ولعل الصراع السياسى- الدينى الذى نشأ فى السنة الأربعين للهجرة، كان أول
ماذا بعد الفتنة الكبرى

محمد صادق في الأربعاء ٠٨ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

ماذا بعد الفتنة الكبرى

 

من الحقائق الثابتة أن المسلمين قد واجهوا فى مسيرتهم الطويلة، ازمات عديدة، تمثلت فى فتن وصراعات أفرزت ولا تزال تفرز حتى يومنا هذا، كثيرا من الخلافات والتناقضات التى تنهك قوتهم وتشتت شملهم.

ولعل الصراع السياسى- الدينى الذى نشأ فى السنة الأربعين للهجرة، كان أول فتنة، تنازع فيها المسلمون وتفرقوا شيعا وأحزابا، فكان الإنتصار للمذاهب منذ أول الأمر أهم الأسباب إلى إختلاق الأحاديث المنسوبة إلى الرسول وإستثمار الدين فى تغذية النزاهات الطائفية والمذهبية بهدف الإستئثار بالزعامة السياسية على المسلمين.

ولقد دأب أصحاب الأهواء فى مختلف العصور على الإفتراء على رسول اللــه حتى قال عبد اللــه بن يزيد المقرئ: " إن رجلا من أهل البدع رجع عن بدعته فجعل يقول" أنظروا هذا الحديث عمن تأخذونه، فإنا كنا إذا رأينا رأيا جعلنا له حديثا ."

ومن أصحاب الأهواء أولئك الفقهاء الذين كانوا يتصدون للدفاع عن مذاهبهم زورا وبهتانا، فيشحنون كتبهم بالأحاديث الموضوعة سواء إختلقوها بأنفسهم أم إختلقها الوضَّاعون خدمة لهم وتأيدا لهواهم.

وأدهى من ذلك وأمر ما يضعه بعض علماء السلطة فى كل جيل تقربا إلى الطبقة الحاكمة، وكسبا للحظوة عندها. لكن الغريب حقا أن بعض الزهاد والمتصوفين طوعت لهم أنفسهم وضع الأحاديث على رسول اللــه، أو تفسير آيات  القرءآن تفسيرات تتلائم مع ثقافاتهم المنحازة والمتأثرة بالتيارات المذهبية المتعددة.

على أن إشتغال هؤلاء بالعبادة، وإشتهارهم بالزهد والعفة، يحمل الكثير من المسلمين على إغترار بما يختلقونه، فالخطر الذى يشكلونه على المسلمين من هذا الناحية أشد هوْلاً من أى خطر آخر. ولقد شوهوا بجهلهم وجه الإسلام، وأدخلوا فىتعاليمه ما ليس منه، الأمر الذى أدى إلى تمسك أتباعهم من المسلمين بالقشور والإبتعاد عن جوهر الدين. كما أدى إلى الجمود الفكرى والإنحطاط، بعد أن توقفوا عن التفكير والإجتهاد ظنا منهم أنه لا زيادة لمستزيد بعد هذا الذى تركه المفسرون والمجتهدون الأوائل.

 

ولم يكن مختلقوا الأحاديث النبوية، أو المتعرضون لآيات القرءآن الكريم بالإجتهادات السطحية والتفاسير المتسرعة، وحدهم المفترين على الإسلام، لكن سلوك المترفين من المسلمين ذوى الشأن، من ملوك وخلفاء وأمراء فى التاريخ القديم والحديث، كان سببا فى إتهام الإسلام الحق بأنه دين الجوارى والحريم تارة، ودين الترف والبذخ والإستغلال والإستعباد تارة أخرى. مما أدى غلى إرتداد الكثيرين عن الإسلام، وإقبالهم على ما شاع من مبادئ الغرب ومعتقداته وفى ظنهم أنها أساس التقدم والتطور والرقى. وأن الإسلام هو دين التخلف والجمود والإنزواء.

 

تعرضت تعاليم الإسلام بعد وفاة الرسول محمد-عليه السلام- لتفسيرات مختلفة تحمل فى واقع الأمر رؤية المفسرين وفهمهم لآيات القرءآن الكريم. ولم يألُ اليهود الذين إندسوا فى مجتمعات المسلمين جهدا من تغذية تلك التفسيرات بالإسرائيليات البعيدة عن المفهوم الحقيقي للإسلام. وكان لظهور الفرق الإسلامية إثر الفتنة الكبرى دور لا يستهان به فى ما آل إليه حال المسلمين، إذ أخذت كل فرقة تفسر القرءآن بما يخدم رؤيتها ومصالحها وأهدافها، بل أمعنت كل واحدة فى إختلاق أحاديث نسبوها إلى النبى، وذلك من أجل تدعيم وجهة نظرها فى صراعها ضد الفرق والمذاهب الإسلامية الأخرى.

