وإنسانيته وخلافته في الأرض.

طز في كل مصري يبتسم لضابط شرطة أو يصافحه أو يُلقي التحية على عسكري أمن.

طز في نزاهةِ القضاءِ المصري المزعومةِ فهي قد ترفع قيم الخير والعدل للدفاع عن المصريين لكنها لا تناهض أكبر مجرمي العصر فهو رئيس القضاء الأعلى ولا تحتج عندما يصدر حكم البراءة، فتعيد وزارة الداخلية البريءَ إلى السجن وتبصق على ميزان العدالةِ الذي ضربه بالحذاءِ ضابط الأمن أمام عشرين ألف قاضٍ فبلعوا كرامتهم وباعوا أولادهم من شباب الطهارة المصرية الذين حضروا أمام ناديهم للدفاع عنهم.

طز في كل مصري له قريب تم اغتصابه أو انتهاك شرفِه أو تعليقه في سقف مكتب المأمور أو تورّم قفاه أو التهب ظهره، ولم يذهب إلى بيت الضابط ليهدد أسرته وأولاده أنه سينتقم، وسيدفعون ثمن ما يقوم به رب الأسرة.

طز في كل مصري أصابه عهد مبارك بمرض وبائي أو عضال أو سرطان مزروعات أو سرق اللصوص كليته في المستشفى ( الاحصائية تقول بأن 800 طبيب مصري يقومون بنقل أعضاء من أجساد المصريين الفقراء إلى أجساد ناهبي خيرات الشعب ) أو لا يجد ثمن دواءٍ لابنتِه أو لا يستطيع دفعَ نفقاتِ عمليةٍ جراحيةٍ لابنِه، ولم يخرج ليُحيلَ حياة الطاغيةِ إلى جَحيم.

كل القوى الوطنية أرسلت قبل 6 ابريل رسالتين: الأولى لشباب 6 ابريل الطيب العاشق لوطنه أنهم معه، والثانية للطاغية المجرم مبارك أنَّ غضبهم محدود وجزئي ولن يؤثر في عرشه وقصره ووريثه.

عندما يخاف ضابط الأمن من انتقام المواطن المصري منه لدى عودته إلى البيت أو في أي مكان يتربص به، فهنا تعود الكرامة المسلوبة للمواطن، وسيتردد الضابط سبعين مَرّة قبل أنْ يُعذب مواطناً أو يتحرش بابنتِه أو يطلب مـن مخبـر جلفٍ افتراسَ عِفته وادخال العصا في دُبـره ( لعلنا نتذكـر الضابط الذي طلب مـن مواطـن مصري أمام ابنته أنْ يلعق عضوَه الذكري!).

نصف مليون من أتباع الدكتور أيمن نور غضب منهم أقل من ثلاثين شخصاً!

عدة ملايين من الإخوان المسلمين، أكثر مرّوا علىَ سجون مبارك خلال فتـرة حُكمه، لكنهم يروّن أنَّ الغضبَ يُحدده المرشدُ العام وليست الكرامة التي علمهم إياها الإسلام الحنيف!

أعيد طرحَ السؤالِ: ما الذي يمكـن أنْ يقوم به مبارك حتى يستثيـر غضبَ المصريين ومشاعرَ الكرامةِ والانسانية والشرف والشجاعة لديهم؟

لم ينفع المصريين إيمانهم أو كتبُهم المقدسة أو أنبياؤهم أو مصلحوهم أو ثوّارُهم أو صلواتهم أو مساجدُهم أو كنائسُهم أو شيوخهم أو قساوسَتهم أو كل القيم التي تعلموها في أنْ يغضبوا مرة واحدة كخلق الله كلهم .. كشعوب الأرض المتحضرة والبدائية، الغنية والفقيرة!

في مصر يمكنك أنْ تطالب بالتفافِ حبل المشنقةِ حَوْل رقبةِ أستاذٍ جامعي وضع كتاباً ناقش فيه البخاري أو ابـنَ مسعود أو ابنَ عباس، لكنك تصمت صَمْتَ الحملان عـن ضابطِ أمنٍ طلب من مواطن أنْ لا يقاوم كلبا مفترسا مُدربا على نهش اللحوم!

في مصر ينتفض المصري ذعرا من عذاب القبر الذي ينتظر فتاة لم تضع غطاءً على شعـر رأسها، وهذا المصري نفسُه لا تتحرك عضلة واحدة في وجهه، ولو علىَ استحياءٍ، عندما يرى ويسمع عن ابـن بلدِه الذي ربطوا جهازَه التناسلي بسلك كهربائي وهددوه أنْ يدخلوا عصا غليظة في مؤخرة والده المُسِنّ ومثله الأعلى!

أيها المصريون،

طز فينا جميعا، وفي كتاباتي لأكثر من عشرين عاماً عن المجرم حسني مبارك ونظامه القذر.. فهي لم تحرك شعـرة واحدة من موضعها!

معذرة لكل أحبابي وأصحابي ومعارفي وأهلي فهذه الطـز الكبيرة لا تستثني أحداً !

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو النرويج

Taeralshmal@gmail.com













اجمالي القراءات 12956