 

وكان من الطبيعى أن يؤدى كل ذلك إلى أن يختلط الأمر عند المسلمين، فإبتعدوا عن الينبوع وتمسكوا بالقشور وصاروا أسرى كتب الشروح وتفاسيرها، يقدسون المذاهب وأئمتها ويغالون فى تنزيه الأولياء وآرائهم من دون تبصر وفهم. وبدل أن يعرضوا القضايا والأمور ، قديمها وحديثها على القرءآن فيأخذوا ما وافق القرءآن ويرفضون ما خالفه، تهاونوا وتركوا الأمور تجرى لتتفاقم. فلم يدرسوا القرءآن الكريم دراسة واعية، ولم ينظروا فى معانى آياته نظرة إجتهادية فاحصة متدبرة يواكبوا من خلالها التقدم العلمى وما وصل إليه العقل الإنسانى، ويقدموا المعالجات العلمية والموضوعية والإنسانية لمشكلات الإنسان وقضايه المعاصرة ويقوموا بدور التوجيه نحو الأفضل، فبقيت دراسة القرءآن الكريم رهنا وحكرا على فئة خاصة من العلماء، مما أدى إلى الجمود فى تاريخ الفكر الإسلامى الإجتهادى.

 

ومن جراء ذلك الجمود، ومنذ بداية الصراع (الفتنة) إستفادت فرق وفئات فى تجيير هذا الصراع لمصالحها من دون إكتراث لمصلحة المسلمين. فكان لا بد من وقفة شجاعة وهزة عنيفة وغربلة لا هوادة فيها لنسف الأضاليل التى تركتها الإسرئيليات والمفاهيم الخاطئة التى علقت بالإسلام زورا.

فكانت هذه الوقفة الشجاعة والغربلة التى لا هوادة فيها، جاءت على يد مجموعة من المؤمنين باللــه واليوم الآخر والتى تؤمن بالقرءآن المصدر الوحيد والإيمان بمحمد رسولا ونبيا وخاتم النبيين وبجميع الأنبياء والرسل والكتب السماوية، والذى أطلق عليهم مخالفيهم من الفرق والمذاهب الدنيوية " أهل القرءآن " ويا له من إسم نفتخر به ولا نتحرج من ترديده فى كل لحظة وفى كل مناسبة.

 

ليس فى الوجود شريعة ثابتة يمكن للفرد أن يطمئن فى ظلها على حياته وحقوقه وواجباته سوى الدين الصحيح أو العرف، لأن الدين لا يمكن أن يكون محل تغيير أو تبديل أو إلغاء أو حذف من قبل أى حاكم أو حكومة وأداة سلطة كما يحدث للدساتير والقوانين الوضعية التى تتغير وتتبدل بتغير الحكومات وأدوات السلطة. ويعود ذلك إلى كون الدساتير والقوانين تُعبر وفى واقع الأمر عن رؤية أداة الحكم ومصالحها سواء كانت هذه الأداة فردا أم طبقة، حزبا أم قبيلة....الخ.

ولما كانت رؤية أدوات الحكم ومصالحها وأمزجتها مختلفة فإن الدساتير والقوانين تتغير بتغيرها. ولا شك أن هذا هو الخطر المحدق بالحرية الكامن فى فقدان الشريعة الحقيقية للمجتمع الإنسانى، لأنها حلت محلها تشريعات وضعية وفق الأسلوب الذى ترغبه أداة الحكم هو الذى يجب أن يتكيف وفقا لشريعة المجتمع وليس العكس.

 

شريعة المجتمع ليست محل صياغة وتأليف، وتكمن أهمية الشريعة فى كونها الفيصل لمعرفة الحق والباطل، والخطأ والصواب وحقوق الأفراد وواجباتهم، ذلك أن الحرية تبقى مهددة ما لم يكن للمجتمع شريعة مقدسة ذات أحكام ثابتة غير قابلة للتغيير والتبديل بواسطة أى أداة من أدوات الحكم، بل أداة الحكم هى الملزمة بإتباع شريعة المجتمع.

إن الشريعة المقدسة ذات الأحكام الثابتة التى تصلح وحدها أن تكون شريعة للمجتمع، هى الدين أو العرف أو الإثنان معا، والدين ، كما هو موضح فى القرءآن الكريم إحتواء للعرف. والعرف تعبير عن الحياة الطبيعية للشعوب. فالدين المحتوى على العرف تأكيد للقانون الطبيعى، ذلك أن الشرائع غير الدينية وغير العرفية فى آن، هى ابتداع من إنسان ضد إنسان آخر، وهى بالتالى باطلة، لأنها فاقدة للمصدر الطبيعى الذى هو العرف والدين.

 

ولما كان الإسلام هو الدين الذى إرتضاه رب العباد لعباده، ولما كان الدين الإسلامى هو ما جاء به القرءآن الكريم، فإنه من الطبيعى أن يكون القرءآن وحده مصدر التشريع، لأنه شريعة ثابتة مقدسة غير قابلة للحذف أو التغيير أو التبديل كالدساتير الوضعية. ولكن قد يقول قائل إن القرءآن الكريم لا نجد فيه أحكاما لقضايا المجتمعات الإنسناية المعاصرة ومشاكلها، ذلك أن معظم آياته الكريمة تتحدث عن أشياء دينية بحتة، كالإيمان باللــه وبوجوده ووحدانيته، والإيما بالبعث والحساب والعقاب والجنة والنار، والإيمان بوجود الملائكة والشياطين وغير ذلك من أمور لا تمت إلى ما تعانيه البشرية اليوم من مآسٍ وهموم. أما الأمور الدنيوية، كما يذهب بعض المشككين فهى قليلة فى القرءآن، لا تتعدى قضايا الميراث والزواج والطلاق... حتى العقوبات الدنيوية فهى فى عرف هؤلاء قليلة فى القرءآن، لا تتجاوز عقوبات السرقة والجلد وشرب الخمر.

 

هذه الإدعاءات تبدو ضعيفة الحجة مردودة لعدة اسباب منها:

1 – إن مجموعة الأحكام الموجودة فى القرءآن الكريم والمتعلقة بالحياة الدنيا، كالزواج والطلاق والنفقة والميراث والزنى والسرقة، هى أحكام حددها اللــه سبحانه ولا يجوز فيها إجتهاد، ولا يجوز للمسلم تجاهلها وإبتداع أحكام إجتهادية جديدة بديلة عنها.

2 – إن العقوبات المؤجلة فى القرءآن عن الأخطاء والسيئات التى يقترفها الإنسان فى الحياة الدنيا لها مغزى وحكمةعظيمان، فالقرءآن فى وعده بالنعيم للذين يعملون الخير، ووعيده بالعقاب فى الآخرة لمن يعمل شرا:

 "  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *  وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ " الزلزلة 7،8 ، يحُدُّ من النزعات العدوانية الشريرة، ويدفع الناس إلى الأعمال الصالحة، الأمر الذى من شأنه أن يساعد على قيام مجتمع إنسانى فاضل لا وجود فيه لظالم أو وظلوم.

3 – إن فى القرءآن حدودا كلية وحدودا عامة، متعلقة بالحياة الدنيا، من شأنها أن تقرر ضوابط للمجتمع وتنظم الحياة بين الأفراد، فالقرءآن ينهى عن العدوان ويقول:

" ... وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " المائدة 87. كما ينهى عن السخرية والتنابز بالألقاب والتجسس فيقول سبحانه:

"  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَىٰ أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ۚ أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ *  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ." الحجرات 11-13

 

هذه النواهى الواردة فى الآيات الكريمة تصلح أن تكون ضوابط للعلاقة بين الأفراد وللعلاقة بين الدول. ولو التزمتها المجتمعات الإنسانية لساد الأمن والسلام.

ويذهب القرءآن بعيدا فى تحديد ماهية العلاقة المادية بين الأفراد والمجتمعات فيقول سبحانه:

"  وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ." البقرة  188

كما يهدد المستغلين بقوله : " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *  الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *  وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ." المطففين 1-3

وهكذا فالقرءآن، بحدوده التفصيلية وبحدوده الكلية العامة المتعلقة بالحياة الدنيا، هو الشريعة المثلى للمجتمع الإنسانى. هذه الشريعة التى لا يأتيها الباطل، فلا تقبل تحريفا أو تبديلا، وليس من حق أى أداة من أدوات الحكم المعاصرة أن تلغى قواعدها فى أحكامها وفق مصالحها وأهوائها.

 

وهنا يجب علينا أن نشير إلى مسألة جوهرية تتصل بالحقيقة القرءآنية كونها شريعة للمجتمع الإسلامى، وهى أن الإسلام دين الفطرة: "  فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ." الروم 30

هو دين كامل شامل لا يقتصر على الجوانب الروحية كما فى المسيحية مثلا، بل يتعدى إلى كل شأن من شئون الحياة، فيرسم علاقات ثلاث: علاقة ما بين الإنسان وربه، وعلاقة ما بين الإنسان ونفسه، وعلاقة ما بين الإنسان وإنسان آخر. فيكون قد أحاط بالإنسان فى أموره الروحية والإقتصادية والسياسية والإجتماعية. وهو بالتالى دين شامل يقتحم ويتحدى ويطرح الحلول ويتجاوز حد التوجيه الروحى وحد القلب والإيمان إلى تنظيم الشؤون الإجتماعية والسياسية والمنافع العملية.

 

ومن يفهم الإسلام على حقيقته يعرف أن الإسلام لا يضاهيه مبدأ ولا دين محرف ولا حركة فلسفية أو إجتماعية إصلاحية، لأنه يعطى حلولا جذرية للفطرة الإنسانية تستعصى على القوانين البشرية التى يصنفها الإنسان، وما ذلك إلا لأن الإسلام يطرح الكلى الشمولى بينما تطرح المبادئ الأخرى والديانات المحرفة الجزئي روحيا وماديا، وهذا ما يجعل الإسلام فى موضع التحدى الحضارى لكل ما هو تجزيئي يفصل الدين عن الحياة والدولة.

 

ولودُرس الإسلام بصورة صحيحة، وفهم كما ينبغى أن يُفهم، لتأكد أنه لا مجال لأن يُقارن بأى من المعتقدات المغايرة له، أو أن يُعار بعض ما فيها إليه، لأن الإسلام هو الذى يُغير ولا يتغير فى جميع القضايا التى تمس الإنسان أو تتعلق به.

 

إن شريعة المجتمع أى مجتمع، هى الدين أو العرف أو المصدران معا، وشريعة المجتمعات الإسلامية هى الدين الإسلامى متجسدا فى القرءآن الكريم مصدرا للتشريع، لأنه إستوعب العرف من خلال الإستدلالات القرءآنية المتعددة.

 

المسألة المهمة التى تستحق المعالجة

المسألة المهمة التى تستحق المعالجة هى مسألة المذاهب والفرق، والتى كان ظهورها بداية إحتكار المعرفة الدينية ونشوء طبقة ممن يسمون برجال الدين، إحتكروا وحدهم شرح المسائل الدينية والإفتاء فيها من دون سائر المسلمين. وقد دعمت هذه الطبقة مركزها وموقفها عن طريق الأحاديث المنسوبة إلى الرسول وغير المؤكدة فى مصدرها.

 وقد كان ظهور المذاهب الدينية، والفرق مثل السنة والشيعة والمعتزلة والخوارج والقدرية والأشاعرة وغيرها بداية التحزب والتعصب، والإبتعاد عن القرءآن وجوهر الدين، والتمسك بالقشور والجمود الفكرى. حيث الإنسان المسلم يتهرب من البحث والنقد والتفكير خوفا من أن يُتهم بالزندقة والضلال، بعد أن أصبحت المعرفة الدينية والإفتاء فى مختلف الإشكاليات حِكرا على زعماء المذاهب والفرق الإسلامية.

 

ومما لا شك فيه، أن ظهور المذاهب والفرق الإسلامية كان نتاجا من نتائج الفتنة الكبرى، حيث جاءت تلك المذاهب فى إطار التفاعلات السياسية آنذاك لتلبى أغراضا سياسية، حتى وإن كانت بصورة خفية غير منظورة لخدمة هذا الفريق أو ذاك، أو لتدعيم موقف خليفة أو آخر.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن تلك المذاهب والفرق جاءت من جانب آخر تقليدا وتأثرا فى نشوئها ومراحل تطورها بالمسيحية واليهودية. بل إن بعض اليهود قد إندسوا وسط المسلمين وساعدوا على قيام تلك المذاهب لتدمير الإسلام من الداخل بعد أن فشلوا قبل ذلك فى زرع بذور الشك إلى الإرتداد عن دينهم.

ومن المؤكد أن المذاهب والفرق هى بدع دخلت الإسلام بعد وفاة الرسول-عليه السلام- فليس فى القرءآن أى ذكر لما يسمى الآن بالشيعة أو المالكية أو الشافعية أو القدرية أو المعتزلة .... وما إلى ذلك. فقد أرسل اللـــه جبريل عليه السلام، إلى الرسول محمد ليبلغ الناس الرسالة "  وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ." سبأ  28

فالرسالة هى القرءآن الكريم قــط. وبعد إكتمال القرءآن توفى الرسول محمد وقد أتم مهمته، ولم يوص بمن يخلفه، ولا بمن يجب إتباعه خلافا للــه وللقرءآن لأن محمدا رسول، وليس للرسول خليفة.

ولقد حذر القرءآن الكريم، وهو لا يزال فى مراحل نزوله من مغبة ظهور أى شكل من أشكال المذهبية والحزبية، لأن ذلك من أعمال المشركين، حيث قال اللــه تعالى فى كتابه الكريم:

"  مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *  مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ . " الروم 31،32

وقال سبحانه وتعالى : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . " الأنعام 159

وبالرغم من هذا التحذير فقد ظهرت المذاهب والفرق بعد وفاة الرسول محمد، وحدوث الفتنة الكبرى لتمزق وحدة المسلمين وتفرقهم وتجعلهم شيعا يتنازعون ويتنابذون ويتحارون ويُكفِّر بعضهم بعضا. ولعل أوضح دليل على ذلك تفسير كل مذهب وكل فرقة للحديث المزعوم والمنسوب إلى الرسول والذى قال فيه:

" ستفترق أمتى ثلاثا وسبعين فرقة، كلها فى النار إلا واحدة. قيل ومن هم؟ قال: الذين هم على ما أنا عليه وأصحابى ." فقد أخذ أصحاب كل مذهب وفرقة يزعمون بأنهم الفرقة الناجية من النار، ومصير بقية المذاهب والفرق نار جهنم. وأتوا لذلك بما زعموه أنه الأدلة والبراهين ولم يتورعوا من إلتماس الأدلة فى بعض آيات القرءآن الكريم بتأويلها بالطريقة التى تخدم أغراضهم.

 

وذهب أصحاب تلك المذاهب والفرق أبعد من ذلك، بأن قاموا بوضع الأحاديث، ونسبوها إلى الرسول-عليه السلام- وذلك فى إطار صراعهم من أجل السيطرة على الجوانب السياسية والإقتصادية والروحية لدى المسلمين. وسعى كل واحد منهم إلى تدعيم موقفه بحديث من الأحاديث، ومن ذلك ما رُوى عنه أنه ذم القدرية وقال: " إنهم مجوس هذه الأمة "، وما رُوى عنه أنه ذم المرجئة مع القدرية وكذلك الخوارج وهكذا.

والغريب فى الأمر أن هذه الفرق والمذاهب كلها قد تكونت بعد وفاة الرسول، ولا يخجل أتباع هذه الفرق والمذاهب من الإفتراء والكذب على رسول اللــــه مستغلين جهل الناس وعجزهم عن تجميع أقوال النبى وتوثيقها بطريقة علمية بعيدة عن الشك.

ولكن الإسلام برئ من هذه المذاهب والفرق والطوائف، حيث يقول القرءآن الكريم:

" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ." آل عمران 105

ويقول أيضا: " فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ." المؤمنون 53

ويتوعد اللــه هؤلاء المتمذهبين المتحزبين، الذين يشيعون الفرقة بين المسلمين بعذاب أليم.

 

وقد يتمذهب البعض ويدخل فى طريقة من الطرق، ظنا منه أن صاحب المذهب أو صاحب الطريقة يملك عند اللـــه مكانة تسمح له بالتشفع يوم القيامة لمريديه والسائرين على مذهبه. وهذا بالطبع إعتقاد خاطئ لأن آيات القرءآن الكريم المعنية تتحدث بوضوح وبدون لبس. إن كل إنسان مسؤول عن نفسه يوم القيامة. وإن اللــه سيحاسبه مباشرة وليس عن طريق أى إنسان آخر مهما علا شأنه، يقول القرءآن الكريم :

" .... ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ." الإسراء  15

ويقول أيضا: " كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ." المدثر38 وفى موضع آخر يقول سبحانه:

" وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا ." الإسراء 13

ويبدو جليا أن هذه الآيات الكريمة تضع الإنسان يوم القيامة أمام ذاته، فيكافأ أو يُعاقب تبعا لم تحمله هذه الذات من فضائل أو خطايا من دون إعتبار لإيمانه بفرقة دنيوية، أو مناصرته لمذهب وإعتناقه لأفكاره.

 

وقد يعتقد البعض أن المذاهب والفرق والطرق قد أفادت الإسلام، لأن أئمتها فسروا وأوضحوا معانى كانت خافية فى القرءآن، ويسروا للناس فهم التعاليم الإسلامية وإشكالياتها من دون غموض أو لبس. وهذا القول مردود: لأن أئمةالمذاهب والطرق قد فعلوا العكس، حيث أنهم عقَّدوا البسيط وعسَّروا اليسير، وأصبح الإنسان المسلم فى حيرة من أمره. وبالرغم من أن القرءآن واحد، فإن هؤلاء الأئمة قد ألفوا عشرات الكتب حول مختلف القضايا الإسلامية لتوضيحها، حتى أن ما ألفوه بقى غامضا صعبا، لأنهم إبتعدوا عن الفطرة الإنسانية السليمة واعتمدوا على الصنعة اللغوية وعلم الكلام والمنطق وما إلى ذلك.

 

ولعل من المفارقة أن السواد الأعظم من المسلمين ينتمى إلى هذا المذهب إو ذاك، ثم يتحمس لمذهبه ويتعصب وهو لا يدرى الفروق بين هذه المذاهب. وقد إختلف أئمة المذاهب فى أمور دينية كثيرة لم يرد فى القرءآن إختلاف حولها: الصلاة والزكاة والحج والزواج والنفقة والميراث، وجعلوا فهمها أكثر صعوبة وتعقيدا، مع أن بعضها كان واضحا وميسرا فى القرءآن الكريم ولا يحتاج إلى كل تلك السنوات من الجهد لشرحه وتوضيحه.

ولعل من المفارقات، أنه بالرغم من هذه الإختلافات وهذه الشروح المتباينة للقضية الواحدة، فإن المسلمين بصورة عامة يطلقون على كلام أئمة المذاهب وأفكارهم المتضمنة فى كتبهم تعبير " الشريعة الإسلامية " ويعتبرونها جزءا لا يتجزأ من الدين الإسلامى، علما بأنها ليست من الدين فى شئ، بل هى مجرد إجتهادات فكرية من قِبلهم.

 

فالشريعة اِلإسلامية التى يطلقونها على إجتهادات ما يسمى بالأئمة وتفسيراتهم هى شريعة فقهية وضعية دنيوية، وبالرغم من أن ما جاء به أئمة المذاهب دليل على ما قدمه المسلمون من موسوعة فقهية تضاهى القوانين الرومانية وقوانين نابليون، إلا أنها ليست من الدين، ولا تعدو كونها قوانين وضعية. وما هو غير وضعى هو القرءآن الكريم... والمسلم الصحيح لا يعتبر غير القرءآن شريعة له، ولا يعرف غير القرءآن مصدرا لمعرفته لأمور دينه، ولا يلجأ إلى تلك المذاهب والفرق والطرق ومؤلفاتها لفهم قضايا الدين الإسلامى خاصة وأن القرءآن عربى مبين هذا فى الوقت الذى يحذر فيه من تفرق المسلمين إلى شيع وأحزاب.

 

وهكذا، فإن ظهور المذاهب والفرق الإسلامية لم يؤد إلى تمزق الأمة العربية والشعوب الإسلامية إلى جماعات وطوائف وأحزاب متناحرة على السلطة وعلى زعامة المسلمين فحسب، بل أدى أيضا غلى دخول المسلمين فى عصور الإنحطاط والتأخر، لأن الأجيال التى جاءت بعد تكوُّن تلك المذاهب والفرق قد تأثرت بتفسيرات ما يُعرف بالفقهاء فتجمدت المحاولات الإبداعية عند الكثير من الشباب وأهل الإبداع الفكرى والعلمى.

والأخطر من ذلك كله، أن هذه المذاهب والفرق أدت إلى ظهور طبقة من الذين يطلقون على أنفسهم رجال الدين ولا تسمح لأحد من خارجها بالإفتاء فى أموره وقضاياه. فكان ظهور المذاهب والفرق بداية إحتكار الدين والإساءة إليه. ولا خلاص من ذلك إلا بالعودة إلى الينبوع الأصلى – القرءآن الكريم – وتطهير أذهان المسلمين من تأويلات المذاهب والفرق الإسلامية المختلفة.

اجمالي القراءات 34202